(الزمان التركية) الباحث د. حسن خالد مصطفى محمود المفتي – جامعة صلاح الدين ـ أربيل- كردستان ـ العراق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نوّر قلوب المسلمين بنور معرفته، والصلاة والسلام على خير خلقه وسيد صفوته وشفيع أمته سيدنا محمد وعلى آله وصحبه المنورين بنور هدايته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
ان الله سبحانه و تعالى ومنذ أن شرّفنا بدين الإسلام ارتضاه لنا عقيدة ومنهجا وسلوكا، بقوله الكريم: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (سورة آل عمران: 19)، ومنّ علينا بالهداية والإيمان بقوله (جل جلاله): { بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} (سورة الحجرات: 17)، وببعث رسوله الكريم حيث قال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } (سورة آل عمران: 164).
فلا دين في الحقيقة إلا الإسلام وهو دين جميع الأنبياء والرُّسل كما قال تعالى: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (سورة آل عمران: 84، 85)، لكن قد تختلف الشرائع والأحكام الجزئية الفرعية من شريعة إلى أخرى، وذلك ابتلاء وامتحان ينبغي تجاوزه بالنجاح الباهر بالاستباق إلى الخيرات كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (سورة المائدة: 48)، وهذا الاختلاف في الجزئيات آية من آيات الله الباهرات كما الألسن والألوان والأمم والأقوام آيات من آيات الله للاتعاظ والاعتبار، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} (سورة الروم: 22)، وكذلك جعل الله البشرية شعوبا وقبائل آية دالة من أجل آيات الله في الكون للمعتبرين ، وإن الاعتبار بالتقوى، أي أن التقوى هو المعيار الوحيد للتفاضل ونيل مقام الأكرمية عند الله كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (سورة الحجرات: 13)، وقد جسد الرسول الأكرم (صلى الله تعالى عليه وسلم) تلك الحقيقة الوضاءة في حجة الوداع متوجها بوجهه الشريف نحو أصناف المسلمين بإعلانه الكريم لمبادئ حقوق الإنسان الأساسية قبل الإعلان العالمي للائحتهم بأكثر من ثلاثة عشر قرنا كما جاء في مسند الإمام أحمد (5/ 411) برقم(23536 ) وغيره بإسناد صحيح عن أبي نضرة (رضي الله عنه) أنه سمع خطبة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في وسط أيام التشريق فقال:” يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، إلا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى، أبلغت؟ قالوا: بلغ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثم قال:” أي يوم هذا” قالوا: يوم حرام، ثم قال: أي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام، قال ثم قال: أي بلد هذا؟ قالوا بلد حرام، قال: فإن الله قد حرّم بينكم دماءكم وأموالكم قال وأعراضكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، أبلغت؟ قالوا: بلغ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال ليبلغ الشاهد الغائب”.
ترى أين المسلمون اليوم من تلكم العهود الربانية والإرشادات النورانية والوصايا المحمدية المصطفوية، فقد تركنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، وعلى ذلك بقي أسلافنا من الخلفاء الراشدين والصحابة والآل والتابعين لهم بإحسان، إلى أن وصل الأمر إلى بروز ظاهرة التكفير والتفسيق والتضلين والاقتتال وتجاوز حدود الله بسفك الدماء وانتهاك الأعراض وأكل الأموال بالباطل بين المسلمين أنفسهم لمجرد الشبهات التي أمرنا الرسول الكريم(صلى الله عليه وسلم) بتركها ودرئها حتى في الحدود كما جاء في سنن ابن ماجه (2/ 850) برقم(2545) عن أبي هريرة (رضي الله عنه) مرفوعا: “ادفعوا الحد ما وجدتم له مدفعا “، وفي المصنف لابن أبي شيبة (22/493) بإسناده عن عمر بن الخطاب(رضي الله عنه) قال:” لئن أعطل الحدود بالشبهات أحب إلي من أن أقيمها بالشبهات ” وبإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه أن معاذا وعبد الله بن مسعود وعقبة بن عامر(رضي الله عنهم) قالوا: ” إذا اشتبه عليك الحد فادرأه “.
وقد حرمت الشريعة الإسلامية كل أنواع التظالم والتباعد والتحاسد والتنافر والتحاقر بين المسلمين خصوصا والإنسانية على وجه العموم، فقد جاء في صحيح مسلم (4/1986)برقم(2564) عن أبي هريرة(رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذُله، ولا يحقِره التقوى هاهنا» ويشير إلى صدره ثلاث مرات: «بحسب امرئ من الشرّ أن يحقر أخاه المسلم، كلُ المسلمِ على المسلم حرامٌ، دمُه، ومالُه، وعِرضه».
