من دروس الأستاذ فتح الله كولن
س: في مؤتمر عقده رئيس الوزراء في أنقرة مع السفراء الأتراك خاطبهم قائلًا: “اذهبوا وبيّنوا حقيقة هذه العصابة للعالم”، وصدرت أوامر للقيام بتشويه صورة مدارس الخدمة المنتشرة خارج تركيا. فما تعليقكم؟
ج: كلما تردد إلى مسامعي شيء من محاولات تشويه صورة الخدمة في كافة أرجاء العالم، تفطّر قلبي ألمًا، وتوجّهتُ إلى الحق بالاستغاثة. مع الأسف، شهوة التخريب تجاوزت حدود الإنصاف. هذه المؤسسات أنشئت بتضحيات أهالي الأناضول الجسيمة وأهالي البلدان المختلفة من أصحاب الغيرة لأوطانهم. وقد شاهد معظم فئات الشعب التركي هذه المدارس؛ اليميني واليساري والقومي والمتدين واللاديني… معظم شرائح المجتمع… تابعوها بأم أعينهم، ولم أسمع يومًا مَن يقول مِن هؤلاء: “هذه المدارس مضرّة، ويجب إغلاقها”. إن محاربة هذه المدارس لا يمتّ إلى المنطق بشيء لا من حيث المعايير السياسية ولا الوطنية.
إن الذين أسسوا تلك المدارس، أسسوها دون رغبة في منفعة مادية أو معنوية. استصحبوا معهم إلى تلك البلاد حبَّ أهل الأناضول وسخاءهم.. استصحبوا تسامحهم.. استصحبوا قيمنا الإنسانية وأخلاقنا السامية. لذا فإن تجاهُل خدمات هؤلاء الناس الذين حملوا قيمنا، وإيماننا، ولغتنا، وثقافتنا إلى كل أرجاء العالم، ليس إلا جحودا للمعروف وإنكارا للجميل. إن الشمس لا تُحجَب بالغِربال. وإن شعبنا الحكيم يرى ويدرك كل مؤامرة مهما حاولوا إخفاءها. ولعل حالة الهذيان والتخبط الحاصلة الآن تعكس مدى فشلهم في القضاء على هذه الأعمال الطيبة، وعدم قدرتهم على إطفاء نورها. إنهم يتخبطون خَبط عشواء. وينبغي على الجميع أن يدرك هذا أيضًا.
أضف إلى أنكم إذا لم تسعوا إلى توفير تجاوب خارجي إيجابي لتركيا عبر مؤسسات إنسانية حضارية تطوّعية، فعندها يتعذر عليها بمفردها -داخل دنيا معولمة- أن تحقق نهضة بمعزل عن العالم دون علاقات تفاعلية إيجابية مع الدول الأخرى. وهذه الحاجة لا تنطبق على تركيا فحسب، بل تنطبق على كل دولة من دول العالم كذلك. من هذا المنطلق، لا بد أن تبحثوا عن مَسانِد لهذا البلد الطيب وتصلوا إلى الناس الذين يحبونه ويتعاطفون معه في كل أرجاء العالم، لأن السلام العالمي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تعارف الشعوب وفهم بعضها البعض.
إنه لَيحزنني أن أرى المساعي الملحَّة للقضاء على هذه الخدمات الطيبة، أو تشويه صورة هذه الخدمات أمام العالم. ولكن رغم كل شيء سنستمر في احترامنا للجميع، لأن هذا هو أدبنا وهذه هي أخلاقنا، هكذا كنا، وهكذا سنبقى. لن نؤذي أحدًا ابتغاء مكاسب دنيوية فانية ولن نجرح قلب أحد، بل سندعو الجميع إلى رحاب المحبة؛ سندعو، وسنبقى متمسكين في علاقتنا مع أمتنا بكلام الأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي الذي يقول :
“لقد سامحتُ وصفحتُ عن كل من كان سببًا فيما عانيت منه من أذى وإهانة وتعذيب. لم أذق طوال عمري البالغ نيفًا وثمانين سنة شيئًا من لذائذ الدنيا. قضيت حياتي في ميادين الحروب وزنزانات الأسر، أو سجون الوطن ومحاكم البلاد. لم يبق صنف من الآلام والمصاعب لم أتجرعه. عوملت معاملة المجرمين في المحاكم العسكرية العرفية، ونُفيتُ وشُرّدتُ في أرجاء البلاد كالمجرمين. وحُرمت من مخالطة الناس شهورًا في زنزانات البلاد.. تعرضتُ لإهانات متنوعة. مع ذلك أعلن أنني سامحت وصفحت عمن فعل بي ذلك”.
