بقلم: د. عبدالمجيد بوشبكة
(الزمان التركية) في الحلقة السابقة بينا شيئا من آراء الأستاذ كولن في مجال الفقه السياسي، هذه الآراء التي تسبق الكثير من الباحثين في علم السياسة بمسافات طويلة، سواء تعلق الأمر بالمنظرين والأساتذة الذين دوختهم الفلسفة السياسية الغربية والشرقية بمفاهيمها الرنانة، أو ببعض المتشبثين بالسياسة الشرعية المقلدين والناقلين على حد سواء. إلا أن التاريخ، كما الواقع لم يخل من المفكرين المجتهدين، وقد ذكرنا عددا منهم؛ لكني معجب برجلين مغربيين يستحقان ثناء و قراءة من نوع خاص، إنهما الفقيه الألمعي الدكتور أحمد الريسوني والعالم العامل الدكتور مصطفى بن حمزة. وحتى لا أظلم الرجلين، أدبج كلامي في هذه الحلقة برأي الدكتور الريسوني.
كلما أثير موضوع الأستاذ فتح الله كولن والسيد أردوغان، إلا وتجد من المفتين والمتطاولين على الرأي من أعماه حب أحد الرجلين ليطلق العنان للسانه ومشاعره دون حرج. و الحال أن الأمر خطير يمس الحقوق والحريات والأعراض والشرف، بل ويطال الدماء والأرواح.
وجل الناس فضلا عن المسلمين، يحفظ قول الله تعالى(وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما…) الآية. وكم أعجبني جواب الأستاذ “نوزاد صواش”، المدير العام لمجلة حراء، عن سؤال أحد الطلاب في جامعتنا: “نسمع كثيرا عن الخلاف الحاصل بين الأستاذ كولن والسيد أردغان، فكيف نستطيع فهم ما يجري؟ أجاب ذ.نوزاد: اِعرف الحق بالحق ولا تعرف الحق بالرجال، خد أقوال وأفعال كل رجل على جانب ثم ادرس أقوال كل واحد منهما ونزلها على أفعاله، ثم قارن كل ذلك بالحق فستجد الجواب، كما سيجده كل من يفعل ذلك.
و أقول: “إن كان ذلك متيسرا للباحث عن الحق، فقد يصعب على من يعتقد أن في الموضوع أمورا غير معلنة. مثل ادعائهم خدمة الأستاذ كولن لأجندات خارجية، أو طمعه في السلطة”.
وأرى أن ذلك لا يخرج عن احتمالين، الأول الرجوع إلى الدين والعمل بالقاعدة الشرعية “البينة على المدعي واليمين على من أنكر”. و معلوم أن الحكومة التركية و منذ أحداث الفساد سنة 2013 لم تستطع تقديم بينة أو دليل قانوني مقنع يدين الأستاذ فتح الله، وفي المقابل سمعنا الأستاذ كولن أكثر من مرة يُصرح بأن لا علاقة له بتلك الاتهامات، بل وتحدى من يتهموه أن يشكلوا لجنة محايدة في الموضوع وأنه يقبل بنتائجها مسبقا. والإعلام التركي بعد ذلك نقل بأن فريق العدالة والتنمية هو من صوت ضد تشكيل لجنة وطنية في الموضوع. الاحتمال الثاني هو اتهام الناس في نياتهم ،بدعوى أن كل مخالف أو معارض شخصا كان أو جماعة أو حزبا، فهو متهم بسوء النية، و في ذلك من الخطورة الشيء الكثير، أقلها أن البلاد ستعيش نوعا من حالة الطوارئ غير المعلنة وبموجبها يحق لنا فعل أي شيء، ضدا عن الأعراف و القوانين والحقوق والحريات.
فليسمح لي القارئ الكريم لأقول إن جل ما سبق يعد من قبيل كلام السياسة بمفهومها السلبي، والتي استعاد منها غير واحد من العقلاء. أما كلام العلماء فقليلا ما يقف عنده الناس وهنا أرجع إلى العالم المقاصدي الدكتور الريسوني حفظه الله، وهو شيخي بالمناسبة، فقد أنجزت تحت إشرافه بحث التخرج في الإجازة في التسعينات ولازمته عمرا. فكلما قرأت شيئا من كلام الأستاذ فتح الله كولن، إلا وأفكار الأستاذ الريسوني تتزاحم في ذهني. لكن مادة الطاحونة الإعلامية التي تدور مؤخرا حول موضوع الخدمة والأستاذ فتح الله كولن، وما صاحبها من افتراءات وأكاذيب وتهم، كل ذلك وجدت له عند الأستاذ الريسوني-حفظه الله – جوابا لم أظفر به عند الكثير من المعاصرين. ومن عجيب الأقدار أن من يقرأ أو يسمع للأستاذ كولن حول القضايا السياسية، سيجد صداه أو مثيله عند الأستاذ الريسوني، ولعل القاسم المشترك بين الرجلين، إضافة إلى الفقه التجديدي الواضح، أمرين، الأول: الانشغال بهموم الإسلام والمسلمين، الثاني: قول كلمة الحق وإبداء الرأي في كل قضية وحين. لكن الذي يُلفت النظر في الموضوع، هو ذلك التقارب الكبير في الفهم السياسي عند الرجلين. ففي الوقت الذي لازال فريق من الناس غارقا في جواز ومنع الاشتغال بالسياسة، نجد صاحبينا ذهبا بعيدا في الموضوع. يقول الأستاذ كولن: (السياسة موجودة في كل أمر). والرجل هنا لا يتعب نفسه –كعادته في كل القضايا- في التأصيل أو إقناع الناس، بل نجده