وهنا السؤال الموجّه خصوصا نحو الدُّعاة والمشايخ في العالم الإسلامي عموما وبلاد حاضرة الإسلام لمدة ستة قرون (تركيا) خصوصا: هل ما يحدث الآن في تركيا من انتهاكات لحقوق المسلمين وبالأخص الحملة العشوائية التي يشنها بعض المتنفّذين في السلطة ضد إخوانهم في الدين وبني جادتهم في الرحم والقومية تحت ذرائع شتى سياسية وفكرية وشبهات لا ترتقي إلى اليقين ولا إلى الظن الغالب، بل هي جملة شكوك وشبهات وقد أمرتنا الشريعة بأن ندرأ الحدود الشرعية بمجرد الشبهات كما مر بيانها، فكيف بالتعزيرات السياسية، وكيف يجوز شرعا انتهاك حرمات المسلمين بالقتل والسجن والطعن واللعن وقطع الأرزاق وسلب الأموال ومصادرة الممتلكات والحريات الفكرية والتعليمية لمجرد الشبهات والشايعات؟
فقد لاح في الأفق وللأسف الشديد بوادر نضوج نتائج مؤامرات أعداء الإسلام من اليهود والملاحدة التي حيكت ضد الإسلام والمسلمين في الغرف المظلمة ومنذ أكثر من قرن من الزمن وجعلت برتوكولات جاهزة للتطبيق عبر أدمغة السذج من الناس ممن (يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ) كما وصفهم القرآن الكريم، وبتعبير السنة السنية (الإمعة) الذين يتبعون أقوال الناس وأحكامهم جذافا من غير روية أو تأمل ولا تفكر أو تقصي أو مقارنة أو مشاورة فيحكمون على المقابل بمجرد سماع دعايات ظالمة عبر الأبواق المشبوهة هنا وهناك بجعلها بالقوة والنفوذ أو الدعاية والنقود شائعات نهى الله تعالى أن تشاع وتذاع بقوله في سورة النور الآية (19): {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}، وذلك اتباع واضح لخطوات الشيطان اللعين وقد قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } (سورة البقرة: 169). وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (سورة النور: 21، 22). فكيف إذا كان المقابل مثلك في الدين والرحم! إذ لا بد من التقصي في حقيقة الاتهامات في المحاكم المحايدة ثم الاجراءات والعقوبات كل حسب نوع تورطه فب الانقلاب الفاشل، أما تقديم الاجراءات على كلمة القضاء فهو أمر خطير لسمعة حكومة تركيا الإسلامية والقضاء التركي أولا ولسمعة المسلمين ثانيا.
مع العلم أن جميع الدول والجماعات الإسلامية بمن فيهم الداعية فتح الله كولن وجماعته والصحف القريبة منه قد أدانوا العمل الانقلابي الفاشل والمدان منذ الساعات الأولى وهذه الإدانات كانت لازمة، لأن تغيير الحكام حتى لو كانوا ظالمين جبارين لا يجوز شرعا بالقوة والسيف هذا هو مذهب جماهير الفقهاء من المذاهب الأربعة، لكن الانتقاد في تفاصيل الاجراءات الوقائية التي اتخذتها الحكومة وإلى الآن من غلق الجامعات والمدارس والمستشفيات وفصل الآلاف من وظائفهم المدنية والعسكرية والقضائية والتربوية قبل أن يفصل القضاء كلمته فيهم.
ولعل المشكلة تكمن في معالجة الأمور بصورة عاطفية أو سياسية مع أن الحق اللازم اتباعة هو معالجة المشاكل بصورة موضوعية وعن طريق الحوار البناء الهادئ الهادف بين أطراف الصراع وعلى الطاولة المستديرة، لا عن طريق الإعلام والخطب والمنابر والمواقع الالكترونية، ومما ينبغي معرفته والتذكير به ضرورة تبني العلماء لموقف الحياد كي يستطيعوا حل المشاكل والوقوف بين الأطراف وقفة حكام محايدين هدفهم إبراز الحق من أي طرف كان، أما تزحلقهم لهذا الطرف أو ذاك قبل جلاء الحقائق الدامغة وبطرقها الشرعية هذا يعني تحملهم وزر الأفعال أو ردتها.
فلا يجوز شرعا التأثر بالدعايات والشائعات، والقرآن الكريم نبّهنا إلى عدم الركون إلى ما يقال أو يشاع إلا بعد التقصي الحقيقي والتثبت من الأمر كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (سورة الحجرات: 6). أليس الرسول الأكرم (صلى الله عليه وسلم) حذّر من القيل والقال وكثرة السؤال، وجعل مجرد محاكاة أقوال الناس وترديد دعاياتهم من جملة الكذب المنهي عنه كما جاء في صحيح مسلم (1/8)برقم(7) عن حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ(رضي الله عنه) مرفوعا: «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ ». فأين الورع والتقوى؟
ولا يجوز للحكومة العادلة أن تعتقل كل من لم يفّكر كما تفكر هي، وليس كل من أمر أو نهى جاء الإذعان له، وليس في الشريعة الإسلامية جواز طاعة السلطان الجائر مطلقا؟ قال تعالى {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} (سورة هود: 113)، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي (4/ 209) برقم(1707) وغيره عن ابن عمر(رضي الله عنهما) مرفوعا:” السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ وكرهَ ما لم يؤمَر بمعصيةٍ، فإن أُمر بمعصيةٍ فلا سمعَ عليه ولا طاعة”. وجاء في المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري (4/ 458) برقم(7966) بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن أَسْمَاءَ بِنت عُمَيْسٍ الْخَثْعَمِيَّةِ (رضي الله عنها) قالَت: سمعتُ رَسُولَ اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يقولُ: ” بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ تَخَيَّلَ واخْتَالَ وَنَسِيَ الْكَبِيرَ الْمُتَعَالِ ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ سَهَا وَلَهَا وَنَسِيَ الْمَبْدَأَ وَالْمُنْتَهَى ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ بَغَى وَعَتَا وَنَسِيَ الْمَقَابِرَ وَالْبِلَا ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتِلُ الدُّنْيَا بِالدِّينِ ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَخْتِلُ الدِّينَ بِالشُّبُهَاتِ ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ يَصُدُّهُ الرُّعْبُ عَنِ الْحَقِّ ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدٌ طَمَعٌ يَقُودُهُ ، بِئْسَ الْعَبْدُ عَبْدُ هَوًى يُضِلُّهُ”.