نعم، لقد عاهدتُ نفسي كمؤمنٍ، أن أحمل هذه المشاعر؛ لن أقاطع أحدًا، ولن أحمل ضغينة في قلبي لأحد.. عاهدت أن أستقبل الموت باسمًا، عاهدت نفسي أن أعتبر الجفاء الصادر من الجلال، والوفاء الوارد من الجمال شيئًا واحدًا.
ووصيتي لجميع إخواني الذين يبذلون الغالي والنفيس في المدارس المنتشرة في كل أنحاء العالم ألا يهِنوا، ولا يحزنوا، ولا يخالط اليأسُ قلوبهم. وإن هذه الخدمات الحيوية التي يقدمونها في سبيل هذه الأمة، في سبيل راهنها ومستقبلها، بل في سبيل كافة الإنسانية، سوف تواصل تقدّمها بإذن الله وعنايته، وسوف تستمر القافلة في مسيرتها إلى الأمام. ولا يمكن أن يوقف قافلةَ الأخيار -التي تسير بلطف الله وكرمه- لا الافتراءات ولا محاولات التشويه. وكل إنسان يحمل قلبًا صافيًا وضميرًا نقيًّا في أعماقه سوف يرى ببصيرته حقيقة تلك الافتراءات.
وكما أوضحت في مناسبة أخرى أقول، رغم جميع التصرفات المتزمّتة التي تسعى إلى تخريب دربنا الذي نسير فيه، فإن الأرواح المنفتحة على الحوار والتواصل، وأرباب القلوب الرحيمة المتبسمة، والضمائر المنصفة والمعترفة بذنوبها، والأنفس اللوامة النادمة على أخطائها، والعقول الراغبة في بناء المستقبل على أساس من المنطق والحكمة، ما دامت حية، فإننا سنلملم أجزاء روحنا المهتزّة ونصلحها من جديد ونجدد محبتنا للجميع مرة أخرى، ونبقى مخلصين لهذه المشاعر. هذا ما سنفعله نحن على الدوام.
أما فيما يتعلق بالطرف الآخر، فإني أرى خطورة كبيرة في الخطاب الذي يُستخدَم حيث يؤدي إلى التفريق بين شرائح المجتمع حسب انتماءاتها وزرع الكراهية فيما بينها. فهذا لعب بالنار.. فهل يعقل أن يحرّض الأب أفراد أسرته ضد بعضهم بسبب رؤاهم المختلفة؟ نحن أسرة كبيرة تمتد جذورها إلى مئات السنين، لا يليق بنا أن نتخذ من أفكارنا المتعددة وانتماءاتنا المتنوعة ذريعة لتفجير صراعات فيما بيننا. ينبغي على الجميع أن يحترم آراء الآخرين. لا يصح أبدًا احتكار حرية الرأي والتعبير في فئة بعينها لأنها تمتلك السلطة. فكما يحظى صوت الأغلبية بالاحترام والتقدير، فكذلك يجب أن تنال كل فئة شعبية -مهما كان عددها- نصيبها من الاحترام عينه. وإذا ضيّقتم الخناق على المجتمع، فهذا يعني أنكم تعملون على تفجير أحزمة الزلازل المجتمعية وتغتالون وحدة المجتمع، وهذا ثمن باهظ، يعزّ علينا انجرار البعض إليه مقابل مصالح سياسية آنية.
هذا مع الأسف ما وقع في أحداث «كيزي»، فقد كانت هناك مطالب ديمقراطية، وبدأت المسيرة بنوايا صافية، وبدافع من حساسيات تتعلق بالحفاظ على البيئة. كان بالإمكان احتواؤها بالتسامح والتفاهم، وعن طريق الالتقاء بهم والاستماع إلى آرائهم. ولكن حدث العكس، وتم قمعُهم بعنف. فهل هناك ما يسوّغ إهدار قطرة دم واحدة من أجل إنشاء مركز تسوق هناك؟ وهل يساوي ثمن مركز تسوق قيمة نفس بريئة تزهق؟ تلك المواجهات العنيفة ولّدت بطبيعة الحال حالة من العنف، وأدت إلى تحوّل القضية من مسألة جزئية إلى قضية أمن قومي. ولقد قلقنا كثيرًا في تلك الأيام، عندما شاهدنا شبكات الإجرام انتهزت تلك الفرصةَ ودفعت بعناصرها إلى الشارع لإحداث تخريبات كبيرة. أثناءها لاذ إخواننا في كل أرجاء العالم بالدعاء من أجل تركيا، وراحوا يصلّون صلاة الحاجة. ولكن -مع الأسف- وُجّهت افتراءات شتى بأن الخدمة لها أصابع في هذه الأحداث أيضا. نسأل الله أن يمنحهم شيئا من الروية والإنصاف.