إعداد: مني سليمان (*)
(الزمان التركية) – بث خبر عاجل مساءً يوم 19 من ديسمبر 2016 على عدد كبير من وسائل الإعلام العالمية، يفيد بإصابة السفير الروسي بأنقرة “أندريه غينادييفيتش كارلوف” في إطلاق نار بوسط العاصمة التركية وتم نقله إلى إحدى مستشفيات العاصمة ثم بعد أقل من ساعة تم تأكيد خبر وفاة “كارلوف” من قبل مصادر دبلوماسية روسية، حيث تعرض السفير لإطلاق نار خلال إلقائه كلمة في افتتاح معرض فني نُظّم بالتعاون بين السفارة الروسية وبلدية منطقة جانقايا في قاعة بالقرب من مقر البرلمان التركي بوسط أنقرة وهي منطقة شديدة التأمين!، وبالتزامن مع ذلك تعرضت السفارة الأمريكية بأنقرة لإطلاق نار وأعلنت كل من واشنطن وطهران إغلاق سفاراتهما وقنصلياتهما بأنقرة، والحادث بلاشك هو عمل إرهابي ترفضه كل الأديان وقد أدانه مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي والخارجية الأمريكية والروسية والمصرية ومشيخة الأزهر الشريف، ورغم التهديدات التي تلقتها السفارة الروسية والإيرانية في أنقرة عقب التظاهرات التي نظمت أمامهما خلال اليومين الماضيين احتجاجا على إخراج المسلحين والمقاتلين من حلب بسوريا، إلا أن الحادث مثل مفاجئة ثقيلة لأنقرة وموسكو. وقد سيطر التناقض والغموض على المشهد التركي خلال الساعات الأولي من الحادث ولم تقدم الحكومة التركية أو الرئيس “أردوغان” أى تصريحات مباشرة بعكس موسكو التي أصبحت مصدر للمعلومة حول ما يحدث بأنقرة، ورغم مرور ساعات قليلة على الحادث إلا أنه آثار مئات التساؤلات والفرضيات حول منفذه وهدفه وردود الفعل الروسية والتركية عليه وتداعياته الإقليمية والدولية، ويمكن إجمالها فيما يلي:
أولا: قراءة في الحدث:
أظهرت المشاهد التي تم تسجيلها لمدة أربع دقائق شاب عشريني طويل بلا لحية بملامح شرق أوسطية يهاجم السفير الروسي خلال إلقائه كلمته بإفتتاح المعرض ويطلق النار في الهواء ثم يصيب السفير بأكثر من رصاصتين ثم خطب الشاب لمدة دقيقتين بالعربية والتركية في كلمات تفيد بأن الاغتيال “انتقاما لما يحدث في حلب”، وأداء الشاب والطريقة التي نفذ بها الحادثة تفيد بأنه تلقي تدريب حديث لدى جماعة عقائدية إٍسلامية متشددة، فمن هو هذا الشاب؟ من المعلومات الأولية حول المنفذ كشفت أجهزة الأمن التركية أنه شاب تركي يدعي “مارت ألتينباش“ (22عاما) كان يعمل بالشرطة التركية وفصل منذ عامين ونصف ودخل ببطاقة أمن مزورة للمعرض، وخلال حديثه لم يعلن إنتمائه لأى جماعة إرهابية بيد أن طريقة تنفيذ الحادث تشير إلى إنتمائه لجماعة متشددة لها صلة بالأزمة السورية خاصة وأن الحادث ارتكب قبل ليلة واحدة من الإجتماع الثلاثي بين وزراء خارجية (موسكو، أنقرة، طهران) لبحث مستقبل الأزمة السورية بعد سيطرة الجيش السوري على حلب، ولذا فمن الصعب أن يكون العمل فردي فهناك جهة كبيرة ومؤثرة تقف ورائه حيث إن معرفة مكان تواجد السفير الروسي ليس أمرًا يسيرًا، وهناك المئات من الأسئلة التي كان يجب أن تجد الإجابة عند ” ألتينباش” إلا أن قتله من قبل الشرطة التركية حال دون ذلك. وقتله في حد ذاته هو دليل قصور أمني تركي واضح. وربما كان قتله مقصودًا لعدم معرفة المحرض على التنفيذ والجهة التي ينتمي لها، لاسيما بعد كشف عدد من الصحفيين الأتراك المعارضين بأن منفذ الإغتيال عمل من قبل في حراسة الرئيس التركي “أردوغان” شخصيًا.