ألم يأمر الله تعالى بقول الحق والسديد وعدم أذية الناس عامتهم وخاصتهم، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } (سورة الأحزاب: 69 – 71).
فموقف العلماء والدعاة أيها الأخوة ينبغي أن يكون موقف إصلاح وتقريب بين وجهات النظر المختلفة لا موقف إفساد وتبعيد لها، موقف رحمة وهداية لا موقف زحمة وإضلال، موقف حسن الظن لا سوء الظن، موقف الحياد لا موقف الانحياز، وأن تكون فتاواهم بالحق وعلى الحق وفي الحق بالإضافة إلى توفر أهلية الفتوى، قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (سورة الإسراء: 36) . وقال (عليه الصلاة والسلام) كما جاء في سنن الدارمي (1/ 180) برقم(159) بإسناده: « أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ ».
أيها الساسة والدعاة فإن الله تعالى أوجب على الأمة قاطبة الدخول في السلم وحذرها من اتباع خطوات الشيطان ومؤامراته بقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ } (سورة البقرة: 208 – 210)، ويجب الأخذ بوصايا الرسول(صلى الله عليه وسلم) تجاه إخوانهم المسلمين في شتى بقاع المعمورة، وعدم الركون إلى وجهة نظر من يخالفونهم في التفكير أو حتى في المنهج الدعوي، فالطرق إلى الله تعالى كما قال أبو المواهب الشعراني بعدد أنفاس الخلائق، وقد قال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} سورة المزمل: 19) وإن الرسول (صلى الله عليه وسلم) هو نبي الرحمة للعالمين وهو الرحمة المهداة للبشرية وبالمؤمنين رؤوف رحيم، فكذلك ينبغي أن يكون وراثه من العلماء والمشائخ، فإن العلماء ورثة الأنبياء كما جاء في الحديث الصحيح عند الترمذي في جامعه(4/ 414)برقم(2682)وغيره من حديث أبي الدرداء (رضي الله عنه).
ونصيحتنا لبعض الإخوة من طلاب النور الأفاضل ممن لمست في بعضهم شدة تعصبه لطرف على حساب طرف آخر، أقول إنكم بمجرّد دخولكم الفكري السياسي في الصراع الدائر تركتم جادة الصواب وتخليتم عن منهج الأستاذ الألمعي بديع الزمان الشيخ سعيد الكُردي النورسي (رحمه الله) كيف لا وإن منهجه عدم تسييس الدين وأن السياسة في ترك السياسة، وهو من تعوذ من الله تعالى من سين السياسة؟ وهل رأيتم في رسائل النور من أولها إلى آخرها نصا أو إشارة أو اقتضاء تفيد الركون إلى الحكومات على حساب الرعية؟ أو تفيد جواز سجن الآلاف من المسلمين وهتك حرماتهم ومصادرة أموالهم لمجرد الشبهات؟ إن الدعوة النورية دعوة خالصة لله تُجمع ولا تفرِّق، وتهدي ولا تضل، وطلاب النور يجب أن يكونوا دعاة على أبواب الجنة لا على أبواب النار. لا سيما في هذه الفتنة العاصفة التي هبّت وأوقدت من قبل أعداء الدين والتي لا يعرف عاقبتها لو تمادت واستمرت إلا الله تعالى ، فإن نار الفتنة لو اشتعلت لا سامح الله لأكلت الأخضر قبل اليابس قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (سورة الأنفال: 25). وعلى الأقل الأجدر لهم الوقوف موقف المصالح والحكم الأمين لا موقف المناصر لجهة على حساب جهة أخرى، فإن التأريخ لا يرحم أحدا، فكلهم في النهاية إخوة في الدين والقومية والجغرافيا، ولا مناص في الأخير إلا التصالح والتعانق والتكاتف من أجل قضايا أمة الإسلام المصيرية..
