بقلم: محمد جكيب
ما الأسباب الظاهرة والخفية التي جعلت وتجعل حكام تركيا الأقوياء يستهدفون المنظومة التعليمية التربوية المنتسبة إلى حركة الخدمة بالعداء، وإقدامهم على مصادرة معاهد إعداد الطلبة لامتحانات دخول الجامعة، والتضييق على المدارس المعروفة اختصارا بمدارس الفاتح، واستهدافها بصورة مباشرة بالإغلاق وتشريد كوادرها وإلغاء رخصهم، بل واعتقال عدد كبير جدا منهم بدعوى الانتماء إلى ما يسمى الكيان الموازي، زيادة على إغلاق عدد من الجامعات وطرد الكوادر والأكاديميين العاملين فيها، والتلاعب بمصير الطلبة وضمنهم عدد لا يستهان به من الطلبة الأجانب؟ أسئلة كثيرة محيرة فعلا تفرض نفسها على من يتابع الحدث التركي منذ فضائح الفساد، التي تورط فيها وزراء ومقربون من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وإلى أن تفجرت قضية الانقلاب المزعوم.
لم تتوقف الحملة عند هذا الحد، بل إن الدبلوماسية التركية لم تدخر جهدا من أجل محاصرة الدور الكبير الذي قامت به المؤسسة التربوية والتعليمية المنتسبة للخدمة خارج الحدود لتركيا في المقام الأول وللخدمة في المقام الثاني من خلال الضغط على عدد من الدول وخاصة في إفريقيا ومساومتها بالمال والامتيازات حينا والتهديد حينا آخر لتغلق ما يعرف في هذه الدول بالمدارس التركية، بدعوى دعوتها إلى الإرهاب والتشجيع عليه.
فهل يمكن اعتبار القضية مجرد تصفية حسابات بين حكام تركيا الأقوياء والخدمة أم إن الأمر يتعلق بما هو أكبر من ذلك؟ ولماذا يتم استهداف هذه المدارس التي قدمت على مدى سنين طويلة صورة إيجابية عن تركيا، وظلت تقوم بدور دبلوماسي كبير غير مباشر قد لا تنجح في تحقيقه الدبلوماسية السياسية، ولم تتوان عن القيام بمهمة حضارية تسوق تركيا بلدا ناميا وديمقراطيا مستقرا له صفر مشاكل مع دول الجوار، في وقت حرصت فيه هذه المدارس على تقديم صورة مرتكزها الأساسي هو المشترك الإنساني القائم على القيم والأخلاق.
قبل سنوات في إحدى دورات أولمبياد اللغة التركية، الذي كانت تشرف عليه مؤسسات الخدمة والذي يشارك فيه طلبة هذه المدارس من العالم كله وقف رئيس الوزراء (أردوغان) وهو يحتفي بحماس ويتحدث بإعجاب وتقدير عن الدور الريادي والكبير الذي تقوم به هذه المؤسسات خارج تركيا ونجاحها في تقديم صورة مشرفة عن تركيا والمجتمع التركي وكم كان الناس معجبين بتعليقات رئيس الوزراء التركي، وهم يقابلون كلماته بالهتاف والتصفيق، فما الذي تغير لتصير هذه المدارس بين عشية وضحاها معاقل للإرهاب والعنف حسب ادعاء حكام تركيا الأقوياء؟ كيف ستفسر الدول التي يضغط عليها حكام تركيا الأقوياء لتغلق المدارس التناقض في المواقف والخطاب، وهل يجوز الاستهانة بذكاء هذه الدول حين مطالبتها بحذف مظهر إيجابي يعود بالمنفعة عليها، وإغلاق مدارس ومعاهد تلتزم بتطبيق المناهج والبرامج المحلية، وتحافظ على ثقافة المجتمع وقيمه وتزرع في أفئدة ناشئتها محبة الوطن والغيرة عليه؟
وقبل سنوات قليلة كان بعض وسائل الإعلام يتناقل صورا لسياسيين ومسؤولين أتراك وهم يزورون هذه المدارس في مناطق مختلفة من العالم بما فيهم الرئيس التركي آنئذ، ورئيس الوزراء، ولم تكن تعليقاتهم تخرج عن إطار الإشادة بقيمة هذه المدارس ودورها في نشر ثقافة السلام والتعايش والتعريف بتركيا دولة ديمقراطية ناجحة، فلماذا هذا الانقلاب الكلي في المواقف والخطاب، فإذا كان السبب هو جرأة من تخرج من هذه المدارس في تركيا على قول الحق والدفاع عن مصالح الوطن، فإن جوهر الأخلاق والقيم ليس ملكا لأحد يكيفها حسب أهوائه.
