بقلم: سنان يورولماز
لا تتوقف التساؤلات حول الأحداث الأخيرة في تركيا عند حد. والشارع العربي بوجه خاص، والعالمي بوجه عام، يحاولان تفسير ما يقع في هذا البلد، وعلى وجه الخصوص موقف الجمهور الصامت من المشاهد المؤلمة التي تتصاعد مرارتها وحدتها يوما بعد يوم. المحللون والخبراء يقدمون قراءاتهم وتحليلاتهم لمتابعيهم سعياً لتوضيح صورة تركيا الراهنة. ويبدو لي أن العرب هم أكثر الشعوب حيرة وارتباكاً أمام هذه الصورة المعقدة لتركيا الحافلة بعديدٍ من التناقضات، لاسيما إذا علمنا أن نظرتهم التقليدية إليها تغيرت جذرياً بعد وصول حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان إلى سدة الحكم وأحداث ما يسمى بـ”الربيع العربي“.
في السنوات الأخيرة أصبحت “تركيا النموذجية والرائدة” دولة معزولة وغير مرغوب فيها – للأسف – ، بعد فترة “ربيع” قصيرة عاشتها في السنوات الأولى من حكم العدالة والتنمية. إذ بعد تخلّي الحزب الحاكم عن نهجه الديمقراطي السلمي المنفتح السابق، بدأت أغلب الدول الإسلامية والغربية تتفق على فشل سياسته في الداخل والخارج. إلا أن التأييد الشعبي له ازداد بشكل غير مفهوم رغم كل المؤشرات السلبية في مجال حقوق الإنسان والصحافة والمجالات الأخرى. فما تفسير ذلك يا ترى؟ هل الشعب التركي لا يرى ما يراه غيره؟
لا شك في أن تركيا تمر الآن بمرحلة تحول عنيف لم يسبق لها مثيل في تاريخها. حيث إن جميع المعايير العالمية من سيادة القانون واستقلال القضاء والحريات والديمقراطية وغيرها عُلقت من قبل مَنْ كانوا يعانون من انعدامها أو كانوا يصفون أنفسهم بأنهم مستضعفون بسبب غياب هذه المعايير.
بالتأكيد هناك أبعاد مخلتفة لعبت دوراً في هذا التحوّل السلبي. لكن ما نريده اليوم ليس تفسير ما فات ولا التنبؤ بما هو قادم، إنما نريد أن نحلل موقف الشعب التركي الداعم للحكومة والصامت حيال تصرفاتها غير القانونية التي تمارسها السلطة الحاكمة على فئات عريضة من الشعب.
اعتقد أن هناك عواملَ عدة تؤثر سلباً في قدرة الشعب التركي على التفكير السليم. نذكر منها ما يلي:
- عدم وجود مصادر حرة أو محايدة أو معارضة للحكومة، حيث إنها أعادت تصميم كل وسائل الإعلام من خلال “سياسة الجزرة أو العصا”، وأغلقت من أبى منها بعد محاولة الانقلاب المشبوهة بحيث كمّمت كل الأفواه الناطقة بالحق، وغدت البلاد كلها لا يسمع فيها إلا صوت واحد صادر عن الأبواق الإعلامية الناطقة باسم الحكومة. فقد وصل مجموع المؤسسات الإعلامية المغلقة إلى 131 مؤسسة، منها: 3 وكالات أنباء، 16 قناة تليفزيونية، 23 إذاعة، 45 جريدة، 15 مجلة، 29 دار نشر. بالإضافة إلى ذلك هناك 81 صحفياً معتقلاً في سجون تركيا. وإذا أضفنا إلى ذلك الصحفيين الهاربين إلى خارج تركيا يصل الرقم إلى مئات الصحفيين.
- إن أكبر مشكلة لمجتمع ما أن يقوده ويحكمه زعماء يقدمون مصالحهم الشخصية على مصالح شعبهم، أو من يريدون الوصول إلى السلطة ليحولوها إلى أداة ومطية لتحقيق أهدافهم الشخصية أو الحزبية المشؤومة. حينها تكون الكلمة المسموعة للفكرة الميكافيلية القائلة بأن “الغاية تبرر الوسيلة” فقط، ولا يبقى في ظل هذه الفكرة أي فسحة للعقل والضمير. وإذا كان أفراد الشعب لا يفكرون إلا في مصالحهم الشخصية دون مبالاة بهموم وطنهم ورسالتهم، عندها يكون صراع المصالح أمراً محتوماً يؤدي بالبلاد من كوارثَ إلى أخرى دون انقطاع.
- رضا الناس عن السلبيات خوفاً أو طمعاً. كثيراً ما نرى من يقول: معك حق، إن الحكومة لا تتعامل كدولة قانون، ولكن ماذا يمكن أن أفعل.. فإن ابني ينتظر التعيين أو أبي يأخذ دعماً مادياً من الحكومة قدره كذا. فأخشى أن يقطع عنه. والآخر يقول: إنني إذا انتقدت الحكومة سيقولون إنك من الكيان الموازي وسيصادرون شركتي وممتلكاتي، وما إلى ذلك من التبريرات.
- مع أن وسائل التواصل الاجتماعي مجال مفتوح للجميع في العالم للوصول إلى المعلومات، إلا أن الوضع في تركيا مختلف بعض الشيء، حيث إن المواقع مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب قد تتعرض للحجب بسبب أصغر هجوم إرهابي أو أحداث تريد الحكومة إسدال الستار عليها لتخفيها. فضلاً عن أن هناك جيشاً إلكترونياً عملاقاً تحت مسمى (Ak-Trol) يعمل لصالح الحكومة ديدنه الوحيد هو الهجوم بأقذع الشتائم وأحط العبارات على الحسابات الخاصة أو المؤسسية الموجودة في الإعلام الاجتماعي لتشويه مصداقيتها وتضليل الحقائق التي تقدمها لمتابعيها عبر التعليقات التي يكتبها تحت أخبارها أو التغريدات التي ينشرها. وما يلفت النظر هو أن جنود هذا الجيش الإلكتروني لا يتكون أفراده من الأتراك فقط، بل هناك عناصر تتحدث وتكتب بلغات أخرى أيضًا، وعلى رأسها العربية والإنجليزية والفرنسية.
قد تطول هذه القائمة.. ولكن الممكن أن نلتمس العذر للشارع التركي من ناحيةٍ – لأسباب ذكرنا بعضها – ولا نعذره من ناحية أخرى، لأن التأكد والتحقق من صحة الأخبار والمعلومات المقدمة، وإخضاعها لمعايير “التمحيص والتعديل”، من أمهات الأصول الإسلامية التي لا يمكن التخلي والتنازل عنها بأية حال من الأحوال، استجابةً للأمر الإلهي الوارد في الآية الكريمة “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا” (الحجرات:6).
https://youtu.be/l-FOg0jgwMs