أيها الإخوة الدعاة والمشايخ والساسة والقادة فإننا في العراق قد ذقنا ونذوق إلى الآن مرارة الفتنة وويلاتها، فرب كلمة قتلت صاحبها، ورب فتوى سياسية أشعلت شرها وشرارتها نار الاقتتال بين المسلمين في تركيا الحبيبة، فإياكم وإياكم الركون إلي الفتنة شيئا فشيئا، فإن الفتنة عادة تبدأ بالغيبة والطعن واللعن ثم التضليل والتبديع والتكفير ثم الفوضى والاقتتال وسفك الدماء البريئة وهتك الحرمات وهدم المقدسات ثم زوال الحضارات عن بكرة أبيها، كما الآن في العراق والشام واليمن وأفغانستان وغيرها من دول العالم الإسلامي وعواصم حضارتها، وأنتم ترون ذلك بأم أعينكم وتسمعون أخبار المسلمين المريرة بآذانكم فالاعتبار الاعتبار؟
أيها الإخوة: فإن نار الفتنة في تركيا الآن قد تجاوزت التشهير والطعن واللعن والسب والتضليل وبلغت مرحلة خطيرة جدا ، فالحذر الحذر من اتباع خطوات الشيطان فإنه العدو المضل المبين الآمر بالفحشاء والمنكر والبغي، فإن نار فتنة الاقتتال ـ لا سمح الله ـ لا تتطلب إلا شرارة واحدة من أعداء الدين من اليهود الصهاينة أو المنافقين المتربصين من وكلائهم ممن يفتون بغير علم ولا تقوى الفتاوى الطائفية البغيضة أو السياسية المقيتة . فو الله أنتم المسؤولون بدرجة الأساس يوم القيامة ، فإصلاح الرعية بإصلاح الراعية من جهة والعلماء من جهة أخرى، فصنفا الحكام والعلماء إذا صلحا صلحت العباد والبلاد دونما شك كما جاء في جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر القرطبي (1/ 641)برقم (1108) بإسناده عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رضي اللَّهُ عَنْهما) مرفوعا: ” صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي إِذَا صَلُحَا صَلُحَ النَّاسُ: الْأُمَرَاءُ وَالْفُقَهَاءُ “.
وصلاح الحُكّام يكون باتخاذ منهج العدل والمساواة تجاه الرعايا في الحقوق والواجبات وعدم التعدي على حرمات الله وعدم التجاوز على حقوق العباد، وصلاح العلماء بالعمل وفق المنهج الرباني القرآني الداعي إلى الأخوة والإصلاح وعدم التشهير التهكم والاستهزاء والتنابذ بالألقاب كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (سورة الحجرات: 10، 11)، وإلى الوحدة كما قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (سورة الأنفال: 46) وإلى التعارف كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (سورة الحجرات: 13) وإلى التعاون على البر والتقوى كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (سورة المائدة: 2)، والمبني على مبدأ تكريم الناس واحترام الآخرين كما نبها بقوله(جل سلطانه): {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (سورة الإسراء: 70).
وكذلك صلاحهم بإتّباع سنة سيد المرسلين وإمام المتقين(صلى الله عليه وسلم) تجاه الناس عموما وإخوانهم المسلمين على وجه التحديد في وصايا ونصوص صريحة لا تحتمل التأويل مطلقا، ومنها ما جاء في صحيح ابن حبان (2/ 264) برقم(510) وغيره بأسانيد صحيحة عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (رضي الله عنه) مرفوعا: “الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَاجَرَ السُّوءَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عبد لا يأمن جاره بوائقه”. وجاء في المستدرك على الصحيحين للحاكم (1/ 58) برقم(31) بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود(رضي الله عنهما)، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «المؤمن ليس بالطعان، ولا الفاحش، ولا البذيء» .
والأدهى والأغرب الإذعان للإملاءات خوفا من البطش أو طمعا في الدنيا وإصدار فتوى سياسية وجعلها دينية تجاه الداعية محمد فتح الله وجماعته وإعلام الناس أنهم ضّالون إرهابيون خارجون عن الملة والعياذ بالله ، كل ذلك لمجرد شكوك وظنون لم تترق إلى اليقين، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} (سورة الحجرات: 12). ولنصغ إلى الرسول الأكرم والشافع الأعظم (صلى الله عليه وسلم) حيث جاء في صحيح مسلم (4/ 1985) برقم(2563) عن أبي هريرة(رضي الله عنه)، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، قال: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسّسوا، ولا تجسّسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا».
فيا للهِ اللعجب، إنها الدنيا الدنية ومتطلباتها الفانية واتباع خطوات الشيطان اللعين، وتنفيذ مؤامرات الصهيونية العالمية والماسونية الحاقدين لتمزيق وحدة الأمة الإسلامية وتفكيكها فكرا وعقيدة وقلبا بأيادي المسلمين أنفسهم بعد أن نجحوا وللأسف في تفكيك أراضيها وشعوبها وحضاراتها هدم خلافتها بإسطنبول بنفس الأيادي الغادرة حيث زرعوا فتنة الوهابية في الحجاز والقاديانية والبهائية والبابوية والعلوية وغيرها في بلاد الخلافة شرقا وغربا والكمالية في قلبها وروّجوا للإباحية والوجودية والعلمانية اللادينية والعصبية القومية والعنصرية البغيضة والتحزّبية المقيتة في مهدها.. لكن الظاهر أن الأحفاد لم يعتبروا من الآباء والأجداد،!
فيا سبحان الله ما أشبه الليلة بالبارحة، وكأن التاريخ يعيد نفسه، فالشر والإلحاد والجهل والفتن تظهر من جديد ، فإني أتذكر جيدا حينما تجمع بعض العلماء والدعاة حول صدام حسين وأفتوا له بأن الأكراد مرتدّون عن الإسلام فينبغي إبادتهم، {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} (سورة إبراهيم: 46، 47)، فانتقم الله منهم شر الانتقام وأبادهم وأزال سطوتهم وفكك شملهم وأجاءهم بالكفار الأمريكيين مرة ثم بالطائفيين البائسين مرة وأخيرا بالدواعش المارقين، فقتل من قتل وهجر من هجرـ ولما توجه المهجَّرين العرب نحو كردستان في أعقاب الهجمتين الوحشيتين الحشدية الشيعية والداعشية السلفية تناسى إخوانهم الكرد ما لاقوه وظلم في أربعين سنة من الحكم البعثيين فآووهم ونصروهم وخدموهم واحتضنوا أكثر من مليونين منهم في إقليم لا تتجاوز نسبة السكان الكرد فيه خمسة ملايين، ولا يلزم انطباق الصّور والنسب بالضرورة، لكن الخوف واقع والتخوف على الساحة الإسلامية أمر جدي، والاعتبار لازم.
