بقلم: حازم ناظم فاضل
ربى مهندس الخدمة طلابه على حب الاعتماد على النفس، وعدم الكسب بالدِّين، والركون إلى الطغاة والظالمين ومسايرتهم على ضلالهم، رغبة في عَرَضٍ من أعراض الدنيا. وغَرس في قلوبهم الشجاعة التي تجعلهم يجهرون بكلمة الحق في وجوه الطغاة لا يخافون لومة لائم، ويبلغون رسالات الله دون أن يخشوا أحداً سواه، ويبينون للناس ما أمرهم الله ببيانه بطريقة سليمة أمينة خالية من التحريف الكاذب، والتأويل الباطل.
وبدأ يؤكد في خطبه ومواعظه على أن الحاجة إلى بناء المدارس في هذا العصر، أمسُّ من بناء الجوامع، وذلك ليستنهض هممَ الناس إلى بناء المدارس والتعليم.
ثم حرص على بناء المدارس والكليات النموذجية التي توفر التعليم الحديث، مع الحرص على وضع البرامج التربوية المركزة المحددة الأهداف المتنوعة الوسائل، ويمكن الاستفادة من سهولة الحصول على التراخيص والعائد المادي منها لإقناع التجار الطيبين بالمساهمة الفاعلة فيها.
وفي بداية السبعينات حاول تطبيق خطته في التعليم والتربية على الطلاب الشباب، ثم في المدارس التي شجّع على إنشائها في معظم بلدان العالم.فانتقل بذلك من النظرية إلى التطبيق العملي.
وفي التسعينات من القرن المنصرم ( قامت هذه المدارس –الابتدائية والثانوية– التي شجع على إنشائها في تركيا بالاشتراك في المسابقات العلمية العالمية، حيث أثبتت جدارتها في مدة قصيرة بالنتائج الجيدة التي حصلت عليها، والنجاحات الرائعة التي سجلتها. كان هذا دليلاً على أن هذه المدارس أُرسيت على قواعد علمية رصينة. وبتعبير آخر كانت هنا إشارة إلى مدى نجاح مشروع التربية والتعليم الذي بدأه الأستاذ فتح الله كولن وَوَضَعَ على عاتقه مهمة إنجازه). (أنس أركنة، فتح الله كولن جذوره الفكرية واستشراقاته الحضارية)
وضمن إطار القوانين المرعية في تركيا تم إنشاء العديد من المدارس والأقسام الداخلية. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي انتشرت هذه المدارس في العالم بأسره.
وصارت المدارس تمنح شهادة الجودة العالية العالمية (شهادة الأيزو) التي تثبت رقي مستوى مدرسيها وإدارتها وعمليتها التربوية والتعليمية وغير ذلك من الشروط الصارمة التي يجب أن تتوفر في المدرسة النموذجية.
ولكن .. ارتفعت النشوة الخسيسة في نفوس البعض لما شهدت الخدمة تجربة المدارس التي استظل بها كثير من طلبة العلم منذ اربعة عقود، ثم قلب لها الطغاة ظَهْرَ المِجَنِّ حينما رأوا ان هذه المدارس أثمرت –بإذن الله – كوادر ذات علم وأثر في المجتمع.
فالمعلمون الذين يبنون أنفساً وعقولاً والذين تربوا في مدارس الخدمة كانوا نموذج الطهر والاستقامة والشرف، فهم مربو الأجيال، وعمار المدارس، المستحقون لأجر الجهاد. فهم يعيشون بعيداً عن أوطانهم وأهلهم في قَرِّ سِبريا إلى حَرِّ جنوب إفريقيا. تطحنهم–في بعض الاحيان– شدة الإملاق، وتعصرهم شدة الإرهاق، ولكنهم يبذلون جهدهم الجهيد في إنارة الأذهان، وتقويم النفوس، والتشبع بمبادئ الأخلاق. فهم يحمون أذهان التلاميذ الغضة مما يغيم في سمائها من الأباطيل. فهم جنود الخدمة. والاساس عندهم الاستغناء، وعدم مدّ أيديهم إلى الناس أو انتظار شيء منهم. فلم ينفذوا إرادتهم بالعصا، بل بمصباح يضيء للتلاميذ حقائق الحياة وسبل الحياة، والعلاقة بينهم وبين تلاميذهم علاقة صداقة مثمرة في مستقبل الحياة، وصلة روحية إنسانية بينهما، فلا يحجرون على شخصياتهم.
