(الزمان التركية) يتحدث الأستاذ فتح الله كولن في هذا الجزء من الحوار الذي أجراه مع مجلة الأهرام العربي، عن مكانة مصر في العالم الإسلامي وجوابه حول مقترح دعوته إلى مصر، والسبب الحقيقي وراء عداوة أردوغان لمصر، ودرو الأزهر الشريف في بيان رسالة الإسلام السمحة وتبلغيها إلى العالم أجمع. وإليكم نص الحوار:
– ترددت أنباء حول مقترحات بدعوتكم إلى مصر، في حال إذا اقتضى الأمر مغادرتكم للولايات المتحدة هل تفكرون في القدوم إلى مصر؟
لا أفكر بالمغادرة من هنا حاليا ما لم تكن هناك أسباب قاهرة. أنا مقيم في هذا المكان منذ ١٧ عاما، لم أتعرض لأي إساءة من الجيران أو ممن يعيشون هنا، بل كانوا طيبين ومرحبين بنا دائما. ولكن كما قلت قبل قليل إذا صدر قرار قضائي في حقي للترحيل من هنا فإنني سأغادر إلى تركيا دون تردد. أنا أعيش آخر أيام حياتي. ولعلها تكون فرصة يمنحني الله إياها لأبصق على وجوه بعض الظلمة، قبل أن أتابع مسيري إلى الدار الآخرة.
بعض وجوه مصر من المثقفين والمسؤولين تصرفوا بما يعبر عن شهامتهم ونبلهم. ولا أحسب أن تداول مثل هذه الموضوعات في المنابر الإعلامية والسياسية يتم بمنأى عن القائمين على تدبير الشأن في البلاد. لذلك أنتهز الفرصة وأقدم شكري لكل من تعاطفوا مع العبد الضعيف من صميم قلبي.
وبهذه المناسبة، فكل بادرة تهدف إلى إنصاف مظلوم أو تبرئة مفترى عليه ودعمه عمل يستحق الإشادة والتقدير، وقد اتخذت مصرُ موقفا من هذا القبيل حين وقفت حائلا ضد استغلال تركيا لمنظمة التعاون الإسلامي في محاولاتها لإداراج الخدمة ضمن الكيانات الإرهابية، فهذه الوقفة الحازمة من مصر ذات الثقل في المجتمع الدولي لا يمكن أن تنسى، بل هي جميل لن أنساه ما حييت.
– هل زرتم مصر من قبل؟
في الحقيقة مكانة مصر في قلبي لا تقل عن تركيا، رغم أنني لم أتشرف بزيارتها من قبل. يصف بديع الزمان النورسي المصري بأنه ابن الإسلام الذكي. ومن ثم تتميز مصر بنفس الأهمية التي تتميز بها تركيا. شخصيا لا أريد أن تسوء العلاقات بين مصر وتركيا وتنقطع. لا أريد أن أكون سببا يجر مصر إلى مشاكل بينها وبين تركيا، فمع شكري وامتناني العميق لهذه اللفتة الكريمة أفضل البقاء هنا حاليا ولن أغادر إلى أي مكان آخر إلا إلى تركيا.
– ما سبب عداء أردوغان لمصر حسب رأيكم؟
لا أظن أن هذا العداء قاصر على مصر فحسب، بل إنه يضع نفسه في مكانة معينة، ومن ثم يرى كل من لا يضعه في هذه المكانة خصما، فكل من لا يراه “خليفة” للمسلمين أو “سلطانا” للعالم الإسلامي هو بمثابة عدو. والحقيقة أن هذه حالة مرضية ينبغي للمتخصصين أن يتناولوها بالبحث.
فعندما كانت إدارة مصر بيد من يراهم مقربين منه، كان يسعى أن يكون له هيمنة عليها من خلالهم. لكنَّ مصرَ التي تمثل عنصر توازن للمنطقة والعالم الإسلامي تَنبهتْ لهذا مبكرا، واتخذت موقفا حياله، ونتيجة لذلك ازداد حنقا وغيظا، ومن ثم يمكن في ضوء ذلك تفسير مواقفه تجاه مصر. وعندما لم ينجح في سياساته، بدأ في استغلال هذا الملف داخليا، وأصبحت ساحات المهرجانات الانتخابية التركية معرضا للقضايا المصرية، يستغلها لبث روح الكراهية والعداء في نفوس شريحة من مؤيديه ضد مصر.
