بقلم: محمود عبد الرازق جمعة
كأنّ أردوغان يأبى أن يظهر في العرض المسرحيّ الكبير أي شخص سواه، فقد أبى إلا أن يأخذ جميع الأدوار التمثيلية، فأصبح هو الشرطِيّ والمحقِّق والقاضي، ثم أضاف إلى نفسه دورًا أخيرًا هو دور المتهَم!
نعم، تأمَّلوا كل ما يجري:
الشرطة تعتقل الناس باسم أردوغان ورغبته.
وكلاء النيابة يحقِّقون مع المعتقَلين حسب اتهامات أردوغان لهم.
القضاة يفسِّرون التحقيقات حسب رؤية أردوغان لها، ثم يُصدِرون الأحكام التي تُرضِي أردوغان.
أما الجديد في الأمر فهو أنه لا قول لمن يتم التحقيق معهم (المتهمون) إلا ما يقوله أردوغان أيضًا، أو ما يريدهم أن يقولوه، بعد أن “أعلن المجلس الأعلى للإذاعة والتليفزيون التركي أن الدائرة السابعة لمحكمة الصلح والجزاء في إزمير قررت حظر نشر إفادات المتهَمِين وشهادات شهود العيان السريين في إطار تحقيقات محاولة الانقلاب”، حسب موقع جريدة “الزمان” التركية، وهي الخطوة المنتظَر تعميمها على جميع دوائر المحاكم التركيَّة.
وقد جاء في البيان أن “الدائرة السابعة لمحكمة الصلح والجزاء في إزمير اتخذت قرار حظر النشر تلبية لطلب النيابة العامة في إزمير التي تجري تحقيقات محاولة الانقلاب”، وتضمَّن “حظر تداول تقارير وأخبار في هذا الصدد في جميع وسائل الإعلام المرئية والمقروءة ووسائل التواصل الاجتماعي بأي شكل من الأشكال، أو نشر إفادات المتهمين وشهادات شهود العيان… حتى انتهاء التحقيقات، بهدف مواصلة عمليات التحقيق في بيئة أفضل وفي سرية تامة والإبقاء على سرية هوية شهود العيان السريين الذين سيتمّ مطالبتهم بالإدلاء بشهاداتهم عقب هذه المرحلة ولمنع طمس الأدلة”.
نفس ما يفعله كل ديكتاتور، يحجب المعلومات عن الجميع، حتى لا يروا إلا ما يُريهم، أو ما يريدهم أن يروا.
طيب يا سيد أردوغان، هل كانت محاولة الانقلاب محاولة سرية حتى تكون التحقيقات سرية؟
هل طلبتَ من شعبك سرًّا أن يخرج لينصرك على “أعداء الديمقراطية” أم طلبت منهم ذلك على مرأًى من العالَم؟
هل اتهمتَ حركة “الخدمة” سرًّا بالتخطيط للانقلاب عليك، أم اتهمتَها في كل وسائل إعلامك وإعلام إخوانك وأمام العالَم أجمع؟
هل اتهمتَ الأستاذ محمد فتح الله كولن بهذه التهمة الشنيعة سرًّا أم اتهمتَه علنًا دون دليل كما تتهمه بكل مصيبة تصيب بلادك منذ ظهرَت فضائحك في السابع عشر من ديسمبر 2013؟
ما الذي حدث سرًّا لتجعل التحقيقات سرية؟
أليس شعبُك العظيم المحبّ للديمقراطية جديرًا بأن يطّلع على كل المعلومات الخاصة بمحاولة الانقلاب الذي كان هو سببًا رئيسيًّا في إفشاله؟ أم تريد أن يُقال إنك كنت تسوقه سَوْق الدوابِّ يوم طلبتَ منه الخروج من أجل الديمقراطية، ثم تُغمِضُ أعيُنَه عن الحقيقة؟
ماذا يحدث بالضبط؟
هل تخشى أن تتلاحم أقوال المتهَمين والشهود مع أقوال جنود الجيش المعتقَلين الذين قالوا إنهم لا علاقة لهم بالخدمة، أو إنهم أُمروا بالذهاب إلى أحد التدريبات على جسر البسفور في إسطنبول، ففوجئوا بكل ما يحدث؟
هل تخشى أن تتلاحم الأقوال مع أقوال ضباط الجيش التي تنفي أي اتهام توجِّهه إلى الخدمة؟
هل تخشى أن تظهر الحقيقة، فتطمسها بـ”حظر النشر”، لتصوغها كيفما تشاء وتنشرها كيفما تشاء؟
أعلم -وتعلم- أن أتباعك يصدِّقون كل ما تقول، ويصدِّقون على كل ما تفعل، فاليوم سيهتفون بحكمتك التي جعلتك تحظر النشر، وغدًا سيهتفون بعظمتك التي ستجعلك تسمح بالنشر، وبعدها سيهتفون ويهتفون بصواب كل ما تفعل، لأنهم يعرفون الحقَّ بالرجال، ولا يعرفون الرجال بالحق.
إخفِ ما شئتَ، واظهِرْ ما شئت، واقتل الحقائق كيفما شئت، وادفِنْ جثث قتلاك سرًّا… لكن اعلم أنه مهما مرّ الزمان، فإن رائحة الجثث ستفوح، والروائح لا تمنعها أبواب الزنازين، ولا تطمسها أضواء الإعلام، ولا تخفيها ظلمات الظلم.