إعداد: منى سليمان (*)
القاهرة (الزمان التركية) شهد عام 2016 الذي يوشك على الانتهاء العديد من المفاجأت السياسية الصادمة التي ستمتد تداعياتها لأعوام قادمة، ومنها على المستوى الدولي فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية وهو كان الأبعد عن الفوز في كافة استطلاعات الرأى، وكذلك شكلت نتيجة الاستفتاء البريطاني بالموافقة على الخروج من الأتحاد الأوروبي صدمة لمؤيدي الأتحاد وربما تكون تلك النتيجة بداية لتفكك الاتحاد رغم النجاحات التي حققها كنموذج للتكامل الإقليمي.
وعلى مستوى الشرق الأوسط فقد كانت المفاجأة هذا العام بعيدة عن دول ما عرف “بثورات الربيع العربي” التي مازالت تعاني من أزمات سياسية وأمنية وإقتصادية جمة. جاءت المفاجأة من الجوار التركي .. ففي التاسعة والنصف مساء بتوقيت إسطنبول ليلة 15 يوليو 2016 أذيع بيان على قناة فضائية تركية يفيد بحدوث محاولة انقلاب عسكري، ونقلت مشاهد لبعض الجنود بالجيش التركي وهم يغلقون جسر البسفور في اتجاه واحد، الأمر الذي مثل مفاجأة صادمة للشعب التركي والعالم أجمع .. وكتم الجميع أنفاسه لمتابعة كلمات الرئيس التركي ورئيس وزرائه، وقبل استيعاب ما يحدث أذيع بيان جديد على نفس القناة الفضائية يفيد بانتهاء محاولة الانقلاب العسكري وفشلها والسيطرة عليها وعلى كافة أرجاء الدولة .. مما آثار حيرة الجميع داخل وخارج تركيا هل ما يتابعونه أحداث مسلسل تركي من تلك الأعمال التي ذاع صيتها؟ أم حقيقة فعلية؟ ودون الخوض في تفاصيل هذه الليلة التي قُتلت بحثًا وتفسيرًا وتحليلًا على مدار الأشهر الخمس الماضية .. إلا أن هناك العديد من التساؤلات المشروعة التي مازالت تتبادر للأذهان حول أحداث ليلة 15 يوليو وهي بالفعل “أحداث” وليست انقلاب أو محاولة للانقلاب وهذه التساؤلات هي:
من دبر محاولة الانقلاب العسكري التركي المزعوم عام 2016؟
فور الإعلان عن وجود محاولة لانقلاب عسكري اتهم الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” مواطنه المفكر الإسلامي المقيم بالولايات المتحدة الأمريكية “فتح الله جولن” الذي أعلنه “أردوغان” خصما له منذ عام 2013 لأسباب كثيرة ليس هذا محلها الأن بتدبير الانقلاب، هكذا بكل بساطة دون تحقيق أو أدلة قانونية ملموسة تؤكد هذا الاتهام. وهذا رغم إصدار “جولن” (75 عاما) بيانًا يدين فيه محاولة الإنقلاب وينفي صلته به، إلا أن أردوغان جدد اتهامه، وهو اتهام عار من الصحة ويفتقد لأى منطق عقلي سليم، فكيف لمفكر ديني إسلامي قاد منذ 40 عاما حركة فكرية واسعة لنشر القيم الدينية الوسطية في أرجاء تركيا وألهم مؤيديه لتأسيس مئات المنشات التعليمية والتربوية وانتشرت حركته لأرجاء المعمورة أن يدبر محاولة انقلاب عسكري!؟
وكيف يتواصل شخص مدني مع قادة الانقلاب العسكريين وكيف يتقبلون أوامره؟ وهو يبعد مئات الأميال عن تركيا في ولاية بنسلفانيا الأمريكية التي استقر بها منذ عام 1997 حتى الآن، وهل تخرج مدبري محاولة الانقلاب المزعوم من المؤسسات التعليمية التابعة لحركة “جولن” دليل كاف لإدانة الأخير بتدبير الإنقلاب؟ بالطبع لا .. فهل يمكن محاكمة رئيس جامعة أنقرة أو إسطنبول على ارتكاب أحد الطلاب بعد تخرجه لجريمة قتل أو سرقة مثلا؟
وهل يمكن أن يخاطر “جولن” بحركته المدنية الدعوية واسعة الانتشار التي تحظى بمصداقية وثقة دولية وشهادات عالمية على نجاحها وتفردها بين حركات ومنظمات المجتمع المدني العاملة في مجال التعليم والتربية مقابل تدبير انقلاب عسكري فاشل؟
هل “جولن” بهذا التفكير الساذج؟! بالطبع لا؛ لأنه من أهم المفكرين العالميين وفق استطلاع مجلة فورين بوليسي لعام 2008، ولم ولن يقبل على عمل ضد مبادئه وأفكاره التي آمن بها الملايين وألهمتهم حول العالم لخدمة الإنسانية.