ثانيا : دلالات الحادث:
وهنا يثار تساؤل آخر لماذا تم استهداف كارلوف”؟ إن استهدافه له العديد من الدلائل فهو ليس سفيرًا عاديًا في دولة مضيفة فكان يعرف عنه أنه من أكثر السفراء الأجانب بأنقرة تحركًا ومشاركة في كافة النشاطات والأعمال اليومية وكان “عراب” اتفاق المصالحة بين موسكو وأنقرة كما يوصف بأنه “مهندس” اتفاق إخراج المسلحين من حلب لذا فاستهدافه لم يكن مصادفة بل يقصد به إيصال رسالة لموسكو مفادها أن دعمها لنظام “الأسد” لن يمر مرور الكرام وهناك ثمن ستدفعه يتمثل في استهداف دبلوماسيها ومؤسساتها في الخارج ولن يكون حادث استهداف “كارلوف” هو الأخير بل إنه البداية في سلسلة عمليات إرهابية قادمة ضد موسكو. التي تعاملت مع الحادث وملابساته حتى الآن “بإحترافية” شديدة وحنكة سياسية كبيرة فلم تتهم أى طرف بشكل مسبق وطالبت بإرسال فريق تحقيق روسي يشارك في التحقيقات وسيضم 18 محقق كما تقدمت لمجلس الأمن الدولي بطلب لمناقشة الحادث في جلسة خاصة بالمجلس، وأعلن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” خلال مؤتمره الصحفي أن “اغتيال سفير بلاده في أنقرة عمل إرهابي وموسكو ستلاحق من قام بالعمل أيا كان منفذه أو الدول التي ينتمي إليها، وجدد موقفه خلال محادثته الهاتفية مع نظيره التركي “أردوغان”.
وقد سيطرت ردود الفعل الروسية على الموقف فور الإعلان عن الحادث واستمر غياب أي تصريح رسمي تركي لمدة أربع ساعات مما يدل على ضبابية في إدارة الموقف الأمني بتركيا، فرغم انتقال وزير الداخلية التركي “صوليو” لموقع الحادث فورًا إلا أنه لم يدل بأى تصريحات كما تضاربت الأنباء في أول ساعتين حيث أعلن أولا عن اعتقال المنفذ وبدأ تحقيق معه ثم أعلن عن مقتله في مكان الحادث بعد تبادل لإطلاق نار مع الشرطة التركية، وخلال المؤتمر الصحفي الذي عقده الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” أدان فيه الحادث بالطبع واتهم جماعة “فتح الله جولن” بتنفيذه! هكذا ببساطة دون أدلة أو تحقيقات كما فعل تماما من قبل فور وقوع أحداث ليلة 15 يوليو (التي أطلق عليها الانقلاب الفاشل). وبرغم نفي “جولن” لتلك الاتهامات ووصفها “بالمضحكة” وإدانته للحادث ورغم نفي واشنطن لضلوع “جولن” في الحادث، إلا أن “أردوغان” مازال يصر على اتهامه. فلماذا يدبر “جولن” أو يحرض على إغتيال السفير الروسي بأنقرة؟ وما هي مصلحته؟ أن الهدف من الإغتيال بالطبع هو الإضرار بالعلاقات التركية الروسية بعد إتمام المصالحة بينهما وبعد التقارب الواضح في مواقف البلدين من الأزمة السورية، فما هي علاقة “جولن” بذلك؟! أن موقف “جولن” كان واضحا تمامًا من الأزمة السورية حيث رفض التدخل التركي في الشأن الداخلي لأى دولة بل أن الانتقادات التي وجهها “جولن” لمسار السياسة الخارجية التركية منذ إندلاع ثورات الربيع العربي كانت سببًا في إستهدافه من قبل “أردوغان” ومؤسسات الحكم التركية فكيف به الآن يحرض على اغتيال السفير الروسي انتقاما للأحداث بحلب؟ ومن له مصلحة في تنفيذ الاغتيال؟ هذا هو السؤال الذي يجب على “أردوغان” البحث عن إجابته؟ بالرغم من وضوحه تماما .. فالتقارب التركي الروسي لاسيما في الأزمة السورية ليس من مصلحة إيران التي تعتبر نفسها الأولى بإدارة تلك الأزمة إقليميًا وترفض أى تدخل تركي فيها وكذلك التقارب الروسي التركي يضر بالمصالح الايرانية في منطقة الشرق الأوسط وبحر قزوين وهناك العديد من ملفات التنافس الثلاثي بين (طهران ، موسكو ، أنقرة) في كلا الإقليميين حيث إن تقارب ضلعين من مثلث التنافس هذا يضر بالضلع الثالث ولذا فالتقارب التركي الروسي يضر طهران في كل الأحوال. ويمكن تطبيق الأمر نفسه على الولايات المتحدة الأمريكية التي بدأت المسافات بينها وبين حليفها الأطلسي الشرق أوسطي تتباعد بفعل تقاربه مع موسكو وهذا الحليف هو بالطبع أنقرة التي أصبحت تغرد في السرب الروسي مما يضر بالمصالح الأمريكية في المنطقة، وبقي طرف إقليمي يسعى للانتقام من موسكو إثر الهزيمة التي ألحقتها به في حلب وهو الدول الخليجية الداعمة للجماعات المسلحة في سوريا ضد نظام “الأسد” مثل (السعودية وقطر) فربما تكون أحداهما المحرضة على اغتيال السفير الروسي، لأن الهدف الإضرار بمصالح روسيا وبالعلاقات الروسية التركية.
هذه هي الأطراف التي ربما تكون حرضت على اغتيال السفير الروسي وليس “جولن”، لأن اتهامه أمر لم يصدقه أى عاقل داخل أو خارج تركيا، وآثار السخرية ودليل واضح على الإفلاس السياسي “لأردوغان” والأحرى به أن يعترف بالقصور الأمني في حكومته ويبحث عن سبل معالجته. فوقوع الحادث بتلك الطريقة يدل على وجود قصور أمني شديد في المؤسسات الأمنية التركية فهي أصبحت مخترقة من قبل الجماعات الإرهابية المتطرفة “كداعش ، والنصرة” التي دأب “أردوغان” على تقديم الدعم الوجيستي لها منذ 5 سنوات لمساعدته في إسقاط نظام “الأسد” ذلك الهدف الذي تراجع عن تنفيذه الآن، كما أن تلك الأجهزة فقدت عدد كبير من القيادات الوسطى ذات الكفاءة العالية التي كانت أقرب للسيطرة على التحركات في الشارع التركي جراء تسريحها عقب محاولة الانقلاب الفاشلة حيث تم تسريح ما يقرب من ربع القيادات والعاملين بالمؤسسات الأمنية التركية في الأفرع المختلفة للجيش والشرطة مما أُثر سلبًا على حالة الأمن العام بالبلاد، فأصبحنا نشاهد تفجيرات شبه يومية في أكبر المدن التركية كالعاصمة أنقرة وأسطنبول وقصري، ولن يكون مجديًا اتهام “أردوغان” لجماعة “جولن” بتدبير كل تلك التفجيرات والأحداث لأنه أمر غير منطقي فكيف يعلن أنه قضي على نفوذ “جولن” في الأجهزة الأمنية هذا إذا كان لها نفوذ بالأساس ثم يتهمها في كل تفجير؟ والأحرى به إجراء إعادة هيكلة للمؤسسات الأمنية والعسكرية بالبلاد لمواجهة التهديدات الإرهابية المتصاعدة ضد تركيا. لاسيما وأن الأجهزة الأمنية التركية أنصب اهتمامها منذ الإنقلاب الفاشل على تصفية حركة “جولن” ومن يتبعها وأهملت واجبها الأساسي في تأمين البلاد والعباد.
