إسطنبول (الزمان التركية): أجرى تيم فرانكس ووكوني يلديز من بي بي سي الفضائية حوارا مع الأستاذ فتح الله كولن في 27 يناير 2014. ومن خلاله أدلي برأيه في القضية الكردية.
س: لقد دعمتم حكومة حزب العدالة والتنمية سنوات عديدة، والبعض يرى أن نزاعكم يعود إلى خلافات حدثت بينكم في حلّ الأزمة الكردية، هل أنتم ضد عملية السلام في المسألة الكردية؟ وكذلك موضوع سفينة «مافي مرمرة»، وما أعقب ذلك من تدهوُر العلاقات مع إسرائيل، فما تعليقكم؟
سبق أن قلتُ لم نكُن في خطّ واحد بالكامل مع أي حزب سياسي في أي وقت من الأوقات، مهما كان ذلك الحزب.. وقد يكون هذا «حزب الحركة القومية (MHP)»، أو «حزب الشعب الجمهوري (CHP)»، أو «حزب العدالة والتنمية (AKP)»، أو «حزب الطريق القويم (DYP)»،
أو «حزب الوطن الأم (ANAP)». -علمًا بأن الحزبين الأخيرين لا وجَود لهما اليوم- لقد اعتبرنا تأييد الإجراءات الصحيحة التي أنجزتها هذه الأحزاب -أيًّا كانت توجهاتها- واجبًا إنسانيًّا. بناء على ذلك في استفتاء 2010م أدليتُ بكلمات لم يسبق أن قلتُها حتى ذلك اليوم؛ قلت إنه استفتاء من أجل الديمقراطية، وعلى الجميع أن يقول «نعم» للتغيير، أي إن مجلس القضاء الأعلى والمدَّعِين العموميين ينبغي أن يتشكل وفق إطار ديمقراطي.
أجل، لكن لم أكُن أقول تلك العبارات لأول مرة، بل قبل 20 عامًا سبق أن قلت “الديمقراطية مرحلة ينبغي أن لا نرجع عنها”، فثاروا
في وجهي وأقاموا القيامة أيضًا، هؤلاء الذين يكتبون اليوم ضدِّي، فاحتجُّوا قائلين: “ما معنى هذا الكلام؟ وهل من صلة بين الإسلام والديمقراطية؟” ولكن فيما بعد قالوا أكثر مما قلت وذهبوا في ذلك بعيدًا، وقالوا إنه يمكن التفكير في أنماط أخرى كذلك.
من ثم فتشابُه المواقف مع حزب ما، لا يعني أننا في خط واحد، ولكن إذا رأينا أنهم يمثِّلون في إجراءاتهم جزءًا من المعقولية، المعقولية من الناحية الحقوقية، والمعقولية من الناحية الديمقراطية، والمعقولية من ناحية خدمة الأُمَّة، والإيجابية في بناء علاقات طيبة مع دول الجوار، فقد نبدو متشاركين معهم في هذه المواقف، وقد نظهر معًا في نفس الصورة. أما الأصل، فإنه لم يكُن لنا أي صلة مع أي حزب سياسي ما عدا التصويت في الانتخابات، ولم يكن لنا أطماع في السلطة، ولم ندخل في مساومات سياسية مع أحد قط، وإلا فلو أردنا ذلك لوجَّهْنا أناسًا في ذلك الاتجاه، ولشكّلوا العمود الفقري لذلك الحزب، ولكانت هناك أصوات أخرى، لكننا لم نرغب في ذلك قَطّ، لم يكن لنا طموح سياسي ألبتة.
أما عملية السلام في المسألة الكردية أكدتُ مرارًا أن مكان المسلم إلى جانب الصلح دائمًا،[1] فالمسلم رمز الصلح والسلام. الحقيقة أن مشاكل المنطقة (جنوبي شرقي تركيا) تلك قد تراكمت عبر عقود، وقد كان السعي لحلّها يتم بالسلاح دائمًا، وبطبيعة الحال كبُرت المشكلة وتفاقمت. أما الآن، فقد دخلنا في مرحلة صلحٍ وتهدئة، ويجب أن لا نعطل هذه المرحلة، لأنها فرصة كبيرة لكي يعيد الطرفان النظر في الأخطاء التي ارتُكبت، وينسوا العداوة فيما بينهم.
