أنقرة (الزمان التركية) – لخصت الدكتورة فاطمة بوستان أونصال وهي من مؤسسي حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا وتم فصلها من عملها الأكاديمي بموجب مراسيم حالة الطوارئ في إطار ملاحقات أي معارض لسياسات أردوغان أسباب تراجع تركيا وحالة الخوف والانقسامات التي باتت تضرب المجتمع بقوة قائلة: “بات الجميع لا يستطيع النطق ولو بكلمة واحدة والتعبير عن الأخطاء العلنية انطلاقًا من زعم حماية الحزب والدفاع عنه مهما كان”.
وكشفت أويصال المتخصصة في العلوم السياسية في حوارها مع صحيفة” دوفار” التركية الستار عما يدور في كواليس حزب العدالة والتنمية، حيث أوضحت أن علاقتها بالحزب بدأت تتدهور بعد مشاركتها في التوقيع على وثيقة من أجل استمرار السلام الكردي وعدم العودة للاشتباكات المسلحة مع زملائها من الأكاديميين الآخرين، ووصل الأمر إلى فصلها من عملها الأكاديمي بموجب مراسيم حالة الطوارئ الأخيرة، مسلطة الضوء على ما وصلت إليه تركيا بعد 15 عامًا من حكم العدالة والتنمية.
كانت رغبة فاطمة بوستان أويصال في مكافحة النظام القائم في تركيا الذي يرفض مشاركة المرأة المحجبة في التعليم والعلم والحياة السياسية دفعتها، على حد قولها، إلى الانضمام لصفوف العدالة والتنمية، وكان لها دور بارز في مكافحة الوصاية العسكرية والقضائية التي كانت تعتبر طلبات المجتمع الديمقراطية خيانة وطنية.
تمكنت تركيا من التغلب على هذه الوصاية العسكرية والقضائية التي وقفت عقبة أمامها طيلة عقود طويلة، ورأت أويصال أن المتوقع والمطلوب بعد هذا النجاح في كسر الوصاية كان إقامة آلية رقابة وموازنة ذاتية للإدارة في البلاد، غير أن حزبهم فشل في تحقيق هذا الأمر.
التوقيع على وثيقة السلام الكردي للإشارة إلى بديل آخر عن الحرب
مارست فاطمة الضغوط على الحزب من أجل تكريس جهودها لتسوية قضية الحجاب في الجامعات والمؤسسات الحكومية، إلا أن الحزب أجل حلّ هذه القضية منتظرًا الظرف المناسب لكي يتمكن من تحويله إلى أداة تزيد شعبيته، ولم يحل قضية الحجاب إلا بعد أربع سنوات من إطلاق فاطمة هذه الدعوات والمبادرات الرامية إلى حل القضية.
وبعد حلّ هذه القضية ركزت فاطمة أويصال على قضية حرية التعبير عن الرأي والمعتقد لكل المواطنين بغضّ النظر عن هويتهم الإثنية أو آرائهم أو معتقداتهم التي يتبنونها، حيث تقول: “دعمت مبادرة زملائي الأكاديميين ووقعت على “وثيقة السلام” حتى لا أكون من “شركاء جريمة العودة إلى المواجهة المسلحة” بين القوات الأمنية والعسكرية وحزب العمال الكردستاني بعد ثلاث سنوات من المفاوضات التي جرت بين الطرفين”.
إلا أنها لم تحصل على النتائج التي كانت ترجوها، بل إن هذه الخطوة أثارت غضب حزب العدالة والتنمية وأدت إلى إشهار الأخير بطاقة حمراء في وجهها وطردها من الحزب.
وعن أسباب توقيعها على هذه الوثيقة ومرحلة فصلها من حزبها قبيل الانقلاب الفاشل بقولها: “إن الدول قد ترتكب أخطاء، والمجازر التي تعرض لها المواطنون الأكراد خلال ما يعرف بأحداث “درسيم” كانت خطأ أيضًا”.
وأضافت: “المطلوب منّا توفير أجواء حرة بحيث يتمكن المثقفون والأكاديميون وكل المواطنين من الإدلاء بآرائهم وتوجيه الانتقادات للممارسات الخاطئة، لماذا وقَّعتُ على وثيقة السلام؟ لأن المدن (الكردية) تنهار من حولنا، حتى إن جثمان أحد الضحايا بقي ملقى في الشارع لأيام طويلة، وكل من يحاول سحب الجثمان من الطريق يصاب في الاشتباكات المسلحة، لم أكن أؤيد سياسة التنظيمات الكردية المسلحة من حفر الأنفاق والسيطرة على المدن الجنوبية الشرقية، ولكنني وقعت على وثيقة السلام للأكاديميين؛ لأنها كانت بالنسبة لي بمثابة القول بأن هناك طرقًا أخرى ممكنة غير الحرب.
