بقلم: نظيف آباك
جاءت الصفعة الأقوى للسياسة الخارجية التركية تحت قيادة حزب العدالة والتنمية من الداخل، من نائب رئيس الوزراء والمتحدث باسم الحكومة نعمان كورتولموش، حيث قال: “سياستنا في سوريا كانت مليئة بالأخطاء منذ البداية…”.
هل نقول لهم الآن “صباح الخير بليل؟!”
ماذا يقصد نعمان كورتولموش بهذا؟ يريد أن يرسل رسائل حول إفلاس السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية تجاه سوريا…
ما الذي لم يفلس في سياسات تركيا تحت حكم حزب العدالة والتنمية! فالذين عملوا حساباتهم على تلقين درس لإسرائيل من أجل تلميع صورتهم في الداخل والمنطقة من خلال جمع النشطاء من هنا وهناك ووضعهم على متن سفينة المساعدات مافي مرمرة وإرسالها إلى قطاع غزة عندما اتجهت الدفة نحو الواقع السياسي، وجدنا أنهم باعوا دماء من سقطوا نتيجة الاعتداء الإسرائيلي على السفينة، وتخلوا عن نعرات دعم القضية الفلسطينية وتراجعوا عن طلب نشرة حمراء من الإنتربول في حق المتورطين الإسرائيليين في الحادث الغاشم، وبدأوا يركضون خلف مصالحهم السياسية. حتى إن الأمر وصل بهم إلى وصف منسقي مافي مرمرة بـ”الخونة” بعد أن نفخوا فيهم لينظموا هذه الرحلة وبعد أن كانوا يحصلون على دعم كبير من حزب العدالة والتنمية.
واليوم يحاولون إنقاذ أنفسهم من تبعات هذه السياسات بوضع فاتورتها أمام وزير الخارجية في ذلك الوقت أحمد داود أوغلو ليدفع حسابها؟
وماذا عن “عملية الانفتاح” التي أعلن عنها أردوغان عند توليه رئاسة الوزراء لتصفير المشكلات داخليًا وخارجيًا؟ ألم يكونوا يتهمون كل من قالوا محذرين: “الإرهاب من الممكن أن ينفجر في تركيا جراء هذه السياسات” بالخيانة، أولم يغضوا أبصارهم عن تسليح حزب العمال الكردستاني بحجة استمرار المفاوضات معه لإقامة السلام الكردي وتجاهلوا إعادة تشكيله صفوفه واستعادة قوته السابقة وفرضه الجزية على المواطنين قسرًا في أماكن سيطرته؟ والأكراد الذين أراد حزب العدالة والتنمية الحاكم أن يستخدمهم كعمال عبيد في الطريق نحو النظام الرئاسي لما اعترضوا على هذا النظام القمعي المقترح أطاح أردوغان بطاولة المفاوضات وانقلب على الأكراد وبدأت عمليات اعتقالات موسعة وهدم قراهم ومنازلهم وتصفية حزبهم (حزب الشعوب الديمقراطي الكردي).
لنعد مرة أخرى إلى السياسات التركية تجاه سوريا؛ فنعمان كورتولموش أراد أن يلقي الكرة في ملعب داود أوغلو بمهارة فذة ومكر نادر، بالتأكيد كان الأمر سهلًا لأن داود أوغلو غير موجود على الساحة السياسية بعد إقالته من طرف أردوغان وتهميش دوره، وفي هذه الحالة يلح سؤال نفسه “إذا كانت سياسات داود أوغلو خاطئة وأنتم عالمين بها منذ البداية، فلماذا لم تحذروه وتنبهوه عليها آنذاك”.
المغامرون وعشاق الإثارة والفرقعة الإعلامية لم يعيروا سمعاً لأحد
الواقع كان هناك من حذروا، بصدق وإخلاص، من مغبة المنحدر الذي تتجه إليه تركيا قبل اشتعال الأحداث إلى هذا الحد، أتذكرون عندما حذر الأستاذ فتح الله كولن في حوار صحفي له مع مجلة “The Atlantic” في 15 أغسطس 2013، بأسلوب رقيق ومنمق، مشيرًا إلى الأخطاء الموجودة في سياسات تركيا تجاه الشرق الأوسط؟.
هذه التصريحات وجد بعضها مكانه في الصحافة والبعض الآخر لم يتمكن، على سبيل المثال، أرسل الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، أحد علماء سوريا، خطابًا إلى الأستاذ فتح الله كولن، قبل أن تتحول الثورة السورية إلى حرب أهلية، مؤكدًا أن النظام السوري من الصعب إخضاعه عنوة بقوة السلاح، وأن الحل في التغيير القائم على الحوار المشترك، وهذا ما نقله الأستاذ كولن لأصحاب الشأن في تركيا، إلا أن المغامرين وعشاق الإثارة والفرقعة الإعلامية لم يعيروا سمعًا لأحد.
لما ظهر أن داود أوغلو أجرى زيارة للأستاذ كولن في الولايات المتحدة شهدت تركيا جدلاً حول سبب ومحتوى هذه الزيارة، إلا أن الشهود على هذه الزيارة التي حرص فريق داود أوغلو على بقاءها قيد الكتمان حتى اختفى داود أوغلو من الساحة السياسية، أكدوا أن الجانبين تناولا في المقام الأول سياسات تركيا تجاه سوريا.
استمرت الزيارة ما يقرب من ساعتين، شرح خلالها داود أوغلو “الأعمال الرائعة التي قاموا بها في سوريا”، وكان رد الأستاذ كولن تأكيدًا على ضرورة مساعدة سوريا في العبور إلى الحقبة الديمقراطية.