نحن كمجتمع مدني دعمنا عملية السلام قبل الحكومة بزمن طويل. ما يقوم به هذا الفقير مجرَّد تشجيع. سبق أن قدمت للحكومة مقترَحات مكتوبة، قلتُ فيها إنه يجب بسْط أجنحة الرعاية على المنطقة (جنوبي شرقي تركيا). يجب رعاية المنطقة على الصعيد التربوي والصعيد الصحي والصعيد الديني وعلى مستوى الأئمَّة والمؤذِّنين، وعلى صعيد جهاز الأمن… والصعيد الثقافي… إلخ. عليكم أن تشملوهم برعايتكم، لأن الناس هناك تَعرَّضوا لمظالم كثيرة، بادِرُوا، وإلا فستُضخَّم المشاكلُ هناك من قِبل بعض الفئات، وتَرثُها الأجيالُ القادمة. ولكن للأسف لم يُولِ أيٌّ منهم الموضوع اهتمامًا.
ولعلَّه مضى على ذلك أكثر من عشر سنوات، فنحن قدَّمنا مقترحاتنا قبلهم بكثير، وعندما لم يسعوا إلى فعل شيء، شجع هذا الفقير الإخوة والأصدقاء والمحبين والمتعاطفين على العمل، فأسَّسوا مدارس عديدة ومعاهد كثيرة لإعداد الطلاب للجامعات والثانويات، وحاولوا أن يقطعوا طريق الإرهاب عبر إقامة أنشطة تربوية. هذا ما حدث فعلًا.
ولكن الغريب أنه لجأ البعض إلى تشويه سمعتنا وروَّجوا أننا ضدَّ عملية السلام. كلاَّ، أبدًا، ولكن مقاربتنا لحل المسألة كانت مختلفة، فنحن ارتأينا أن يكون الحلّ من خلال التربية والتعليم، ومن خلال تأسيس روح التوافق والاتفاق، وكذلك من خلال استثمارات اقتصادية تساعد على إزالة الفقر في المنطقة، وسارت الأنشطة في ذلك الاتجاه بالفعل. ولم تقتصر هذه الأعمال على الداخل التركي، بل انتقلت إلى شمال العراق كذلك، والإخوة أقاموا هنالك نفس الخدمات. أنا لم أذهب ولم أرَ المنجزات شخصيًّا، ولكن ما تمَّ هناك عمل ملحميّ بحقّ.
حقيقة الأمر أن افتراءاتٍ تُلصَق بالخدمة، وتَحدُث تجاوزات واعتداءات، ورغم ذلك فالصواب الذي آمنَّا به وارتأيناه، هو أن نقف كما وقف «جلال الدين الرومي»؛ إذ كانت إحدى رِجلَينا -مَثلنا مثل البركار- في قلب عالَمنا الفكري وصُلْب ثوابتنا وغايتنا السامية، والرِّجْل الأخرى فتحناها للإنسانية كافةً واحتضَنَّا الجميع. هذه هي الفلسفة التي نؤمن بها، هذا خُلُقنا وهذه هي رؤيتنا إزاء الجميع، جميع الناس. ومن يعرف هذا الفقيرَ عن قُرب يشهد على ذلك يقينًا. فيما بعد جاءت الدولة لتتبنَّى الفكرة، ولكن ليس هذا فقط، بل التقينا مِرارًا جماعات الأرثوذكس والأرمن، الذين هُمِّشُوا وأُقْصُوا في تركيا، فجلسنا على المائدة نفسها وأكلنا من الطبق نفسه. بإذن الله ولطفه، باب التواصُل ذاك فتحه لأول مرة في تركيا إخواننا وأصدقاؤنا وأحباؤنا.
يتحدثون عن بعض المسائل المتعلقة بإسرائيل أو مشروع الشرق الأوسط الكبير، إلخ، ربما التقينا الحاخام في وقت ما، والتقينا «بينتو» رئيس «وقف الخمسمائة عام» في إسطنبول وقتها، و«إسحاق ألاتون (Alaton)»، وهو رجل صادق أثنى على الفعاليات التي تنفِّذها الحركة خارج تركيا، وتَصَدَّى أحيانًا لبعض المشكلات هنا، وما فعل ذلك إلا بمشاعرَ إنسانية بحتة. هذا هو كل ما في الأمر، وأعتقد أنه ليس من حقِّ أحد أن يقول كلمة عن علاقة صغيرة كهذه. أما إظهار الحركة كأنها موالية لإسرائيل، وكأنها تفضِّل إسرائيل على أُمَّتِها، فلا يمكن أن يأتوا بشيء يدلُّ على ذلك. أما قبولهم كـ«بشر، وإنسان» كما فعل فخر الإنسانية ، فهذا موضوع آخَر.