ينبغي أن يكون الجميع، خصوصا العاملون على الساحة التركية من الجماعات الإسلامية المتصارعة لأسباب قد تكون في معظمها دنيوية نابعة من الحسد والحقد وحب الظهور والإصابة بجنون العظمة وغيرها من الرذائل التي ينبغي التخلي عنها، إذ الكل يدعي محبة التصوف ورجالاته أمثال مولانا جلال الدين ومولانا خالد ذي الجناحين وبديع الزمان النورسي، وهؤلاء برآء عن تلكم الصفات والتصرفات، فإن التصوف هو التخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل، وهو كذلك الخلق الرفيع، فكل من زاد عليك خلقا زاد عليك تصوفـا، فإن هذه التصرفات من علم التصوف ودارج السالكين، واجتنبوا أيها الإخوة الركون إلى الحكام وإصدار الفتاوى السياسية لأن نتيجتها وخيمة على الجميع ولا تجني إلا الخسران .
فينبغي توحيد الكلمة والصفوف، فإنه بالوحدة تتحقق الآمال، وينبغي كذلك إبداء الرحمة والصبر والتواضع والتفاني من الجميع ، فقد جاء في صحيح البخاري (1/29) برقم(13) عن أَنَسٍ (رضى الله عنه) عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم.) قال: « لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ »
إن العتاب ليس موجّها بالكلية نحو الحكومة فهي تعمل السياسة والسياسة تخطيط للتسلّط وكيفية البقاء في الحكم والسلطة بأية وسيلة، إذ الهدف فيها نيل الحكم والسلطان سواء بوسائل شرعية أم غير شرعية، إذ عند الساسة عموما ـ إلا من رحم الله ـ فإن الغاية تبرر الوسيلة، لكن العتاب موجّه نحو أصحاب العمائم والأئمة والخطباء كيف لهم أن يتنصّحوا لمجرد الإملاءات من غير روية وتمعن وعندهم ميزان الشريعة وميزان العقل؟! ألا يحق للآخرين أن يتفكروا بغير ما يتفكر به الساسة ؟ أليس من حق كل مسلم أن يخدم دينه بما يصلح للعباد والبلاد؟ فهلا تبصرتم ما تقوم به مدارس الخدمة في شتى بقاع العالم المتحضر من فتح لمدارس تنويرية وجامعات عالية الجودة ومستشفيات وجمعيات خيرية وتعاونية، وما تقدمه من خدمات جليلة للإسلام والمسلمين والإنسانية جمعاء، فإن تلكم الخدمات الجبارة أصبحت مفخرة للإنسانية قبل المسلمين وللمسلمين الكرد والعرب وشعوب أفريقيا وآسيا وأوروبا وأمريكا قبل إخوانهم الأتراك، فكان الأجدر بكم أن تفتخروا بما يقدمه إخوانكم الأتراك الغرباء الأوفياء في أقاصي العالم الذين سلكوا طريق العلم والعمل والمعرفة فسهل الله لهم طريق الجنة كما ثبت في الصحيح، لا أن تمهّدوا لهم حياكة المؤامرات أو تشوهوا سمعتهم وتعطلوا بفتاواكم أعمالهم الجبارة التي لم تكن لتثمر لولا توفيق الله تعالى لهم وعنايته اللامتناهية بهم.. فهم بشر كما أنتم غير معصومين، وقد أبى الله ألا أن يتفرد بالكمال، فالنقد البناء لازم وخدمة شريفة لكن الانتقاد الهدام إجحاف وخدمة شنيعة، فانظروا إلى الأطراف المتصارعة بعين الإنصاف لا بعين الحساد، فلقد صدق من قال:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة … كما أن عين السخط تبدي المساويا
نعم لا ندعي العصمة لغير الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام)، لكن ينبغي التورع وعدم الإضرار بالناس، فـ”لا ضرر ولا ضرار”كما ثبت في الحديث المرفوع، والحفاظ على مقاصد الشريعة وضرورياتها الخمسة لازم والتي هي (حفظ الدين فالنفس والعقل فالعرض فالمال) كما رتبها حجة الإسلام الغزالي في المستصفى (1/ 417) حيث قال: ” ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمّن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة”. وبما أن العصمة تخص الأنبياء والإجماع والملائكة ينبغي تعاون المسلمين فيما بينهم خصوصا الدعاة والعلماء كي تستكمل البشرية فضائلها على أيدي وراث النبوة، وتسترجع الأمة الإسلامية مدارج مجدها وسرادق عزّتها، وإذا رأينا من هنا أوهناك نقصا أو خطيئة فينبغي المبادرة إما بسترها أو بمعالجتها على أساس العدل المحبة والتكريم والإحسان وإيتاء ذي القربى ، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (سورة النساء: 58) وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (سورة النحل: 90)، ثبت في مسند أحمد (28/ 158)برقم(16959) بإسناد صحيح عن مسلمة بن مخلد، أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ” من ستر مسلما في الدنيا، ستره الله عز وجل في الدنيا والآخرة، ومن نجى مكروبا فك الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن كان في حاجة أخيه كان الله