– برأيك ما حجم الدعم الذي يقدمه أردوغان لإخوان مصر؟ وإلى متى سيستمر في ذلك؟
أظهر نفسه “طوق نجاة” للإخوان، ففتح أمامهم أبواب البلاد ووفر لهم الملاذ الآمن، ووعدهم بتسخير الإمكانات من أجلهم، ولكني لا أظنه مخلصا تجاههم أيضا، فكما استخدم غزة من قبل أداة لسياساته، أساء استخدام الإخوان –ولا يزال-؛ فإذا أمعنَّا النظر في الإمكانات التي هيأها لهم، يمكننا القول بكل سهولة إنه يوفر لهم الملاذ الآمن اليوم، وغدا سيقوم باستغلالهم إذا سنحت له الفرصة، كما دأب على ذلك مع كل الأطراف التي تعاملت معه، والزمان خير مفسر. إننا للأسف أمام شخصيات تتقمص روح الاتحاديين في نهايات الدولة العثمانية، من أمثال أنور باشا وطلعت باشا وجمال باشا، ففي سبيل رغبات هذه الشخصيات التوسعية وتطلعاتها السلطوية نراها تهدر كل المكاسب التي حققها المجتمع بلا أدنى اكتراث.
– ما تأثير سياسات أردوغان التى وصفتها على مصر وتركيا الدولتين المحورتين شعبا وحكومة؟
إن مصر وتركيا يمثلان عنصر توازن في المنطقة، وإن الروابط المشتركة التي تشكلت عبر القرون كفيلة بإعادة العلاقات إلى سابق عهدها. لذلك فإني على يقين بأن هذه الهستيريا ستنتهي عند نقطة معينة، وتتلاشى الأجواء السلبية، وتعود العلاقات بين الشعبين المصري والتركي إلى طبيعتها، وسنلتقي مجددا إخوة متحابين متكاتفين.
– تتمتع مصر بموقع مهم في العالم الإسلامي، خصوصا وأن بها الأزهر الذي يعتبر من حصون أهل السنة والجماعة في مصر، ومن هذا المنطلق فما رأيكم في الدور الذي يقع على عاتق المؤسسات الدينية في بيان رسالة الإسلام السمحة وتبليغها إلى العالم؟
في هذا العصر الذي يتم فيه تشويه كل شيء وتحريفه عن مساره الصحيح، هناك حاجة ملحة إلى مؤسسات مثل الأزهر، كالحاجة إلى الخبز والماء.. فيا حبذا لو كان في كل منطقة مؤسسات مباركة مثل الأزهر الشريف، حتى يتأسى بها الناس في كل أمورهم ويحددوا بوصلتهم تبعا لها..
لقد كان لدى الأستاذ النورسي مقترح بتأسيس جامعة على غرار الأزهر الشريف في شرقي تركيا إبان الحقبة التي دُمّر فيها كل ما يتعلق بالإيمان وبثقافتنا. وقد اقترح أن يكون اسمها “الزهراء” استلهاما من الأزهر الشريف، حيث كان يراها شقيقة للأزهر. وقد خطط أن تكون اللغة العربية فيها بمثابة الفرض، والتركية بمنزلة الواجب والكردية جائزة. وكان رحمه الله يستهدف أن ترتفع جدران العلوم الدينية والكونية معا على هذا الأساس.. لكن معاصريه لم يتفهموه هو أيضا في تلك الفترة، لذلك لم يُكتب لهذه المؤسسة أن ترى النور. والواقع اليوم يؤكد أن كثيرا من المشكلات التي نواجهها، والتي تطرقتم لبعضها في هذا الحوار يرتبط حلها بوجود أمثال هذه المؤسسات.