وتابعت:”صحيح أن الوثيقة كانت تتضمن عبارات عنيفة، وهي مفتوحة للقبول والرد، ولكنني لم أكن أتوقع أن يتم عقابي بهذه الطريقة بسبب توقيعي عليها”.
“أردت ألا تنقطع جهود إقامة السلام الكردي”
وأوضحت أويصال أنها وقَّعت على وثيقة السلام الكردي إيمانًا منها بإمكانية “حل الأزمة بشكلٍ سلمي عن طريق المفاوضات”، ولكي لا تنقطع المبادرات الرامية إلى إتمام محادثات “إمرالي” (جزيرة إمرالي حيث سجن زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان) العلنية والتوصل إلى حل مستديم للقضية بعد فشل مفاوضات أوسلو السرية.
وقالت: “بعد الإطاحة بطاولة مفاوضات السلام والعودة إلى المواجهات المسلحة، بدأ المواطنون يشعرون بخيبة أمل وانكسار تجاه الحكومة، فقد هدِّمت البيوت، واضطر نحو 400 ألف من الأهالي للهجرة، توقيعي على وثيقة السلام كان بمثابة قولي إنني أتفهم المعاناة التي عشتموها، إنهم من أفراد شعبنا”.
“مطاردات الساحرات” تطال حسابها في بنك آسيا
بعد فصل فاطمة أويصال من حزب العدالة والتنمية لتوقيعها على وثيقة السلام، تعرضت للفصل من عملها الأكاديمي في الجامعة، بسبب حساب بنكي لها بتاريخ 2009 في بنك آسيا، المستولى عليه من قبل صندوق حماية الودائع والمدخرات التابع للحكومة بشكلٍ غير قانوني بحجة قربه من حركة الخدمة، وذلك في أعقاب ما يسمى بـ”محاولة الانقلاب الفاشلة” في 15 يوليو (تموز) 2016.
علَّقت أويصال على هذا الإجراء الذي طال عشرات الآلاف من المواطنين قائلة “يجب إجراء التحقيقات في ضوء مبدأ “البراءة هي الأصل”، وبعد الاستماع إلى أقوال المتهمين والسماح لهم بالدفاع عن أنفسهم، وإذا ثبتت جريمتهم بعد ذلك تأتي العقوبة القضائية، لذلك فاعتقال 100 ألف شخصٍ في آنٍ واحدٍ انتهاك للقوانين”.
الولادة في “مستشفى” قريب للخدمة سبب للتحقيق
في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة، تحولت بعض الأمور من كونها عادية إلى سبب ودليل على ارتكاب جرمِ؛ من بينها فتح حساب ببنك آسيا أو الحصول على عضوية في اتحاد “أكتيف” التعليمي المعترف به من قبل وزارة التعليم والذي يدفع ضرائب لوزارة المالية.
تقول فاطمة أويصال: “ليس من الصعب تحديد جميع من شاركوا في الانقلاب، وبإمكانهم أن يلقوا القبض عليهم ويعاقبوهم، لكن لا يمكن معاقبة كل من له صلة قليلة أو كثيرة بهم، وكما قال الحقوقي الكبير سامي سلجوق، فإن الهدف لا بد أن يكون إزالة الجرائم وبيئتها وظروفها الممهدة لها وليس اجتثاث جذور المجرمين، والآن أصبحت الولادة في مستشفى “الشفاء” المقرب لحركة الخدمة أيضًا جريمة وسببًا للتحقيق، هذا الأسلوب يعد انتهاكا صارخا للقانون والدستور ولمعرفة ذلك لسنا في حاجة لدراسة القانون، فكل من له مسحة من العقل والإنصاف يعلم ذلك”.
وأكدت أويصال أنه كان من الضروري فتح أجهزة ومؤسسات الدولة لجميع المواطنين بعد تطهيرها من الفئات الداعمة للوصاية العسكرية والقضائية، لكن ذلك لم يحدث، بل كانت تلك الأجهزة والمؤسسات مفتوحة لـ”مجموعة معينة” ومحرمة على الأخرى، فهذه المجموعة هي التي بسطت سيطرتها عليها لتنطلق بعدها صراعات داخلية.
ضرورة التوافق على مبادئ أساسية في التعديلات الدستورية
وتطرقت فاطمة إلى الاستفتاء على التعديلات الدستورية المقرر طرحها للاستفتاء الشعبي خلال شهر أبريل المقبل، وقالت: “كان من اللازم تكوين مجموعتين معارضتين على الأقل والتصالح بينهما لإعداد التعديلات الدستورية الموضحة لقواعد اللعبة خلال الاستفتاء، إذا كانت قواعد اللعبة ستتغير، لابد أن تكون أطراف المعارضة الرئيسية ضمن هذه اللعبة؛ حتى لا تطغى ميول الانتقام أو وضع قواعد تتناسب مع المصالح الشخصية، وأن يتم أخذ رأي أوسع طبقة ممكنة أثناء وضع القواعد والقوانين حتى يتبعها ويحترمها الجميع”.