ونأتي للسؤال الثاني من نفذ الانقلاب؟ نقلت القنوات الفضائية التركية مشاهد لعشرات الجنود يسيطرون على جسر البسفور ولم تتعرض أى منشأة حكومية أو خاصة لأى محاولة تخريب أو سيطرة لمدة ساعتين ثم عندما دعا أردوغان الشعب التركي للتظاهر والدفاع عن دولته، بدأت بعض الصدامات بين أفراد الشعب التركي والجنود، ولم يعلن أى من القادة العسكريين بالجيش التركي تأييدهم للإنقلاب أو تنفيذه؟ فمن قام به؟ وكيف لمن دبر ونفذ الانقلاب الدفع بعدد قليل من الجنود مثل ما رأيناه؟ أليس الأجدر أن يحشد عدد أكبر من القوات والجنود لإحكام السيطرة على دولة كبيرة بحجم الدولة التركية؟ أليس الأجدر به قبل تنفيذ الانقلاب أن يضمن تأييد عدد من القادة العسكريين له؟ إن اعترافات الجنود في التحقيقات الأولية كشفت أن الأوامر العسكرية صدرت لهم بالنزول للشارع لتنفيذ “تدريب عسكري” وليس “انقلاب” .. وهذا الامر يتطلب التوقف عنده وتحليله كثيرًا، ففي دولة لها تاريخ طويل في الانقلابات العسكرية كتركيا (شهد التاريخ التركي المعاصر أكثر من أربع انقلابات كبيرة وهي أعوام 1960،1970،1980، والانقلاب الأبيض عام1997)، كانت أدبيات الانقلابات العسكرية تلزم العقل المدبر والمنفذ للانقلاب وكان جهة واحدة هي المؤسسة العسكرية أن تعلن عن نفسها مباشرة وتعلن كذلك عن مطالبها مباشرة فقد كان الانقلاب العسكري بمثابة “عمل وطنى” من وجهة نظر القائمين عليه في تلك الأزمان، وليس عملا ضد الديمقراطية، وهذا بعكس ما رأيناه ليله 15 يوليو/تموز، فلم يصدر أى بيان عسكري سوى ما أذيع فضائياً ولم تظهر أى شخصية عسكرية تتبني هذا الانقلاب أو تحدد مطالبها منه. وحتى هذه اللحظة وبعد خمس شهور من الاعتقالات والتحقيقات لم نعرف من منفذ محاولة الانقلاب العسكري التركي وهذا تساؤل مشروع يجب على الحكومة التركية الإجابة عليه؟.
ثم يأتي التساؤل الأهم وهو ما الهدف من محاولة الانقلاب؟ خلال الانقلابات الأربع السابقة في تاريخ تركيا منذ عام 1960، كان الهدف المعلن لها جميعًا الحفاظ على المبادىء الأتاتوركية العلمانية للدولة، وكانت المؤسسة العسكرية عقب كل انقلاب توسع صلاحياتها وامتيازاتها السياسية والاقتصادية. بيد أن الوضع اختلف في عام 2016 حيث لم تعلن المؤسسة العسكرية أو أيا من رجالها عن أى مطالب، وشنت الحكومة التركية بعد ساعات قليلة من محاولة الانقلاب المزعومة حملة اعتقالات شعواء واسعة ضد كل من له صلة باسم “فتح الله جولن” المتهم بتدبير الانقلاب فبلغ عدد المعتقلين أكثر من 60 ألف من كافة قطاعات الدولة (أكاديمين، موظفين، رجال نساء شباب كهول، رجال أعمال، أطباء، مهندسين، صحفيين، رجال دين، مدرسين، …..)، هذا فضلا عن طرد الآلآف من رجال الشرطة والجيش بذريعة ارتباطهم بمحاولة الانقلاب، واعتقال رجال أعمال ومصادرة ممتلكاتهم لأنهم من مؤيدي الانقلاب، بل تم غلق ومصادرة كافة الجمعيات الخيرية والمدارس ومنظمات الاغاثة التابعة لحركة “جولن”. فهل كل هؤلاء شاركوا في تدبير وتنفيذ محاولة الانقلاب التي لم تستمر سوى لساعتين فقط؟ وفشلت فشلا ذريعا في تحقيق أى شىء؟ وما هو الاتهام الموجه لهم وما هي أدلته؟
إن الاتهام الوحيد الموجه لكل هؤلاء المعتقلين أنهم تخرجوا من مدراس “فتح الله جولن” أو يعملون في منشآت تابعة لرجال أعمال تبرعوا للمؤسسات الخيرية والإغاثية التابعة لحركة “جولن”؟ إذا كانت محاولة الانقلاب فاشلة وتم السيطرة عليها في ساعتين فما الداعي لكل تلك الحملة الشعواء من الاعتقالات والمصادرات والترويع لمواطنين آمنين؟ تلك الحملة التي قادتها الحكومة التركية بأوامر أردوغان فاقت في شراستها وعدائها للمواطنين الأتراك أى قرارات عسكرية، وكان قادة الانقلاب المزعوم سيتخذونها حال نجاح الانقلاب .. إذاً الهدف لم يكن اعتقال مدبري ومنفذي محاولة الانقلاب المجهولين حتى الآن .. الهدف من البداية كان تصفية حركة “جولن” داخل تركيا واعتقال كل من له صلة بها ومصادرة ممتلكاتها والقضاء عليها وتشويه صورة “جولن” في العالم وهو الأمر الذي لم يحدث حتى الآن برغم كل تلك الحملة التي شنتها ومازالت تشنها أنقرة ضده وضد حركته. وما حدث هو العكس فصورة الدولة التركية هي التي اهتزت والاتهامات وجهت “لأردوغان” بالديكتاتورية وقمع الحريات وممارسة التعذيب ضد المعتقلين وهذا الاتهام ذكر في آخر تقرير لمنظمة العفو الدولية عن أوضاع حقوق الانسان في تركيا. فقد انقلب السحر على الساحر ولم ينجح الرئيس التركي حتى الآن في إقناع العالم بصحة رأيه في “شيطنة” حركة “جولن” ولم يقدم دليلاً واحداً قانونياً لواشنطن حتى تسلمه “جولن” كما طالبها.