فالأزهر اليوم يحتضن آلاف الطلبة القادمين من جغرافيات شاسعة كأعماق إفريقيا، وآسيا الوسطى والبلقان والشرق الأقصى.. وإن تنشئةَ طلبة متمسكين بالكتاب والسنة، ومحترِمين للجهود التي بذلها سلفنا الصالح، ومتضلعين بعلوم الأصول بشكل جيد، وملمين في الوقت نفسه بحاجات مجتمعاتهم، ومؤهلين لتقديم الخدمات الدينية إذا رجعوا إلى بلادهم… كل ذلك يحظى بقيمة تفوق كل تقدير.
وكما أعربتم في سؤالكم، فالمهمة التي تقع على عاتق المؤسسات الدينية هي نقل الدين بشكل صحيح إلى الجماهير، والتمثُّل الحقيقي للخط النبوي الذي امتد منذ القدم وسار عليه أهل السنة والجماعة. كما أنه من الأهمية بمكان أن تُنتِج هذه المؤسسات المعلومات التي نحتاج إليها في عصرنا، دون أن تكرر المعلومات السابقة، وألا تنحو صوب الترف الفكري.
أجل، إذا ألقينا نظرة عامة على العالم الإسلامي اليوم فسنرى احتراما عاما للدين ومظاهر مختلفة للتدين، وسنسمع أصوات القراء الذين يتلون القرآن تتردد في كل مكان، وسنشاهد في كل زاوية مساجد تحتضن مرتاديها، وتعج بمشاعرهم الجياشة. لكن هناك واقعا ينبغي ألا نغفله وهو أننا نعايش خمودا في الجانب الروحي. وعلينا أن نتجاوز بالدين حدود المظاهر إلى العمق، حتى نستطيع أن نجعله جزءا من حياتنا، علينا أن نكتشف آليات ووسائل تمكننا من نقل هذا الدين إلى جنبات العالم الذي نعيش فيه بشكل يغبطنا عليه الناظرون، لا يجب أن يظل الدين حبيسا في أروقة المساجد، لا بد من الاستمرار في البحث عن وسائل جديدة يمكن من خلالها أن يعيش الدين في كل مناحي الحياة.. كما ينبغي تنشئة علماء دين لهم إلمام بالعالم الرقمي أيضا بحيث يستطيعون أن يوصلوا أصواتهم إلى الملايين في هذا العالم.. وإذا كان الناس في عصرنا يعيشون حياتهم في محور الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية فعليكم أن تكتشفوا طرائق توصل إليهم قضاياكم عبر هذه القنوات.. فإذا لم تكونوا موجودين في خضم هذه البيئة التي تفيض فيها سيول المعلومات، فهذا يعني أنكم ستخسرون مستقبلكم أيضا.. فمنذ وقت بعيد لم نستطع أن نستفيد من هذه المجالات، ومن المعلوم أن الطبيعة لا تقبل الفراغ، فإذ لم تملؤوها أنتم فسيأتي من يملؤها من غيركم..
فأمثال الأزهر الشريف من المؤسسات التي تتمتع بسمعة طيبة تستطيع أن تلعب في هذا المجال أيضا دورا رائدا، وأن تتبوأ مكانتها اللائقة بها بالفعل، فتجمع بين رجال الأعمال والعقول المفكرة لتصبح وسيلة إلى أعمال خيرية كبيرة من خلال نشر ديننا وقيمنا بلغة العصر. إن هناك كثيرا من الأعمال في انتظار من يبادر لها، ولكي يتم قطع مسافة في هذا الطريق لا بد من إطلاق إشارة البدء والاعتماد على الله في كل حال.
كولن للأهرام العربي: الخدمة مشروع تطوعي بالمنطق القرآني (1)
كولن للأهرام العربي: أردوغان يتهم الخدمة دون أي دليل (2)
كولن للأهرام العربي: إذا قدر الله لتركيا أن يزول عنها الطغيان سأعود إليها (3)
كولن للأهرام العربي: نحتاج إلى الأزهر كحاجتنا إلى الخبز والماء (4)