عز وجل في حاجته “: وجاء في الأدب المفرد بالتعليقات للبخاري (ص: 405)برقم(758) بإسناده عن أَبِي الْهَيْثَمِ قال: جاءَ قَوْمٌ إِلَى عُقْبَةَ بنِ عامر فقالوا: إِنَّ لَنَا جِيرَانًا يَشْرَبُونَ وَيَفْعَلُونَ أَفَنَرْفَعُهُمْ إِلَى الْإِمَامِ قَالَ: لَا سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقولُ: “مَنْ رَأَى مِنْ مُسْلِمٍ عَوْرَةً فَسَتَرَهَا كان كمن أحيا موؤدة من قبرها”، وثبت أيضا في الصحيح ، ثم إن الدعوة الحقيقية ينبغي أن تكون بالحكمة والموعظة الحسنة لا بالعنف والشدة والتحاسد والتباغض قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } (سورة النحل: 125)،
وهناك من يتهم مدارس الخدمة بالإرهاب فواعجبا كيف يتهم أناس يحاولون جاهدين إقامة صرح الحضارة الإسلامية والإنسانية بالإرهاب، رجال يفتحون المدارس والجامعات والجوامع والمستشفيات ويخدمون الناس من غير تفريق، يعمّرون ولا يخرّبون، فتعالوا إلى العراق وانظروا ما فعل إرهابيو الدواعش بأرض العراق وعرضها وكرامة الإنسانية وحضارتها، فإنهم لم يكتفوا بقتل الأبرياء وهتك أعراضهم وقتل العلماء والأسرى من مسلمي البيشمركة الأبطال بل فجّروا منارات المساجد وصرح المدارس وخانقاهات الصوفية وأضرحة الصالحين، فهل سمعتم أن تلك الحركة التي تتهم بالإرهاب فعل شئيا ولو قريبا من هذه الفواحش حتى تتهمونهم بالإرهاب، ومن يؤمن بمجرد الدعاوى والاتهامات، فإن الدنيا اليوم أصبحت كقرية صغيرة، لا مجال لفقدان أي شيء، والله تعالى بصير بعباده، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو يتولى الصالحين، والفقهاء قالوا: ” نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر”، عند شرحهم لحديث : “هلا شققت عن قلبه”. كما ثبت في صحيح مسلم (1/ 96) برقم(96) عن أسامة بن زيد(رضي الله عنهما) قال: بعثنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في سرية، فصبّحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلا فقال: لا إله إلا الله، فطعنته فوقع في نفسي من ذلك، فذكرته للنبي (صلى الله عليه وسلم)، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «أقال لا إله إلا الله وقتلته؟» قال: قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفا من السلاح، قال: «أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟» فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ، قال: فقال سعد: وأنا والله لا أقتل مسلما حتى يقتله ذو البطين يعني أسامة، قال: قال رجل: ألم يقل الله: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} (سورة الأنفال: 39)؟ فقال سعد: قد قاتلنا حتى لا تكون فتنة، وأنت وأصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة”.
هذا أولا وثانيا: إن محاولة إصدار فتوى بحق الداعية كولن واعتباره من أهل الضلالة ووصفه بـ(الدجال) كما جاء في كلمة الرئيس أردغان ـ والعياذ بالله ـ إضافة إلى كون هذه الفتوى مبنية على الشكوك والشبهات فهي إجحاف بحق الشريعة الغراء فقد أخرج الحاكم على شرط الشيخين في المستدرك ووافقه الذهبي على حكمه في التلخيص (4/ 496) برقم(8390) من حديث ثوبان (رضي الله عنه) أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، في حديث طويل ومنها: ” إني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المُضِلِّين”. أي الذين يقومون بإضلال الناس وتضليلهم وإخراجهم عن الأمة، وأما تكفير المسلم فحكمه التحريم مطلقا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } (سورة النساء: 94) وقد جاء في صحيح البخاري (8/32)برقم(6104) عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال : “أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما”. وأخرج كذلك برقم (6105) عن ثابت بن الضحاك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “من حلف بملة غير الإسلام كاذبا فهو كما قال ، ومن قتل نفسه بشيء عذب به في نار جهنم ولعن المؤمن كقتله ، ومن رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله”. وجاء في الصحيحين (صحيح مسلم (1/ 81)برقم (64) وصحيح البخاري (1/94)برقم(48) عن عبد الله بن مسعود(رضي الله عنه)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر». وهذه الأحكام عامة ومطلقة تنطبق على جميع الجماعات وعلى الراعي وعلى الرعية من غير تفريق.