لا يتيه الملاحظ كثيرا حتى يدرك أن المستهدف هو ما تمثله هذه المدارس من قيم أخلاقية إيجابية وما تحمله من رؤى فكرية صادقة، وكأن الذي يحرص على إغلاقها وتشريد كوادرها والتضييق عليهم أينما وجدوا، إنما يستهدف الحيلولة دون أن تغرس بذور الخير والوعي في تربة المجتمعات التي فتحت فيها، ويستهدف المنظومة الفكرية الإيجابية التي أوحت وأقنعت بفتحها وساهمت، بشكل كبير في إعداد الأطر التي صنعت نجاحها وحولتها إلى علامة دولية تعكس الوجه الإيجابي لتركيا، ومن هنا يبرز السؤال العريض لمصلحة من يجتهد حكام تركيا الأقوياء في محاربة هذه المنظومة، وتبديد نجاحها.
المعروف عن هذه المدارس هو عدم ارتباطها عضويا بشخص فتح الله كولن، الذي انحصر دوره في كونه أوحى وشجع أفراد المجتمع الغيورين على أخذ زمام تربية أولادهم بأيديهم، ووضع طاقتهم كلها رهن إشارة الدولة من أجل مساعدتها على القيام بهذه المهمة الجليلة في إطار القانون واحترام الخصوصية الثقافية، ولذلك فإن من يستهدف هذه المدارس إنما يستهدف جهد المجتمع وطاقته التي أوقفها من أجل الرقي بأمته ويستهدف النجاح الذي بناه المجتمع من أجل احتلال الوطن إلى المراتب الأمامية في التربية والتعليم، إن إغلاق مدرسة وتشريد مرب ومعلم والزج به في غياهب السجن، لا يعني سوى شيء هو تجهيل المجتمع وتوقيف مسيرة العلم والمعرفة.
يعتبر الأستاذ فتح الله كولن التربية والتعليم قاطرة تقطر البناء الحضاري والتشييد والعمران، ودعامة يقوم عليها وجود الإنسان الصالح في المجتمع الصالح، ولم يفتأ يلح على أن أسباب تراجع الأمم عن القيام بدور الشهود الحضاري يرجع إلى توقف مجال التربية والتعليم باعتباره مجالا حيويا عن الارتباط بشروط استمرار العطاء والإنتاج وخدمة الإنسان، ولاسترجاع هذا الدور يقتضي إعلان النفير العام في مجال التربية والتعليم، ويقتضي مزج التربية والتعليم في بوتقة واحدة تخلق التوازن بين العقل والقلب، أي الجمع بين ما يرقى بقلب الإنسان وروحه وأخلاقه، وما يرقى بعقله ومداركه المعرفية وربطها بالوجود من خلال العلم الطبيعي والمعارف المتصلة التي تتيح فهم الوجود وإدراك نظام حركته في أفق تسخير الحقائق المتوصل إلها.
إذا كان لكولن أي فضل على هذه المدارس فهو فضل تشجيع ثلة من حملة الخير إلى العالم على فتحها كما يؤكد هو ذلك، ولذلك فإن هذه المدارس ليست ملكا لأحد بل هي ملك للشخصية المعنوية التي ساهم فيها أفراد كثيرون عبر العالم كله، بعبارة أخرى إن هذه المدارس ملك للشخصية المعنوية للإنسانية في كل مكان، لأنها صرح للتسامح والتعايش وبناء الإنسان الراشد، وهذا هو سر نجاحها وإقبال الناس عليها وخاصة في مناطق التوتر والصراعات.
فعلى سبيل المثال كانت هذه المدارس حائلا في جنوب تركيا دون انجراف عدد كبير من الشباب خلف التيارات الإرهابية المسلحة، وأنقذت أعدادا كبيرة من أبناء إفريقيا من الجهل والفقر والضياع، وإذا كان هناك من نجاح ينبغي الوقوف عليه بالنسبة لهذه لمدارس فهو ذلك النجاح الذي يتحقق في الولايات المتحدة الأمريكية في إطار برنامج “شارتر سكول” وهو برنامج يتيح للأشخاص المعنويين والماديين فرصة الإشراف وتسيير المؤسسات التربوية، بعدما يؤكد من يرشحون أنفسهم لهذه المهمة كفاءتهم في تسيير مشروع تربوي وتدبيره، وأهم ملاحظة يمكن التسطير عليها في هذا المقام هو النجاح الذي يحققه من يسترشدون بأفكار كولن ممن تحملوا مسؤولية الإشراف على هذه المدارس، في المناطق ذات التوتر الاجتماعي المرتفع كالمناطق التي يوجد فيها غالبية سوداء أو أغالبية لاتينية.
قد ينجح من يريد إغلاق هذه المدارس في أهدافهم بالطرق المشروعة وغير المشروعة، لكنهم بالتأكيد لن يتم القضاء على تلك الروح التي تعتقد بأن هذه المدارس فسائل الخير غرست في التربة الطيبة، وهي قادرة على الانبعاث مرات ومرات في أنواع مختلفة من الورد والأزهار.