بقلم: سليم جوندوز
يتحرك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان استناداً إلى قوة الدولة وإمكانياتها، ويتجول برفقة مئات الحراس الشخصيين وعشرات المواكب ويخضع طعامه للفحص في معامل خاصة ويتنقل في الولايات المتحدة الأمريكية بسيارات حراسة خاصة مصطحبة من تركيا..
ومن ثم يقوم هذا الرجل، وهذا هو وضعه، ويوجه سؤالاً إلى الأستاذ فتح الله كولن: “لماذا لا تأتي إلى تركيا؟ أتفتقر للجراءة والشجاعة؟!”. بكل هذه الوقاحة يتحدى شخصًا بلغ من العمر 75 عامًا خلال لقاءاته الجماهيرية بالاعتماد على النظام القضائي الأشبه بالمافيا الذي أسسه هو بنفسه ويتحكم فيه عن بعد.
ما هو القضاء؟ ومن هم القضاة؟
إن القضاة العاملين في محاكم تركيا، بعد قلب جهاز القضاء رأساً على عقب، بظهور فضائح الفساد والرشوة، وحدوث “المحاولة الانقلابية المصمّمة على الفشل”، هم رفقاء الدرب مع أصحاب السلطة الحاكمة، الذين مزّقوا الدستور الحامي لحقوق الإنسان كل ممزّق وجعلوه أعجوبة لم يعد يعرفه أحد.. إنهم قضاة صوريون يتحكم فيهم أردوغان عن بعد من قصره عبر وزير العدل بكر بوزداغ.. إنهم قضاة القصر الذين أخلوا سبيل 40 ألف مجرم ليفسحوا المجال لحبس 50 ألف إنسان من الأبرياء، مرتكبين بذلك غدراً لم ير التاريخ مثيلاً له.
ما هى الشجاعة؟
الشجاعة هى عدم الخوف والارتعاد من القرار الذي اتخذته لجنة التحقيق البرلمانية في المحاولة الانقلابية، الذي يطالب بالاستماع لشهادة الأستاذ فتح الله كولن، وعدم المبادرة إلى بذل جهود جبارة لعرقلة تحقق هذا الأمر.
الشجاعة هى عدم تهريب رئيسيِ هيئة الأركان العامة وجهاز المخابرات، الشخصيتان الأساسيتان في محاولة الانقلاب، ومنع مثولهما أمام هذه اللجنة للإدلاء بشهادتيهما حول ملابسات الانقلاب.
الشجاعة هى عدم التحكم عن بعد في اللجنة البرلمانية المشكلة من أجل التحقيق في الانقلاب الفاشل من خلال إصدار أوامر وتوجيهات لها إذا خرجت عن الإطار المرسوم لها.
الشجاعة هى عدم إغلاق عشرات الصحف والقنوات التليفزيونية لتبنّيها سياسة تحريرية معارضة، وفتح المجال أمامها للمنافسة النزيهة مع إعلام السلطة، لكي يعقد الرأي العام مقارنة بين المعلومات التي تقدمها وبين تلك التي يعرضها فيتبين الصحيحَ من السقيم بعد إعمال عقله وفكره.
الشجاعة هى عدم قطع خطوط الإنترنت في البلاد بهدف الحيلولة دون انكشاف القناع عن الأعمال والعلاقات المشبوهة لصهر أردوغان؛ وزير الطاقة برات ألبيراك.
الشجاعة هى التجول بين المواطنين بمعزلٍ عن طابور الحراسة الشخصية.
الشجاعة هى الظهور مع أي مقدم برامج وعلى أي شاشة، مثلما يفعل الأستاذ فتح الله كولن.
الشجاعة هى المثول أمام صحفيٍّ محايدٍ يستطيع طرح الأسئلة الضرورية بعد الامتناع عن ذلك خوفاً وهلعاً على مدار عشر سنوات مضت.
الشجاعة هى الاجتماع مع زعماء المعارضة ونقاش القضايا على شاشة التليفزيون دون قلق.
الشجاعة هى التغلب على الخوف والذهاب إلى الاستاد لحضور “كأس الرئاسة” التي أقيمت على شرف الرئيس.
الشجاعة هى إظهار “الشهادة الجامعية” إن وجدت؛ أو الإعلان كالأبطال عن عدم وجودها أصلاً إن كانت لا توجد.
الشجاعة هى خوض الانتخابات دون تكميم أفواه كل المعارضين ومؤسساتهم الإعلامية من ألفها إلى يائها.
الشجاعة هى عدم الخوف من المحاكمة وعدم الإقدام على فصل آلاف القضاة من مناصبهم، خشيةَ ظهور أعمال الفساد والرشوة وممارسة اللصوصية، ومخافةَ الاعتقال والزجّ إلى السجن.
الشجاعة هى إعلان الرضاء دون ترددٍ بنتائج لجنة دولية ستتولى التحقيق في محاولة الانقلاب التي أريد لها الفشل حتى تصبح شماعة لعملية تصفية لاترحم، مثلما أعلن الأستاذ فتح الله كولن كالبطل المغوار.
الشجاعة ليست في اصطحاب بلال أردوغان الابن داخل سيارة الرئاسة الخاصة لتهريبه من المثول أمام القضاء.
الشجاعة ليست في هروب المسؤولين البارزين في الحزب الحاكم وأقاربهم، من الخدمة العسكرية مقابل دفع المبلغ المطلوب، ومن ثم إلقاء خطابات نارية رنانة في حفلات جنازات الشهداء، ولوم شقيقة الشهيد قائلاً “ماذا نفعل.. فلماذا اختار شقيقك مهنة الجندية إذن”، ووصف والد الشهيد بـ”المختلّ عقليًا”، وذلك لمجرد أنهما انتقدا أخطاء المسؤولين في مكافحة الإرهاب.
الشجاعة ليست في اعتقال محامي كولن واعتقال كل أقاربه الذين يحملون نفس لقب عائلته، ضارباً بذلك بالآية الكريمة (ولا تزر وازرة وزر أخرى) عرض الحائط.
الشجاعة ليست في اعتقال الأبرياء، ومن ثم اعتقال كل المحامين المدافعين عنهم، الأمر الذي ينطبق على المثل القائل “إطلاق سراح الكلاب ومن ثم منع استخدام الحجر”.
وكذلك لا تكمن الشجاعة في تلك الدعوة الخبيثة الموجهة من جانب أردوغان إلى الأستاذ كولن قبيل إعلان الحرب عليه قائلاً “حان الوقت لتنهي هذه الغربة وتعودَ إلى الوطن”، ولا في التساؤل “لماذا لا تعود إلى بلدك” بعد أن جهّز ناديه وزبانيته من الشرطة والقضاة ليحيكوا كل المكائد والمؤامرات من أجل القتل والإبادة.
إنما الشجاعة هى البطولة التي تتجسّد في النضال من أجل قضاء حرّ مستقل، والحرصِ على احترام حقوق الإنسان، والالتزامِ بمبادئ القانون العالمية.
هذه هي الشجاعة وتلك هي البطولة… وما سواها عنتريات لا تقتل ذبابة!