بقلم: هشام الراس
“حيزمت” أو “الخدمة” بلغة الضاد، هي كلمة واحدة واضحة لغويا واصطلاحا، لكن يصعب تفسيرها بمنطق العلوم الاجتماعية أو التاريخ من باب أنها تطلق على تجمع أناس ينتمون إلى طبقات سوسيوـ مهنية وثقافية مختلفة، أناس متطوعون في مشروع إصلاح حضاري ببعد دولي، وبنواة تركيّة مسلمة. فهي ليست بالحركة، ولا بالتنظيم، ولا بالطريقة، ولا بالتيار.
هي نوع من التجمعات مختلف تماما، لا يستطيع الدارس لها أو لمن يحبونها أن يصنفها ضمن خانات الإطار الأكاديمي أو البحثي. ولذلك تبقى موضوعا للتأويل لا التفسير.
كيف إذن السبيل إلى فهم هذا التكتل الضخم من المتطوعين المنتشرين في شتى بقاع البسيطة من أجل “خدمة” الإنسانية، كما يقولون!؟
أظن أنه ولفهم هذا التجمع الضخم، من المستحسن لنا الوقوف عند بعض المعالم العقلية القديمة قدم الإنسان نفسه والمرتبطة به. فهناك مثلا الإيمان، وبعده الالتزام، ثم يأتي العمل، لكن هناك أيضا التعقل والتخطيط. لا بأس هنا أن أقف وقفة خاطفة، قد تسعف تفكيرَنا نحن أبناء العقلية العربية،ـ على اختلاف بيئاتها،ـ فنحن، وللأسف، تنشأنا في أسرنا، ومقاهينا، وإعلامنا على فكرتي “نظرية المؤامرة” و”التغيير الفوقي” (التغيير المتوقف على أهل الحل والعقد، وعلى رأسهم السياسيون). ولذلك يصعب علينا تصور أو على الأقل تخيّل أنه قد يوجد هناك أناس عاديون مثلنا، لكن فهمهم للحياة الدنيا وللحياة الآخرة مختلف عنا بكثير، استطاعوا أن يؤمنوا بفكرة ويعملوا عملا سليما أعطى نتائج حسنة، واستطاعوا تفنيد نظرية “التغيير الفوقي”، وفعلا غيروا من خلال رهان الإنسان والتربية.
وقد نفزع ونهرع إلى أسهل الطرق من أجل التخلص من هذا الإحساس، ونبدأ ببساطة في الحكم على أناس لا نعرفهم ولم نبذل حتى جهد قراءة ولو مقال عنهم، وننعتهم بكل النعوت، ونلصق بهم كل التّهم. وقد رأينا هذا خلال ضجة ما بعد انقلاب الخامس عشر من يوليو/ تموز في تركيا. حسبنا أن ما يقع في بقاع أخرى من وطننا العربي لم يحمسنا أكثر ويدفعنا للوقوف مثنى وفرادى حتى نتفكر.
اقرؤوا إن شئتم “مدخل إلى الفكر المركب” لإدجار موران، فقد يساعدنا على أن نتقرب أكثر من فهمنا لظواهر التبسيط والاختزال والقفز إلى الخلاصات والأحكام بشكل أقرب إلى البلادة منه إلى التسرع، والتي عهدناها في تعاطينا مع أي من الظواهر أو الأحداث. السؤال المركب هنا هو “لماذا لا نتبيّن؟ لماذا لا نتريث في إطلاق الأحكام؟ لماذا لا نحترم عقولنا وشخوصنا، وندعهما عرضة لموجات الاستهلاك الأعمى: استهلاك الصورة، والمعلومة، والتضليل؟
من منا قرأ “النور الخالد”، أو “ونحن نقيم صرح الروح”، ومؤلفات عديدة أخرى للأستاذ فتح الله كولن، أو حاول الإنصات لدرس من دروسه. ومن منا حاول الاطلاع على منجزات “الخدمة” الحضارية: مدارس في شتى بقاع الأرض، مراكز ثقافية، منتديات للحوار، جمعيات ومنظمات خيرية، جامعات ودور للطلبة ومراكز للدعم المدرسي والجامعي. علّنا لم نفهم معنى التطوع والرسالة بعد! أو علّنا ألفنا التعبير عن آلامنا وآمالنا بالتأفف والعويل وردود الأفعال والانفعالات! أين نحن من مسؤولية القراءة؟ يا أمة إقرأ!؟ أم أن هذه سنة الله في الكون، وأننا نعيش أبهى صور الغثائية كما نبئنا بها الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم؟
إنني أدعو من خلال هذا المكتوب إلى مراجعة شاملة لطرق تفكيرنا وأساليب فهمنا للحياة وللمستقبل. وأقول لكم بشجاعة أننا على شفا بوادر تغيير إيجابي وشيك سوف يحمل شعلته جيل ذهبي يتحضر لذلك. لقد صدمتنا أحداث التاريخ القريب كثيرا، وكشف لنا التاريخ عن عدد غير قليل من غرور الإيديولوجيا والسياسة في شكلها الكلاسيكي، ولنا أن نؤمن بقوة التغيير الذي سيأتي من المجتمع المدني ومن أناس أحرار في معتقداتهم وأساليب عيشهم لكنهم متفقون على تدبير مجالاتهم العمومية تدبيرا ذكيا وراشدا وتشاركيا بعيدا عن ضيق وشرنقة الحزب والمذهب.
أختم هذا المقال بكلمات أصابت تفكيري بنسيم الأمل والطموح المشروع، التقطتها أذني من حلقة “العقل زينة: لمين نقرأ”. هل نقرأ لمن عنده رؤية واضحة عن اليوم وغدا، ووضع دراسات وخططا نفسية وعملية لتجاوز كل مشاكل اليوم وتحويلها لنتائج ناجحة تقود الإنسان إلى أعلى مكان ممكن يتمنى الوصول إليه، أو نقرأ لمن قسّم عالمنا لكتل وأنظمة وشعارات ومذاهب تجمعت فيها كل العداوات والمنافسات المهددة بالموت والخراب بكل معاني الجنون. لقد سبق لواحد من مجددي عصره رحمه الله تعالى، العلامة فريد الأنصاري، أن كتب عن أخطاء التنظيمات الإسلامية، وأردفه بكتاب “الفطرية” داعيا كل عاقل راشد إلى العودة إلى النبع الأصيل والابتعاد عن الصنمية الصماء! عسانا نلقي السّمع.