دوما قاصدا في كلامه، عميقا في مصطلحاته، مستوعبا في أفكاره. فقد قال:” قبل أن تقول الحكومة عن أمتها “ها هي أمتي” فمن الأفضل والأهم أن تبادر الأمة قبلها وتقول عنها “ها هي حكومتي”، لأن هذا هو المطلوب. و بعكس ذلك، فإن الأمة ترى في حكومتها قوة ظلم مسلطة على رأسها، أي أن بنية الأمة تكون قد انفصلت تماماً عن رأسها.” هذا الكلام قاله الأستاذ كولن قبل سنوات بعيدة من تأسيس حزب العدالة بتركيا، وهذا الكلام هو الذي كان يعمل به الأستاذ دون شوشرة، وفي ظل هذه المفاهيم التي غزت الشعب التركي طولا وعرضا، جاء عهد أردغان. فالأستاذ كولن لا يؤمن بممارسة العمل السياسي بشكله الفج أو المستورد، بل يتعامل مع السياسية وأهلها تعامل الطبيب مع مرضاه والبستاني مع حقله. و بذلك فهو أكبر بكثير من اتهامه بالتدخل في السياسة أو التطاول على أهلها، فتأمل قول الأستاذ كولن العميق في التدبير السياسي، وكأني به أبو حامد الغزالي يتكلم عن التدبير التربوي في القرن الواحد و العشرين. يقول الأستاذ كولن: ” يقوم صاحب البستان بتغذية شجيراته وتنميتها، ويحافظ عليها من الآفات ومن الأعشاب الضارة، ثم يجمع محصولها يوم غلتها. كذلك العلاقة بين الحكومة والأمة.” الخلاصة أن الحديث عن علاقة الدين أو العلماء بالسياسة أمر محسوم عند الأستاذ كولن ومنذ زمن بعيد، لكن هل فهم المنتقدون ذلك؟ هيهات.
هذا ما فهمه وعمل به كثير من كبار العلماء، فاستمع إلى كلام الشيخ الريسوني حفظه الله: “…فعلاقة الدين بالسياسة، هي كعلاقة الطب بالإنسان. فهي علاقة تطبيب وعلاج ووقاية، وليست -وما ينبغي أن تكون- علاقة تنافس وصراع”. و هو نفس الفهم العميق لواجب العلماء، لأنهم ورثة الأنبياء. فاستمع إليه أيضا وهو يرد على بعض الشبهات حول تدخل العلماء في السياسة: ” …ويمكن لقائل أن يقول: ” إن -السياسة الفاضلة- المقصودة في هذا الكلام، هي غير السياسة التي نعنيها ونتعامل بها اليوم. و أقول- يضيف الأستاذ الريسوني-: من هنا بدأت المشكلة، ومن هنا تضاعف احتياج السياسة والسياسيين إلى الشرع وسياسته وإلى الأنبياء وسياستهم. لقد اعتاد كثير من الناس، واعتاد السياسيون خاصة أن يعتقدوا ويصرحوا بأن السياسة لا تتحمل الأخلاق والضوابط الخلقية والعقائدية. وهل للسياسة وأهلها من داء عضال سوى فقدان الحوافز الخلقية ونبذ الضوابط الخلقية؟ وهل لهذا الداء من دواء أنجع من “الطب الشرعي” الذي يعالج القلوب والعقول والنفوس؟ “انتهى كلامه. فلله درّك، نعم هكذا فهم الكبار أن الدور الحقيقي للعلماء هو الدور السياسي، لكن أي سياسة يقصدون؟ وماذا فعل الأستاذ كولن غير أنه شديد الحساسية إلى السياسة العامة التي ينتهجها كثير من ولاة الأمر في بلده تركيا منذ زمن بعيد. ولو أن باحثا استطاع أن يجرُد كتابات وخطب وكل أعمال وأفعال وهموم الناس، فضلا عن العلماء في هذا البلد، لاستحيينا من أنفسنا أمام رجال أعطوا كل شيء ولم يأخذوا أي شيء.
وما ذنب الأستاذ كولن اليوم، إلا طمع أو غرور أو جهل بعض السياسيين. والكل يعلم أن استنكار حركة الخدمة لقضية الفساد سنة2013 كانت القشة التي قسمت ظهر البعير. فأين نحن من قول الشيخ الريسوني حفظه الله؟ و هل ما يقدمه الأستاذ كولن اليوم من نماذج مشرقة في التربية و التبليغ والحوار و البناء ليس في تركيا فقط، بل في جل دول العالم، يستحق التشجيع والدفاع والمساندة بمنطق الشيخ الريسوني؟ أم أن أفعال الأستاذ كولن هذه، هي سبب فتح كل صكوك الاتهام ضده، والتي خلعت جبتها السياسية لتلبس لباس العقيدة حينا ولباس الدين حينا آخر وغيرها من التهم المضحكة المبكية، ثم من هم الذين يتهمون الأستاذ كولن غير خصومه الذين نصبوا أنفسهم محامين و قضاة، في الوقت الذي تشير فيه الوقائع اليومية بأنهم هم الجلادون؟ ثم ماذا فعل الأستاذ كولن غير كلمة الحق التي يبلغها بل ويتشبث بها، كما ينفي بلسان الحال والمقال أي علاقة له بالانقلاب عن الدولة؟ و هل يقبل عاقل أن يستقيم ذلك في عقيدة رجل يردد دائما قولته المشهورة في كل ما يقع بعالم المسلمين:”دولة ضعيفة خير من لا دولة”؟ أما ادعاء البعض بأن ذنب الأستاذ كولن هو التدخل في السياسة، فهذه قضية لا يفهمها إلا العلماء. و بلغة الأستاذ الريسوني: “فهذه قضية عُلمائية قديمة”. (يتبع)
https://youtu.be/UImVKWE-sgc