وعلَّقت أونصال على التعديلات الدستورية المنتظر طرحها للاستفتاء الشعبي خلال شهر أبريل القادم قائلة:” البرلمان الأمثل لجيلي كان البرلمان الأول في الفترة الأولى من حكم العدالة والتنمية، حيث كان يتمكن من مناقشة الموضوعات والقضايا التي تحتاج للحل في أجواء حرة، والاعتراض على أردوغان عند الضرورة، كما حدث في رفض المذكرة التي كانت تقترح فتح الأراضي للاستخدام الأمريكي في الحرب على العراق في 2003 والذي كان يدعمها أردوغان. إلا أن هذا لم يحدث في البرلمان الحالي، إذ مرروا التعديلات الدستورية من البرلمان دون توافق أو مصالحة مع أي طرف من الأطراف.
التعديلات الدستورية الجديدة تمنح الرئيس صلاحيات مطلقة من بينها حلّ البرلمان إذا أراد، وتعيين أعضاء المحكمة الدستورية ورؤساء الجامعات وغيرها.
وأضافت : “مع أن أردوغان يردد أنه يهدف لتشكيل نظام رئاسي مشابه لما في الولايات المتحدة، لكن عند النظر إلى النظام الرئاسي الأمريكي نكتشف أن الوزراء يحصل كل على حدة على موافقة من الكونجرس، كما أن هناك ضمانا للفصل بين السلطات عبر آلية الموازنة والرقابة الفاعلة بحيث لم يعين الرئيس السابق باراك أوباما قاضيًا واحداً في السنة الأخيرة من حكمه، حتى إن أوباما هو من قرر أن يقوم الرئيس الجديد بالتعيين، فالديمقراطية في الحقيقة هي نظام الكياسة والمجاملات، فضلًا عن أن اختيار مساعدي رئيس الجمهورية أيضًا من قبل الشعب أمر مهم.
يعمل النظام الرئاسي على جعل “الشخص” الذي يتمكن من الصعود إلى الصفوف الأمامية الأقوى، ويبدو أن حزب العدالة والتنمية يعلم ذلك، إلا أن النظام البرلماني هو الأنسب في دولة مثل تركيا تضم أعراقًا وتوجهات إيدولوجية ودينية مختلفة، حتى يجبر الجميع على المصالحة والتوافق. ولدينا تجربة في هذا المجال تعود إلى عام 1876 عقب إعلان المشروطية الأولى (القانون الأساسي)، وبينما المطلوب منا بعد تخطّينا مرحلة الوصايتين العسكرية والقضائية هو تأسيس وترسيخ آلية رقابة وموازنة ذاتية للإدارة في البلاد، لكننا اليوم نسعى لتغيير النظام المعمول به منذ نحو قرن والانتقال إلى نظام جديد.
كيف يمكننا أن ننتظر من “رجل أوحد” يحصل على كل هذا القدر من السلطات، دون رقيب أو حسيب، أن يستخدمها بشكلٍ متزن ومحدود، يجب ألا نمنحها إياه أبدًا، وصلت إلينا توصيفات وشروح للحكام المثاليين في الإسلام، ولكن ينبغي أن نناقش “شكل الحكم” في الإسلام أيضًا، لا بد من الالتزام بشرعية “لا” و”نعم” معًا، قرار حكومة العدالة والتنمية بالتوجه للاستفتاء الشعبي على التعديلات الدستورية مع استمرار حالة الطوارئ يثير المزيد من الجدل في الشارع، لا أعرف كيف سيكون الاستفتاء نزيهًا وعادلاً في غياب رقابة من الصحافة المستقلة، والمؤسسات الحكومية المستقلة، ومؤسسات المجتمع المدني.
وتابعت:” كنَّا في بدايات حكم العدالة والتنمية نستطيع التعبير عن آرائنا، أمَّا الآن فقد أصبحنا في حالة لا نستطيع فيها التفوه بأي كلمة خلاف ما يتبناه التيار الرئيسي للحزب، مثلاً كانت الأوساط المحافظة تتمكّن من مطالبة أردوغان بحل أزمة الحجاب في الأماكن العامة، مع أنه كان يسوف الأمر متذرعًا بأنه “لم يحن وقته بعدُ” حفاظًا على شعبيته آنذاك، ثم قام بتسوية مشكلة الحجاب لتلميع صورته ورفع شعبيته أمام الرأي العام المحافظ، وبعد محاولة انقلاب 15 يوليو أصاب الشارع التركي صدمة كبيرة، لكن فرض وجود علاقة بين أي معارضة أو اعتراض لنظام أردوغان والانقلاب ومن يقفون وراءه مشكلة كبيرة وأمر مرفوض، لقد حان وقت العودة إلى الحالة الطبيعية، يجب توفير أجواء حرة للجميع ليقولوا كلمتهم سواء كانت صحيحة أو خطأ.