س: لقد وردت مزاعمُ في بعض وسائل الإعلام المحسوبة على الحكومة، بأن الخدمة هي التي نفّذت عمليات الفساد في ١٧ ديسمبر ٢٠١٣م. كيف تقيّمون ذلك؟
ج: إن البعض يصرّ على اتهام «الخدمة» على الرغم من أننا نشرنا مرارًا العديد من البيانات للتكذيب والتوضيح والتصحيح. وكما قلتُ سابقًا، فإن بعض النوابِ العامّين وقواتِ الشرطة المكلّفة بتنفيذ القانون، قد أدّوا المهمة التي يطلبها القانونُ منهم دون أن يعلموا أن ترصّد ومطاردة المجرمين صار يُعتبر جريمة! أي إنهم لم يتخيّلوا أن أضرارًا ستلحق بهم جراء أداء وظائفهم! وكان كاتب عمودٍ في جريدةٍ -أظنُّه السيد «يافوز سمرجي (Yavuz Semerci)»- قال مؤخّرًا “سيأتي يوم يُكافَأ فيه هؤلاء الرجال بميداليات تقديرية”. بالرغم من ذلك، فإن الذين أشرفوا على تحقيقات 17 ديسمبر، بل الآلاف من الموظفين الذين لم يكن لهم أيّ صلة بتلك التحقيقات، تعرّضوا للنفي والتشريد دون مراعاة حقوقهم وحقوق أفراد عائلاتهم قط. ثم بادر أعضاء الحكومة إلى اتهام «الخدمة» ومهاجتمها وكأنّ شيئًا لم يحدث وكأن فسادًا لم يقع. وعمدوا إلى اختلاق أكاذيبَ ونشرها واحدة تلو الأخرى، وما زالوا يفعلون ذلك.
قبل كلّ شيء، فإن تحقيقات الفساد والرشوة لم تأت فجأة، فجهاز المخابرات قد أعدّ قبل نحو 8 أو 9 أشهر تقريرًا قدمه لرئيس الوزراء، وأكد فيه أن بعضًا ممن يحتمل أن يكونوا جواسيس لإيران، قد سيطروا على وزراء في الدولة وبعضٍ من أبناء الوزراء، بل حتى تسلّلوا إلى مجلس الوزراء للقيام ببعض الأشغال الغامضة، ولكنه تم التجاهل والتغاضي عن هذا التقرير تمامًا. فضلًا عن ذلك، فإن وسائل الإعلام المقربة من الحكومة قد نشرت أخبارًا في صفحاتها بهذا الشأن، إلا أنها لم تلقَ اهتمامًا كذلك. لم يفكّروا في منع وقوع أعمال الفساد. ولما بدأت تحقيقات الـ17من ديسمبر، لم يجدوا مخرجًا من هذا المأزق، فقرّروا التخلّص منها عن طريق كيل الاتهامات واختلاق الجرائم لأناس أبرياء.
وكما بيّنتُ سلفًا، فإن هؤلاء المشرفين على هذه التحقيقات لا أعرفهم شخصيًّا، ولم يكن لي أيّ صلة بهم. وقد ردّدتُ ذلك مرارًا وقلتُ “لا أعرف واحدًا في الألف منهم…” ، إلا أنهم استمروا في ربط هؤلاء بشخصي.
أما الذي حزّ في نفسي وأشعرني بالإحباط أصلًا، فَهو صمت السياسيين الذين عرفتُهم شرفاءَ صادقين. إذ كنتُ أتوقّع من هؤلاء الذين أعرفهم منذ القديم، وأعتقد بصلاحهم وعدم مخالفتهم لضمائرهم، أن لا يبقوا صامتين أمام أعمال الفساد والعلاقات المبنية على الرشوة. كنتُ أظنّهم هكذا. كنتُ أنتظر منهم ردّ الفعل الذي أبداه المرحوم «تورغوت أوزال» الرئيس التركي الأسبق -أسكنه الله فسيح جناته- إزاء مثل هذه الأعمال القبيحة، ولكنهم لم يفعلوا. ولما سكتَ هؤلاء لم يتجنّب مَنْ ارتكبوا «جريمة واحدة» ارتكابَ «ألف جريمة» أخرى، وابتدعوا طريقة لم يُسبَق إليها طوال تاريخ الجمهورية التركية. فبدلًا من إطلاق حملة ضد الضالعين في ممارسات الفساد، أطلقوا حملة ضد أولئك القائمين على تحقيقات الفساد.