وربما هؤلاء المشايخ وكذلك الساسة لم يطلعوا بصورة جيدة على سيرة الأستاذ كولن ولا على مؤلفاته والتي تعد حسب بحوث الدارسين والأكاديميين في العالم الإسلامي من مفاخر كنوز أهل السنة والجماعة في عصرنا هذا، فإنه وحسب قراءتنا لأعماله ومؤلفاته بحق من العلماء الورعين الذين قلّ نظيرهم في هذا الزمان، فكل من قرأ كتابه (النور الخالد محمد (صلى الله عليه وسلم) مفخرة الإنسانية) أيقن مدى حبه لله ولرسوله(صلى الله عليه وسلم) ولصحابته الأجلاء، ومدى تواضعه، ومدى فقهه للسيرة النبوية المعطاء وإخلاصه للرسول الأعظم(صلى الله عليه وسلم) حيث وصفه “بسلطان القلوب المتربّع على عرش الأفئدة”، ويقول في ص15 منه: ” لو عرفته البشرية حق المعرفة وفهمته حق الفهم لهامت به حبا ووجدا.. ولو تغشّت الأرواحَ ذكراه الجميلة لثارت أشواقها وفاضت عيونها بالدموع ولاقشعر جلدها وهي تخطو إلى عالمه، عالم النبوة الطاهر..”، ووصفه (صلى الله عليه وسلم) في ص16 ” بسبب الوجود وحكمته وسر الكون والكائنات”، ومن قرأ كتابه (التلال الزمرّدية) عرف من خلاله حقيقة التصوف وغايته النبيلة وعرف أحوال القلوب وأثر العبادات القلبية في تصفية القلوب وتزكية النفوس بأسلوب أدبي معرفي علمي تأصيلي رائع وفريد . أما كتابه (حقيقة الخلق ونظرية التطور) فهو خير كتاب لنقض تلك الأوهام التي تتعلق بنظرية التطور وهدمها بأسلوب علمي هادئ، والأعجب من ذلك أن عالما دينيا يتصدر لنقض النظرية العرجاء وإفشالها، كما فعل الأستاذ الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه (نقض أوهام المادية الجدلية)، إذ ليس بمقدور كل عالم دين الكلام في المباحث الفلسفية الجدلية الحديثة. وأما كتابه (نحن نقيم صرح الروح) فهو بأسلوبه العميق يحاول أن يسترد عزيمة الأمة وهمّتها لاسترجاع مجدها وعزتها واسترداد ميراثها الذي خطفه الأعداء كي تستنهض من جديد بمزيد من الإخلاص والدقة والتوازن والحركة. وأما كتابه (الموازين: أضواء على الطريق) فهو مجموعة باهرة من الحكم المفيدة والتجارب الوضاءة والمفاهيم النيرة من أجل إسعاد الإنسانية والعمل وفق منهج الوحدة والاتحاد، فهو مقتطفات من أزاهير المعارف المهمة والنظرات الثاقبة في شؤون الحياة والفرد والمجتمع أداها بأسلوب سهل بديع. وأما كتابه الجامع في الأدعية والتضرعات فلا غنى لأهل المعرفة من أرباب القلوب عنها، لما تحوي من أدعية الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين وأرباب المعرفة الربانيين، وكذلك كتبه: (أسئلة العصر المحيرة) و(أضواء قرآنية في سماء الوجدان) و(طريق الإرشاد في الفكر والحياة) و(روح الجهاد وحقيقته في الإسلام) وغيرها مما ترجم أو لم يترجم بعد، كلها تصب ـ والله تعالى أعلم ـ في خدمة الإسلام والمسلمين والإنسانية جمعاء وإبراز الوجه الألمع للمسلمين وإعادة مجدهم وعزهم عن طريق المناظرات الفياضة وبالحوار الهادئ بالتحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل. وهو من يشجع الدعاة من أهل السنة والجماعة على تسليك طريق العلم والمعرفة من أجل المضي في حوار الحضارات لا صدامها، عبر أسباب العلم الثلاثة (الخبر الصادق فالعقل السليم فالحواس السليمة) كما في العقيدة النسفية أبي البركات(رحمه الله) وأجمع عليها علماء الكلام من أهل السنة، ومنهجه في الفروع الفقهية المضي وفق مناهج الفقهاء المتبصّرين من أهل السنة وعدم تسليك اللامذهبية أو التلفيق بين المذاهب الفقهية أو تتبع رخص المذاهب، ومنهجه أن لا يفتي من ليس أهلا للفتوى ولا يتصدر للاجتهاد إلا من توفرت فيه شروط الاجتهاد، وأما عقيدته فهو العقيدة الصحيحة لأهل السنة والجماعة حيث يعتمد على أصولهم في الاعتقاد سواء في الالهيات أو النبوات أو السمعيات والمغيبات، ويعتقد أن الأصلين الكتاب والسنة هما الأسين الأساسين يليهما الإجماع فالقياس السليم فباقي أدلة الشرع، وأنه لا تعارض بين النقل الصحيح والعقل السليم، وأنه لا يجوز تكفير أهل القبلة من المسلمين، وأنه ينبغي التّرضي على جميع الآل والصحب من غير تفريق، وكل هذه المبادئ يلمسها قراء كتبه ومقالاته، وبالجملة فإن مدرسته امتداد لمدارس أهل السنة والجماعة من السادة الأشاعرة والماتريدية.