ثالثا : تداعيات الحادث:
نفت المصادر الدبلوماسية الروسية قطع العلاقات مع أنقرة إثر حادث الإغتيال، بيد أن هذا لا ينفي وجود العديد من التداعيات السلبية للحادث على المستويات كافة، ومنها:
- على المستوى التركي ستتحمل أنقرة مسؤولية الحادث سياسيًا وأمنيًا، وعليها إعداد سيناريو لإقناع موسكو بأنها لم تقصر أمنيا في حماية سفيرها بأنقرة لاسيما وأن هذه ليست الحادثة الإرهابية الأولي في الأيام القليلة الماضية، كما أن المكان كان بالقرب من البرلمان التركي وهو مؤمن بشدة وحدوث الأغتيال دليل على قصور أمني كبير وواضح من قبل أنقرة. كما سيتوجب على تركيا تقديم بعض التنازلات السياسية لموسكو التي تعرضت لثالث استهداف ضد مصالحها في أشهر قليلة على أراض الأناضول، حيث تم من قبل استهداف طائرة روسية ومقتل طيار روسي واليوم إغتيال سفير، وهذه التنازلات ستتركز في الملف السوري والأيام القادمة ستكشفها. حيث إن حادثة الأغتيال لن تزيد موسكو إلا تصميما على محاربة الإرهاب في سوريا وسيكون لديها حجة قوية لأن الأغتيال عمل إرهابي وجه ضدها.
- لن تقتصر التداعيات السلبية على تركيا في المجالين السياسي والأمني بل ستمتد للمجال الإقتصادي، فهذا الحادث سيؤثر على موسم السياحة الشتوى بتركيا التي صنفت كجهة “غير آمنة”، وهي نتيجة طبيعية لدولة تشهد بصفة يومية تفجيرات وأعمال إرهابية، بدأت مع تفجيري اسطنبول يوم 11 من الشهر الحالي راح ضحيتهم 38 قتيل من رجال الشرطة، ثم تفجير حافلة عسكرية بقصري راح ضحيته 13 قتيل، ثم اغتيال السفير الروسي بأنقرة، هذا فضلا عن انتشار عناصر “داعش” والجماعات الإرهابية في محافظات جنوب تركيا “كغازي عنتاب”، الأمر الذي سيفاقم من أزمات الاقتصاد التركي الذي يعاني من تدني قيمة الليرة وتراجع معدلات الاستثمار والسياحة.
- جاء إغتيال السفير الروسي في أنقرة في أسبوع ملىء بالأعمال الإرهابية بدءًا بتفجيري أسطنبول مرورا بتفجير الكنيسة البطرسية بالقاهرة ثم تفجيرات عدن باليمن فأحداث الكرك بالأردن، ليس هذا فحسب بل أن ليلة 19 ديسمبر الحالي شهدت بالإضافة لحادث الأغتيال حادث دهس ببرلين بألمانيا راح ضحيته 11 قتيل وحادث إطلاق نار بزيورخ بسويسرا وكلاهما أعمال إرهابية، هذه الأحداث كلها تضعنا أمام نتيجة واحدة وهي .. أن تضييق الخناق على داعش والجماعات الارهابية في سوريا والعراق سيؤدي حتما لتصاعد العمليات الارهابية بالشرق الأوسط والدول الاوروبية وسيكون لتركيا النصيب الأكبر منها نظرًا لتواجد العناصر الإرهابية بعدد كبير في تركيا منذ سنوات ومعرفتهم بشعابها، وبناء عليه يتوجب على أنقرة الإسراع في هيكلة أجهزتها الأمنية ووقف الدعم المقدم لكافة الجماعات المسلحة المتورطة في الأزمة السورية، كما يجب على جميع دول المنطقة رفع درجة الحذر لاسيما في فترة الأعياد واحتفالات بداية العام الجديد.
* “فتح الله جولن” هو مفكر إسلامي تركي مقيم في الولايات المتحدة الامريكية منذ 1997 أعلنه “أردوغان” خصمًا له منذ عام 2013 وأتهمه بتدبير ما أطلق عليه محاولة انقلاب عسكري فاشلة في 15 يوليو 2016، ورغم نفيه وإدانته لكافة الاتهامات الموجهة له إلا أن أنقرة تستهدفه شخصيًا كما تستهدف كل المؤسسات الخيرية التعليمية والتربوية والإعلامية التي تستلهم فكره حيث تم إغلاقها ومصادرتها بعد الانقلاب مباشرة وتطالب واشنطن بتسليمها إياه لمحاكمته في أنقرة.
* باحثة دكتوراة في العلاقات الدولية
https://youtu.be/26rVudhi4YM