وآخر التساؤلات المشروعة حول محاولة الانقلاب العسكري هي من المستفيد من محاولة الانقلاب؟ هل استفاد المتهم الأول بتدبيره “جولن” بأى شىء؟ هل توسعت حركته أو انتشرت أفكاره أو ذاع صيته في العالم أكثر من ذي قبل ؟ ..
كلا ،إنه أكثر المتضريين فقد صادرت الحكومة التركية بعض المؤسسات التعليمية والتربوية والإعلامية التابعة للحركة وأغلقت البعض الآخر، وأصبح “جولن” في موضع المتهم الذي يجب عليه الدفاع عن نفسه ودفع التهم عنه بكل الطرق الممكنة، هل استفاد مؤيديه وإتباعه من المدنيين والعسكريين؟ كلا بالطبع فهم إما معتقلين وفي انتظار المحاكمة أو على قائمة الاعتقال أو اضطروا للسفر خارج تركيا. إذاً من المستفيد؟
إن المتابع للوضع الداخلي التركي سيجد أن المستفيد الوحيد من كل ما حدث منذ منتصف يوليو حتى الان هو الرئيس “أردوغان” حيث:
- استطاع في ساعتين فقط (وهي عمر الانقلاب العسكري المزعوم) أن يكسب تعاطف جزء كبير من معارضيه العلمانيين والقوميين بكافة فئاتهم من (الأحزاب ورجال الإعلام والصحافة والثقافة والمواطنين) الذين خشوا على تهديد المبادىء العلمانية الأتاتوركية جراء حدوث انقلاب عسكري بتدبير مفكر إسلامي، وتمكن من القضاء على كافة معارضيه السياسيين بذريعة أنهم من مؤيدي “جولن”.
- تمكن من استهداف حركة “جولن” وكل من له صلة بها نظراً لانتقاد الحركة لأخطاء وتجاوزات أردوغان منذ عام 2013 ، ودون الحاجة لتقديم أدلة قانونية لتبرير حملة الاعتقالات بحق الحركة وعناصرها ومؤيديها فيكفي انهم مدبري الانقلاب.
- استغل تلك الأحداث لشن حملة عسكرية كبيرة على المدن الكردية في جنوب تركيا (ديار بكر، ماردين، فان) بحجة أنهم أيدوا الانقلاب بل واعتقل رئيس حزب الشعوب الديمقراطي الكردي “صلاح الدين دميرطاش”.
- استخدم أحداث يوليو “كفزاعة” لإرهاب الشعب التركي وتخويفه من حدوث عدم استقرار سياسي بفعل انقلاب عسكري أو مؤامرة دولية ضده، وذلك بغية إسكات الشعب التركي لتمرير التعديلات الدستورية التي ستحول نظام الحكم لنظام رئاسي يتمتع فيه الرئيس بصلاحيات شبه مطلقة وهذا الرئيس بالطبع هو “أردوغان” الذي يسعى ليحكم البلاد حتى عام 2023، وحال تم ذلك فإنه سيكون قد نجح في إرساء حكم الحزب الواحد الشمولي في تركيا.
- أخفت تلك الأحداث التناقضات الجمة في السياسة الخارجية التركية التي فقدت بوصلتها وأصبحت تبدل التحالفات والاتفاقات بسرعة فائقة ودون أسباب مقنعة. فالتركيز أصبح على الوضع التركي الداخلي وليس الخارجي.
ربما يقدم العام القادم أو الذي يليه إجابات شافية عن التساؤلات الكثيرة حول حقيقة ما حدث في ليلة 15 يوليو بتركيا، بيد أنه من المؤكد وفق المعطيات المنطقية للحدث أن “جولن” لم يدبر هذا الانقلاب أو يحرض عليه فاتهامه كان أقرب لمزحة سياسية ثقيلة، والمؤكد أيضا أن تركيا لم تعد كما كانت قبل أحداث الانقلاب العسكري المزعوم. فقد تحولت من دولة ديمقراطية الى دولة “أردوغانية”.
(*) باحثة دكتوراة بجامعة القاهرة، متخصصة في العلاقات الدولية