إن الإسلام حرّم أعمال الفساد وفرض عليها عقوبات زاجرة، واعتبرها من مساوئ الأخلاق وحضّ على الابتعاد عنها. فلا يمكن تسويغ وتصويب أيّ نوع من أنواع الفساد، ولا يمكن أن يُترك مرتكبُه دون عقاب. فالذنب أو الخطأ إن كان فرديًّا، ولم تكن أضرارُه راجعة إلى المجتمع، فالإسلام في هذه الحالة يَطلب التجاوزَ والصفح عن ذلك الإنسان، ولا يَسمح أبدًا بالتلاعب بكرامته وشرفه. لذا ينبغي عدم الخلط بين هاتين النقطتين؛ أيْ إن الإسلام يحثّ على إبداء حساسية فائقة للغاية، ويضع عقوبات محددة إن كانت المسألة متعلقة بأكل حقوق الناس أو متعلقة بأعمال فساد مختلفة.. فعلى سبيل المثال، عزل عمر بن خطاب عياض بن غَنم، مع أنه كان واليًا وحاكمَ إقليمٍ، كذلك عزل واحدًا من الولاة المشهورين، وكان غازيًا وفاتحًا في غزوة القادسية ضد الفرس، عزله ثم استدعاه إلى المدينة المنوّرة. في الحقيقة، لم يكنْ له أيّ ذنب، ولكن ذاعت في حقه إشاعات.. ولا يمكن لإنسانٍ انتشرت في حقه إشاعات أن يكون واليًا، لأن الناس لن يسمعوا له ولن يطيعوه. لذلك رأى عمر أن إنسانًا تعرّضتْ سمعته لإساءة على هذا النحو لا يمكن أن يكون واليا هناك، فدعاه إلى المدينة المنورة. وعلى نفس المنوال، استدعى إلى المدينة خالدَ بن الوليد جراء مزاعم حول ممارسته الفساد -حاشاه- مع أنه كان يخوض أخطر المعارك مثل معركة اليرموك. عزله ودعاه إلى المدينة في وقت كانت فيه المعركة على أشدّها، فعاد إلى المدينة وعمامته على رأسه. ولا يخطرنّ على بالكم شيء سلبي عن خالد بن الوليد . فذلك القائد العظيم لم يكنْ يملك شيئا سوى خيله وسيفه عندما وافته المنية. هو قائد عملاق بذلك المستوى، بالإضافة إلى أنه عابد وزاهد، إلا أن عمر لم يغلق أذنيه وعينيه تجاه مزاعم ممارسته الفساد، وإنما تابع القضية عن كثب وفعل ما ينبغي فعله. وعَزل أيضًا سيدُنا عثمان بن عفان عمرو بن العاص من منصبه.
بناء على ذلك، فإن كانت هناك رشوة وجرائم ترتكب، ومحسوبية، وممارسة فساد في المناقصات، وأمور أخرى تتعارض مع مصالح الأمة، ويتمّ التستّر عليها، فإن الله سيحاسب عليها. لا أعرف ماذا كانوا يتوقّعون؟ وإن كان هناك مَنْ يتعاطف مع نشاطات الخدمة مِمَّنْ أشرفوا على تحقيقات الفساد، فهل كان يجب عليّ أنْ أقول لهم “غضّوا أبصاركم عن مزاعم الفساد”؟ لا أعرف، ولكن يبدو لي أن البعض كانوا يتوقعون شيئًا كذلك. أكان توقّعهم هكذا فعلًا؟ كيف لي أن أفعل شيئًا يدمّر آخرتي؟ كيف لي أن أتصرّف غير ما تصرّفتُ؟
وكما ذكرتُ في وقت سابق، لو كان هؤلاء الرجال الذين يُوصَمون بانتمائهم إلى «الدولة الموازية» يتحركون بصورة مخالفة للقوانين واللوائح المتبعة، فلماذا لم يُعاقَبوا حتى اليوم؟ ولقد سمعتُ أن عمليات النقل والنفي والتشريد طالت الآلاف منهم، ولكنني لم أسمع قط أنه فُتِح تحقيق بحق أحدٍ لسوء سلوكه أو خرْقه للقوانين ولوائح العمل في تلك المؤسسات. لا أعرف، فهل سمعتم أنتم؟
منذ ما يقرب من ستين عامًا، وأنا أُلقي دروسًا دينية في شتى المواضيع، وأردد المبادئ عينها دائما، ووصيتي لإخواني الذين يكنّون حبًّا لي -أنا الفقير الذي لا أستحقّ هذا الحب- هي ألا يقتربوا حتى من أطراف مثل هذه الأعمال القذرة؛ وفي الوقت ذاته، لا يغضّوا أبصارهم بتاتًا عن مثل هذه الممارسات الفاسدة عند اطلاعهم عليها، بل ليفعلوا ما يقتضيه القانون وتمليه العدالة.