ولكنهم يُسنِدُون ادِّعاءاتهم إلى سفينة «ماوي مرمرة»، فعَقِبَ حوار أُجرِيَ معي سألوني: “ما تقييمكم للموضوع؟” قلت: “حبَّذا لو استُخدِمَت الدبلوماسيةُ إلى حدِّها الأخير ولم يُلجَأْ إلى العنف، لأن ذلك سيؤدِّي إلى مشكلات اجتماعية ومضاعفات أخرى”. لا أدري كيف رَفعت الجريدة كلماتي إلى المانشيت، فكانت التفسيرات في تركيا مختلفة، أي كأنني وقفتُ إلى جانب آخرين ضد إخوتنا وإنساننا. ولكن لا، إنما أبديتُ قناعتي تلك حتى لا تحدث مشكلات أخرى. ولو حدث الشيء نفسه اليوم لأبديت نفس الملاحظات. في رأيي ينبغي أن تُستَخدَم الديبلوماسية حتى النهاية، وينبغي أن لا يُدفَع الناسُ إلى الجبهة لتُسفَك دماؤهم وتُزهَق أرواحُهم. هذا ما أردتُ أن أقوله حينئذ.
س: أَوَدُّ أن أسألكم سؤالًا آخر لكي تزيدوا من توضيح أفكاركم المتعلقة بالمشكلة الكردية. قلتم إنكم سبقتم في التحرُّكِ في حل المشكلة الكردية وفتحتم مدارس هناك، ولكن لم يُعِر المسؤولون الموضوعَ اهتمامًا في تلك الأيام. ولكن رغم ذلك فيما بعد، لا سيما في السنوات الخمس الأخيرة، أُسنِدَ إليكم بعض العمليات، مثل التحقيقات الأُولَى حول اتحاد التجمُّعات الكردية، وتسريب مفاوضات أوسلو الثانية[2]، ثم العملية التي استهدفت جهاز الاستخبارات التركية في 7 فبراير 2012م. وقد أعربتم في حوار لكم عن حقّ الأكراد في استخدام اللغة الكردية.فما موقفكم من عملية السلام والمفاوضات الجارية مع حزب العمال الكردستاني؟
ج: يمكن التفاوض مع التنظيم «حزب العمال الكردستاني»، لا نرى في ذلك بأسًا، لكن بشرط الحفاظ على مكانة الدولة ووقارها، وإلا فسيأتي التاريخ غدًا فيقول عن المفاوضين: «هذه هي البِنْيَة الموازية»، أي التقيتموهم، فأنتم تعاملتم مع «الدولة الموازية». ولا أعلِّق على ذلك، فقد قالوا عن الرجل «عبد الله أوجلان (Öcalan)» قاتل الأطفال، وإرهابيّ، ثم عندما اعتقلَته الدولة اعتقلَته بوصفه إرهابيًّا، وأتت به إلى تركيا. ومحاكم تلك الأيام حكمت عليه بالسجن، ولم تكُن الحكومة الحاليَّة موجودة آنذاك، الحكومة السابقة سجنَته.
نحن لم يكُن لدينا تحرُّكات ضدَّهم، ولكن هؤلاء يتصرّفون ضدّنا، لا سيما في هذه الأيام. والحكومة الحاليَّة في تركيا أعتقد أنها لكي تضمن مستقبلها في المنطقة تحاول أن تستدرج أبناء المنطقة إلى جانبها، فتُظهِر تعاطُفًا وتعاوُنًا معهم، وتسعى إلى أن يدفعَ الفاتورةَ ما سمَّوْه «الجماعة» أو «الجامعة» أو «الحركة».
أنا لم أُدْلِ بأي تصريح في هذا الأمر، لكنهم أعلنوه إرهابيًّا في وقتٍ ما، وحكموا عليه بالسجن المؤبد، بل نُوقِشَت مسألة إعدامه في وقت ما. ولكن بسبب الموقف الصارم للاتحاد الأوروبي حول الإعدام لم ينفِّذوا ذلك الحكم، حتى إن حزب الحركة القومية احتجَّ على ذلك، وحزب العدالة والتنمية كان موقفه مماثلًا لموقف حزب الحركة القومية. ولكن فيما بعد تَغَيَّر موقفهم، لماذا؟ لا أدري. هل لكي يُظهِروا تعاطفهم مع أهل المنطقة لاستثمار ذلك في الانتخابات؟ إذا قلتُ ذلك فسأكون أسأتُ الظنّ.