ويشير الشهود إلى أن داود أوغلو كان اشتكى إلى الأستاذ كولن من الانتقادات المتعلقة بالملف السوري على قنوات التليفزيون والصحف المقربة من حركة الخدمة.
من هو موجِّه داود أوغلو
السؤال الذي يلح نفسه هو: ممن يتلقى داود أوغلو الأوامر ويأخذ بقول من؟ بالتأكيد الرئيس رجب طيب أردوغان، والتاريخ شاهدٌ على ذلك، ولا نعلم إذا كان ذلك نابعًا من الخوف أو الحب أو قلة الحيلة؟
حسنًا، فهل داود أوغلو هو المسؤول الوحيد عن فشل سياسة تركيا تجاه سوريا؟ بالتأكيد لا!
نقدم لكم واقعتين حقيقتين عبر أشخاص عاشوهما فعلاً:
الأولى: لقد وُجّه لأردوغان أسئلة عديدة حول قضايا الساعة وسط حضور ما لا يقل عن عشرة من مسؤولي وسائل الإعلام، وأجاب أردوغان على جميع الأسئلة تقريبًا، ومع أن الأزمة السورية لم تكن قد تحولت إلى حرب داخلية بعدُ، لكن أردوغان كان يطلق خطابات رنانة من قبيل “سوريا مسألة داخلية بالنسبة لنا”، ثم طرح عليه أحد المسؤولين الإعلاميين هذا السؤال: “تقولون إن سوريا مسألة داخلية، هل هذا يعني أنكم تخططون للتدخل في سوريا؟”
وبحسب ما نقله أحد شهود هذه الحادثة لي ومجموعة من الصحفيين في أنقرة، فإن أردوغان توقف قليلاً بعد طرح هذا السؤال، ثم قال للحضور “إذا أطفأتم أجهزة التسجيل سأقول لكم بضعة كلمات، وكان ما أراده أردوغان، فرفعت الأقلام، وأطفأت أجهزة التسجيل، وعندها قال “ماذا سيحدث إذا دخلنا سوريا؟”، وكشف عن نية التدخل في سوريا.
من الممكن أن أسرد أسماء هؤلاء المسئولون الإعلاميون جميعًا واحدًا تلو الآخر، ولكنهم سينكرون جميعًا؛ لأن الخوف قد تمكن من أعماق قلوبهم، حيث لم يعد أردوغان يعرف القانون ويلتزم بقرارات المحكمة الدستورية، لذلك لن أعاتب هؤلاء الإعلاميون اليوم، إلا أنني متأكد من أن البعض جلس ودون هذه الواقعة في مذكراته منذ فترة طويلة.
الثانية، كان أردوغان يجلس مع عدد من رجال الأعمال، ودخل عليه أحد المسئولين يظهر على وجهه القلق والذعر طلب منه إجراء محادثة تليفونية عاجلة، حاول رجال الأعمال الخروج إلا أنهم اضطروا للبقاء بطلب من أردوغان، كانت المكالمة الهاتفية من الاستخبارات التركية للاستفسار حول عمليات نقل السلاح إلى سوريا، مهما حاول أردوغان التغطية على مضمون المكالمة إلا أنه كان واضحاً من الأسلوب والكلمات المستخدمة أن المكالمة دارت حول شحنات السلاح المتجهة إلى سوريا ومخططات إسقاط الأسد.
ضاقت الأرض على رجال الأعمال بما رحبت، وندموا على حضور هذا اللقاء، إلا أنهم لم يكن أمامهم خيار آخر، زد أن بعض رجال الأعمال الذين يضخون الاستثمارات في هذه المناطق وسوريا كانوا يعارضون السياسات العنيفة في هذا الصدد، إلا أنهم كانوا يتجنبون معارضة أردوغان، وإذا بأردوغان يزأر قائلًا: “افعلوا ما يلزم من أجل إسقاط هذا الرجل”.
هل فهمتم الآن سبب اهتمام أردوغان الشديد وغضبه الشخصي على قضية شاحنات جهاز الاستخبارات التركية التي كانت في طريقها إلى المجموعات المعارضة المتطرفة محملة بالسلاح؟.
عبد الله جول كذلك ليس معصومًا!
قال زعيم المعارضة التركية لأردوغان تعليقًا على سياساته تجاه سوريا “إن السلاح الذي أرسلته إلى المقاتلات نتيجة للسياسات الخاطئة تجاه سوريا يستخدم الآن ضد تركيا”، الحقيقة أن كل من كان يحضر اجتماعات أردوغان كان يعرف جيدًا منطقه في هذه القضية، وهو “فليكن ما يكن ولكن الأهم هو سقوط الأسد”، وكان هناك مجموعة من الوزراء يؤمنون بأن سياسات تركيا تجاه سوريا خاطئة، حتى الرئيس السابق عبد الله جول نفسه!، إلا أن مشاعر الخوف سيطرت عليهم جميعًا، وأصبح داود أوغلو الآن شماعة تعلق عليها جميع أخطاء حزب العدالة والتنمية.
نعم! في الحقيقة كانت سياسات تركيا تجاه سوريا خاطئة منذ البداية، ولكن المسئول الأول والرئيس عنها معروف، والآن هذا الشخص نفسه يجر البلاد بكل قوة نحو منحدر محفوف بالمخاطر، ويشهده الكثير من المقربين منه في صمت مطبق، حيث إنهم يخافون التكلم .. وبعد مرور هذه الأيام سيحاول العديد من السياسيين الجبناء، أمثال نعمان كورتولموش، التنصل من هذه الأخطاء، لتبرئة أنفسهم وإلقاء المسؤولية عن كاهلهم قائلين: “لقد كنت أرى في هذه الأيام أن هذه السياسات خاطئة”.
لا لا.. إنكم جميعًا مسؤولون عن هذه السياسة الفاشلة!