بقلم: سليم عبد الرحمن
تعودنا في الآونة الأخيرة على أن نرى تناقضات كثيرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان في سياساته تجاه الدول المجاورة خاصة ودول العالم عامة.
إسرائيل
تركيا في الفترة الأولى من حكم أردوغان كانت تستطيع الحوار مع جميع دول المنطقة، بما فيها إسرائيل، بفضل استخدامها عناصر “القوة الناعمة” من اقتصاد وعلاقات ودية وثقافية. لكن بعد ما حدثت واقعة One Minute الشهيرة في منتدى دافوس عام 2009، وحادثة اقتحام سفينة مافي مرمرة التي انطلقت بدعوى كسر حصار قطاع غزة عام 2010، والتي أراد أردوغان أن يستغلها سياسياً من أجل تحسين صورته في العالم الإسلامي، تدهورت العلاقات السياسية فقط دون الاقتصادية بين البلدين، واتخذ أردوغان منذ ذلك الحين إسرائيل عدواً على الصعيد الخطابي فحسب. وكأن يداً خفية سيطرت على دفة الحكم في تركيا وحولته من مسارها السلامي إلى نهج عدواني في الداخل والخارج. لكن أردوغان اضطر أخيراً إلى التراجع حتى عن هذا الخطاب العدائي الظاهري بموجب اتفاقية تطبيع العلاقات مع إسرائيل، بعد أن كان يستعرض عضلاته في التعامل معها بدلاً من تفعيل لغة الدبلوماسية لتسوية المشاكل القائمة، بما فيها القضية الفلسطينية.
مصر
وبعد وصول جماعة الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم في مصر عقب ما يسمى بثورات “الربيع العربي”، قدم أردوغان دعمه الصريح لها، وأصبح بذلك طرفاً مع إحدى الفئات السياسية في بلد أجنبي، مع أن التقاليد السياسية وقواعد القانون الدولي المعروفة كانت تفرض عليه أن يكون محايداً، وتتطلب منه أن يبني علاقات بلاده على معايير موضوعية ومقومات اقتصادية بدلاً عن التدخل غير المجدي في الشؤون الداخلية، في ظل إمكانيات وقدرات تركيا المحدودة.
لكن عندما تغيرت التوازنات الداخلية في مصر وانتقلت الإدارة إلى الرئيس الجديد عبد الفتاح السيسي توجه أردوغان إلى مناصبته العداء، وذلك بموجب موقفه الأول الذي ساند فيه طرفاً سياسياً بعينه، وكأنه سيظل في الحكم إلى الأبد. وذلك رغم أن مصالح بلاده كانت تحتم عليه ألا يتدخل في الصراعات الداخلية ويركز على مصالح بلاده الاقتصادية، ويحذَر من إلحاق أضرار بالعلاقات الثنائية الطيبة، من جانب، ومن جاب آخر أن يستخدم “قوته الناعمة” بدلاً عن “القوة الغاشمة” والعنتريات الجوفاء التي لاجدوى منها أو طائل. وهذا الموقف البعيد عن العقلانية والواقعية لأردوغان أدى إلى تدهور جميع العلاقات بين البلدين.
لكننا نراه اليوم وهو يبحث عن سبل لاستعادة العلاقات مع مصر التي كان يصف رئيسها بالانقلابي الذي لا يمكن التوافق معه على أي أساس.
سوريا
الأمر نفسه ينطبق على موقفه من سوريا، حيث أراد استغلال امتدادات الإخوان والجماعات الإسلامية الأخرى في سوريا لتنفيذ مشاريعه وسياسته، وتلميع صورته كزعيم إسلامي في المنطقة. فقدم دعماً مالياً ومسلحاً للمجموعات المقاتلة ضد النظام الحاكم في سوريا واستخدم كل الوسائل دون النظر إلى شرعيتها أو عدمها للإطاحة بالرئيس بشار الأسد، الأمر الذي لطخ صورته هو وصورة “النموذج التركي” وأصبح موسوماً بـ”داعم الإرهاب” دولياً.
لكن بعد مرور سنوات وتدمير شامل لسوريا وقتل وتشريد لأهلها، نرى في هذه الأيام تراجعاً جديداً لأردوغان ولعله يشكل ذروة تراجعاته، حيث يستعد للعودة إلى “شهر العسل” الذي كانت تشهده العلاقات السورية التركية قبل نحو 6 سنوات.
بعد أن تعودنا على تحولاته السياسية، خاصة فيما يخص كلاً من إسرائيل وروسيا، لم يكن من المفاجئ أن يدير أردوغان ظهره للشعب السوري الذي دفعه إلى الثورة وهو أعزل ويتوجه إلى الأسد لاستعادة العلاقات المتدهورة بين البلدين.
يبدو أن أردوغان – بعد خراب بصرة – قد أدرك أن العنتريات لا تقتل ذبابة، بعد أن توهم أنه قائد لا يقدر عليه أحد ورأى أنه فارس بلا جواد. لذلك رأيناه مؤخراً يتراجع عن جميع مواقفه السابقة واحداً تلو آخر، لكن مع إلقاء مسؤولية كل هذا الفشل في سياساته على “الكيان الموازي” الوهمي. وكما قال أحد السياسيين الأتراك فإنه يحاول تنظيف كل قاذوراته في الداخل والخارج على مدى سبع سنين بـ”صابون الكيان الموازي”.
أجل، عندما تقاطعت طموحات أردوغان في أن يكون زعيماً إقليمياً مع الشباك والفخاخ التي نصبتها إيران وإسرائيل من خلال ملفات الفساد والإرهاب التي تورط أردوغان فيها وبات رهينها، ظهرت هذه الصورة الكارثية في تركيا والمنطقة.. الصورة التي تظهر أردوغان وهو قد تراجع عن جميع مبادئه وقضاياه القديمة وترك حلفاءه في وسط الطريق ليتخذ من أعدائه القدامى حلفاء جدد.