إن القرآن الكريم يسمّي مثل هذه الممارسات الفاسدة بـ«الغُلُول»[1]. وهو يأتي بمعنى الاستيلاء على شيء دون وجه حق، والانتفاع به، واختلاس شيء من المال العامّ، وخيانة الأمانة وما إلى ذلك. كما تُعَدّ إساءة استعمال أموال الدولة ذنبًا وجريمة من هذا النوع. وقد تكون إساءة الاستعمال هذه ببضعة قروش حينًا، وبأكياس مليئة بالنقود المملوكة لخزينة الدولة أحيانًا أخرى… وقد تكون عن طريق الحصول على منصبٍ عبر الوساطة والمحسوبية لا بالكفاءة والجدارة والأهلية. فكل شيء تملّكه الإنسان دون وجه حق، وكذلك كل إمكان حصل عليه من خلال وسائل غير مشروعة، فهو غلول.
والطامة الكبرى هي أننا بأحوالنا هذه نفتح جرحًا غائرًا في قلب الإسلام دون أن نشعر. فإذا ما خرقنا قيم الصدق والإخلاص في حياتنا الشخصية، نكون قد أحدثنا شرخا في الدين وفي فكر من يشكّل قناعته عن الإسلام من خلال سلوكنا ومواقفنا. أظنّ أن الرغبة في المناصب السياسية تزداد نظرًا لأنها تشكّل مصدرًا لمثل هذه الغنائم والعمولات. ونتيجة لذلك، فإن المقاول أو رجل الأعمال الذي حصل على مناقصة عامة عبر هذه الطريقة، يبحث عن وسيلة ما لتعويض ما خسره من خزينة الدولة. إن الحق العام هو حقّ الله تعالى في الوقت ذاته. لذا فإن الفقه الإسلامي والنظام القانوني الحديث على حد سواء لا يسمحان أبدًا بمثل هذه الانتهاكات للحقوق. بناء على ذلك، فإن كان هناك شيء من قبيل سرقة الأموال العامة، فلا يمكن تبريرها لا من خلال الإشارة إلى المبادئ الواردة في «المجلة» (مجلة الأحكام العدلية)[2]، ولا من خلال الانغماس في جدال صاخب وضوضاء مفرطة. أجل، إذا لم تنتبهوا إلى تزكية قلوبكم على الدوام، فقد تجدون أنفسكم تائهين في متاهات مظلمة حتى لو انتشرتم -أصلًا- مع إخوانكم في أنحاء العالم بقصد نشر قيم الإسلام السامية من صدق وإخلاص. والأدهى من ذلك والأمرّ هو خيبة الأمل التي سيصاب بها هؤلاء الذين علّقوا آمالهم عليكم.اسمحوا لي أن أقول أيضًا: ينبغي أن نعامل الناس بالرحمة والعطف، فنبينا يقول: “انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ: هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ.”[3] التوصية الواردة في الحديث هي الاعتراض على الظلم والتجاوزات وارتكاب الجرائم والجنايات. لذلك يجب الحديثُ عن سوء هذه الأعمال وشرح خطورتها على الدوام لكي يبتعد الناس عن ارتكابها. ولا ينبغي أن تؤدّي هذه الطريقةُ من التصرّف إلى الانقسام أو الصراع، وإنما يجب أن تؤدّي إلى الاتحاد والمحبة المتبادلة.
[1] ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 3/161).
[2] في الفترة التي وقعت فيها هذه الأحداث كتب أحد الاكاديميين المعروف بتبنيه لأفكار الحكومة مقالة لدعم الحكومة واستدل ببعض القواعد الكلية التي أوردتها مجلة الأحكام العدلية.
[3] صحيح البخاري، المظالم والغضب، 4.