لكن المشكلة الرئيسة في عدم قراءة كتبه ومقالاته والحكم عليه رجما بالغيب أو محاكاة للغير أو الإمعية وهذه الأخيرة هي مصيبة فتن العالم الإسلامي منذ القرن الثاني الهجري وإلى الآن، وقد حذّرنا المصطفى (صلى الله عليه وسلم) من الوقوع فيها كما جاء في سنن الترمذي (4/ 364)برقم(2007) بإسناد حسن عن حذيفة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): ” لا تكونوا إمعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا “. وجاء في كتاب الزهد لأبي داود (ص: 140)برقم(133) بإسناده عن عبد الله ابن مسعود(رضي الله عنه) قال:” ائتوا الأمر من تدبّر، ولا يكوننّ أحدكم إمعة، قالوا: وما الإمعة؟ قال: الذي يجري بكل ريح”.
وبالجملة فإن الإسلام بحاجة إلى الجميع ولا غنى بجماعة عن أخواتها المسلمات وإن الحق لا يمكن أن يتعدد لكن يمكن أن يتجزأ ، فليس كل الحق مع جماعة وتبقى الأخريات بمنئى عنه بالكلية، فينبغي للجميع مراجعة الخطوات والمناهج وقراءة التاريخ والواقع والمستقبل قراءة موضوعية متأنية مخلصة للإسلام والمسلمين، فلا غنى للدعاة والمفكرين عن الأستاذ كولن ولا عن غيره من الدعاة المخلصين من أمثاله لاسيما في هذا العصر الذي كثر فيه الجهلاء والأغبياء، وقل فيه العلماء والأمناء، ووفر فيه الرياء وندُر فيه الإخلاص، فهو وأمثاله يستحقون التقدير والاحترام، ولا بد من تقديم الأدلة الشرعية والقانونية الدامغة والفاصلة لإثبات التهم والشكوك التي تروّجُ لها عبر الإعلام ، وتقديمها إلى المحاكم المحايدة لكي يقول القضاء كلمته كما قلنا وحينئذ فإن الكل عليه أن يخضع للنتيجة وقد أعلن ذلك الأستاذ كولن بنفسه وأمام العالم فينبغي التريث والتمعن وعدم سبق القضاء، وإلا فإن كل إجراء أو فتوى يبقى مشكوكا فيه معلولا شرعا وعقلا وعرفا وقانونا داخليا ودوليا، ومنتقدوه بدل أن يحسدوه الأولى لهم أن ينافسوا أعماله وجهوده العلمية والتربوية منافسة شريفة فيفتحوا المدارس ومراكز الخير وإسعاد الآخرين، فإن الساحة مفتوحة للجميع.
والله نسأل إصلاح أحوال المسلمين وجمع شملهم خصوصا في تركيا حيث أنظار المسلمين السنة متجّهة نحوهم، فهم من خدموا الإسلام والمسلمين بإسهاماتهم الرائعة لستة قرون متواصلة، وكان السلطان العثماني عبد الحميد الثاني(رحمه الله) آخرهم يكفيه فخرا أنه لم يبع شبرا من أرض الإسلام لليهود لا في قبرص ولا في فلسطين رغم الضغوط الهائلة والتحديات اللامثيلة التي كانت السلطنة تعاني منها داخليا وخارجيا، ومن اطلع على كتابي (السلطان عبد الحميد الثاني حياته وأحداث عهده لأورخان محمد علي) و(السلطان عبد الحميد الثاني المفترى عليه لعلي عبد العال الرشدي) لعرف تلك الحقائق ولمسها عبر الكتب والوثائق. ، وفي الختام نذكر أنفسنا والدعاة والمشايخ والساسة والعامة من الناس بأبيات الإمام المطلبي محمد بن إدريس الشافعي(رحمه الله) حيث أنشد من أجل إسعاد الناس ورسم خارطة طريق السعادة قائلا:
إِذا رُمتَ أَن تَحيا سَليماً مِنَ الرَدى … وَدينُكَ مَوفورٌ وَعِرضُكَ صَيِّنُ
فَلا يَنطِقَنْ مِنكَ اللِسانُ بِسَــوأَةٍ … فَكُــلُّكَ سَــوءاتٌ وَلِلنـاسِ أَلــسُنُ
وَعَينكَ إِن أَبدَت إِلَيـــكَ مَعائِباً … فَدَعها، وَقُل يا عَينُ لِلنــاسِ أَعيُنُ
وَعاشِر بِمَعروفٍ وَسامِح مَنِ اِعتَدى … وَدافِع وَلَكِن بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ
وأخير أذكر نفسي وإخواني في تركيا والعالم الإسلامي بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (سورة الحجرات: 10، 11).
وما مرّ من النصوص الشرعية والمباحث العلمية الحوارية التذكيرية أهدف بها الاعتبار والاتعاظ، وإعادة السلم والسلام والأمام والأخوة إلإسلامية إلى الإخوة المتنافسين، كي تسر بهم الأصدقاء وتبغض بهم الأعداء إن شاء الله، قال تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } (سورة الحشر: 2) وقال جل شأنه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } (سورة ق: 37). أرجو أن تكون مفيدة، فما كنت فيه موفقا فمن الله وتوفيقه وإلا فمن نفسي ولا أزكيها، وأعتذر عن الهفوات فسبحان المتفرد بالكمال. والله الهادي إلى سواء السبيل { إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (سورة هود: 88)، ،
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
https://youtu.be/4vEij6vfF00