لأن المعلم الناجح من استطاع أن يتعرف نواحي تلاميذه ويعرف ما يلقى وما لا يلقى، وما يقال وما لا يقال، ويصدر منه ما يتفاعل وهذه النفوس، فيصدر من ذلك التفاعل عطف وحنان وحب، ورغبة في المعلم، ورغبة في علمه، ورغبة في ما يقول، وتأثر بما يشير إليه.
فالمعلم قدوة لتلاميذه، فإذا كان خالي الوفاض أو مكدَّر المورد في هذه الصفة، فكيف يستطيع أن يؤثر في تلاميذه، ويحقق أهدافه التعليمية والتربوية. ويؤهل تلميذه ليكون رجلاً يوماً ما، ويمرنه على أن يستقل بنفسه شيئاً فشيئاً.
هذا المعلم الذي يضع بيده الحجر الأول في تربية الأمة وتنشئة أجيالها القادمة، هذا الطاهر الغريب الذي اكشف الدرب ويسير فيه، يبني دنيا جديدة براقة بلا حَسَدٍ .. ولا غِلٍّ .. ولا دمْعٍ .. ولا خِصامٍ .. ولا حربٍ.. مستقبلٌ من نورٍ . تقف له بعضهم بالمرصاد فتحرمه من اداء وظيفته حق الأداء. كأن العفّة والطهارة في شريعة الطغاة والمنافقين جريمة، يستحقّ صاحبها الطرد والإبعاد والإخراج !!
وأنتم تعرفون من هو المعلم. هو الذي قال فيه أمير الشعراء أحمد شوقي:
قمْ للمعلمِ وفِّهِ التبجيلا … كاد المعلمُ أن يكونَ رسولا
فمعلم الخدمة مستقيم الخلق، كريم الطبع، عطوفاً على تلاميذه في غير ضعف، شديداً عليهم في غير عنف، مخلصاً في عمله إذا هَمَّ بإبداء واجب، ولا يبخل بجهد يرى فيه صلاح تلميذه مهما أرهقه هذا الجهد. ويؤمن بمبدأ القدرة عند الطالب ، أي كل طالب يستطيع ، يستطيع أن ينجح، يستطيع أن يبدع، يستطيع أن يفكر، ويرتقي بقدرته التفكيرية والإبداعي.
وبهذه الصفات الطيبة أو بهذه القدوة الحسنة أثر المعلم في تلميذه وهيأ الجو الصالح لنمو الصفات الطيبة في نفوس تلاميذهم.
قال (ونستون تشرشل) وزير المستعمرات البريطاني قبل أكثر من نصف قرن : ” إن العصر الحجري قد يعود مرة أخرى على أجنحة العلم البرّاقة ، وإن النعم المادية التي تغمر الإنسان الآن ربما تؤدي إلى القضاء عليه تماماً “.
وعندما جاءته مجموعة من مستشاريه وشكوا اليه من امر البلاد وما آلت اليه من فساد اداري وتفشٍ للرشوة ، سألهم (تشرشل): وهل وصلت الرشوة الى القضاء والتعليم؟! فلما اجابوه بالنفي قال: اذاً انكلترا ما زالت بخير!!
ويقال إن( شارل ديجول ) الزعيم الفرنسي المعروف ، سأل بعد أن رأى الدمار الذي حل بفرنسا بعد الحرب العالمية الثانية : ماذا عن التعليم والقضاء ؟ قالوا له بخير , قال : إذاً نبدأ البناء.
نعم .. لقد بدأ هؤلاء المعلمون الشباب بإصلاح شأن التربية ما قد أفسدته النظم البالية والتقاليد الرثة، وواجهوا المتاعب والتضحيات برحابة صدر وشوق. فلم يبالوا ما يملؤها إعلام الطغاة والبغاة بهتاناً وزوراً ، وإعلام المتحللين مجوناً وفجوراً.. !
فطوبى لهؤلاء المعلمين الذين قال بحقهم النبي محمد (صلى الله عليه وسلم):
(مُعَلِّمُ الخَيْرِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ) أخرجه الطبراني في الأوسط (6219)