الحقيقة أن شعبنا أُمَّة واحدة بكُرْدِها وتُرْكِها ولازها وشركسها وأبخازها، كلهم أهل الأناضول، وكثيرًا ما نستخدم هذا التعبير. وهذا المفهوم في غاية الأهمية في أدبياتنا، لأنه يعبِّر عن وَحدَتنا وتآلُفنا. لم نعارض مفاوضات أوسلو قَطّ، ولا اللقاء مع زعيم حزب العمال الكردستاني (عبد الله أوجلان)، ولا المفاوضات مع ميليشيات الجبل. وسبق أن قلت في حوار أُجرِيَ مع هذا الفقير قبل فترة وجيزة إن “الصلح هو الأصل.. التوافق هو الأساس”. والذين يحترمون هذه الأفكار ربما يمثلون 80 بالمائة من أبناء المنطقة الشرقية. أما الذين يرفضون هذه الأفكار فهم ميليشيات الجبل، وكذلك مَن تأثَّروا من إيران، وتأثروا من النظام السوري. هؤلاء فقط ينزعجون من هذه الأفكار، أي إن «جميل بايق (Bayık)»[3] ينزعج، و«فهمان حسين»[4] ينزعج، والميليشيات التابعة لمنظمة «بيجاك» في إيران ينزعجون. ما سبب الانزعاج؟ هو ما يُقال دائمًا، أي “تريدون أن تمحوا الهوية الكردية”، بينما بيَّنتُ وشجَّعتُ مرارا ونصحتُ مَن جاء ليلقاني من المعنيين بأن تُقدَّم دروس كردية في التليفزيون وأن تؤسَّس قناة تليفزيونية تخاطبهم. وكذلك أن تُدَرَّس اللغة الكردية في المدارس لغةً اختياريةً، وأن تُدَرَّس أيضًا في الجامعات. إن جميع هذه الأفكار المعقولة والضرورية للمنطقة التي اقترحناها
لو جُمعت فربما شكَّلَت مجلَّدًا كاملًا. ولكن لا أدري سبب تشويه سُمعة الحركة وشيطنتها لدى أهل المنطقة. لقد استهدفَتنا مجموعة إعلامية منحازة، ورُوِّجَ أن «الخدمة» ضدَّ عملية السلام.
لا شكّ أن «عبد الله أوجلان» كان مستاءً من الخدمات التي نقدِّمها لمواطنينا الأكراد في المنطقة، أي كانوا مستائين من تأسيسنا مدارس التقوية والمراكز الثقافية، لأنها تقطع الطريق أمام الذهاب إلى الجبال، كانوا مستائين لأننا نساعد هؤلاء الفقراء، وميليشيات الجبال كانوا منزعجين كذلك، وميليشيات أكراد سوريا، وعناصر «حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)» السوري كذلك كانوا منزعجين، وميليشيات «بيجاك» في إيران كانوا مستائين. يطمعون في أن لا ينقطع طريق الصعود إلى الجبال، لذلك ينزعجون من كل شيء يؤدِّي إلى توحيد الأُمَّة وتأسيس الأُخُوَّة والتوافق بين الأتراك والأكراد. يرغبون في أن يبقى الحقد والكراهية ضدَّ الأتراك مشتعلًا في القلوب، ولا يريدون وقوع شيء يمهِّد للسلام والتآلف أبدًا.
[1] ذكر فضيلة الأستاذ فتح الله كولن في حديثه المنشور على موقع www.herkul.org بعنوان «في سبيل الصلح دائما» أنه يؤيد عملية السلام التي تقوم بها الحكومة في المسألة الكردية تأييده كل عمليات الصلح والسلام، انظر: (http://www.herkul.org/herkul-nagme/398-nagme-her-zaman-sulh-yolunda).
[2] مباحثات أوسلو (Oslo): مباحثات ثنائية جرت بين «حزب العمال الكردستاني» والاستخبارات التركية. وليس من المصرح تماما متى بدأت وهل انتهت أم لا؟ تلك المباحثات التي أجريت في مدينة «أوسلو» العاصمة النرويجية. وقد نشر قسم من تسجيلات المباحثات في أحد المواقع المقربة من حزب العمال الكردستاني.
[3] جميل بايق (Cemil Bayık) اسمه الحركي هو «جُمْعَة». وهو أحد الخمسة المؤسسين لحزب العمال الكردستاني الذين لا يزالون على قيد الحياة. يشكّل هو ومراد قارا يلان (Murat Karayılan) وباخوذ أردال (Bahoz Erdal) مجلس إدارة حزب العمال الكردستاني. فضلا عن أنه أحد أعضاء المجلس التنفيذي لمنظمة اتحاد الجماعات الكردية، وله تأثير على المنظمة من الناحية العسكرية والأيديولجية لا يزال مستمرا.
[4] فهمان حسين (Fehman Hüseyin)، يعرف حركيا باسم «الطبيب باخوذ أردال». وهو أحد القادة رفيعي المستوى في حزب العمال الكردستاني. درس الطب في دمشق. وتولى هو و«مراد قارا يلان» و«جميل بايق» إدارة ومراقبة تشكيلات المنظمة عقب القبض على «عبد الله أوجلان» في 1999م.