كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عازما منذ البداية على تمهيش أى دور للغرب بالملف السوري وكذلك المؤسسات التى تديرها الولايات المتحدة من خلف الستار كالامم المتحدة ومجلس الامن.
وجاءت خطوة انسحاب روسيا من محكمة العدل الدولية كجزء من ذلك المخطط القيصري ومن هنا جاء التوجه نحو كازاخستان ومحادثات الاستانة، لكى يتم الاعلان رسميا على ان روسيا هى الممسكة الاولى بزمام الامور سياسيا وعسكريا وربما الوحيدة بالملف السوري، وهى ضابط الايقاع الأجدر لدى منطقة الشرق الاوسط، بعد تعاملها مع جميع الملفات الملتهبة بالاقليم دون ذكر مصطلح الصراع “السني –الشيعي” كما تردد واشنطن دائما، أو بالاحرى كما كانت تتمنى واشنطن، فالاستانة تنهى اكلينيكيا “جنيف” حتى ولو كان لها فى العمر بقية، فهي ستقضيها فى الانعاش حتى تنتظر صدور شهادة وفاة القطب الاوحد سابقا (الولايات المتحدة)
والامر الاهم لدى سوريا والفاعلين بالملف السوري، هو أن السلطان العثماني ارتمى عقليا وفكريا وسياسيا فى عباءة القيصر هربا من العم سام، ولكن السؤال الذى يطرح نفسه هل القيصر يتخلى عنه كما فعل العم سام، أم أن السلطان اردوغان بالمرحلة قبل الاخيرة سيخلف وعوده للقيصر التى أقسم عليها فى موسكو، وسيوقع عليها فى الاستانة، كما خالف وعوده من قبل مع العم سام وملك السعودية وغيرهم كثيرين.
وإن كان هذا السؤال يطرح نفسه، فبات القلق لدى طهران يتضح للجميع، وهذا ليس بسبب خروجها من صفة ضامن لمحادثات الاستانة، ولكن لرؤيتها للجيش التركي وهو يتقدم من كاركميش واوغزلي نحو الشمال السوري، ويتحرك بمدينة الباب ويتجه نحو منبج بضوء أخضر من بوتين نفسه، بعد ان اوقف بوتين عملية تحرير باقى سوريا بالحسم العسكري كما حدث فى حلب، وهنا توقفت افراح طهران بتحرير حلب والتى ربما قد تكون فاقت افراحها بتحريرها لمدينة خرمشهر من يد صدام حسين، وباتت دمشق تتساءل كيف سيكون مصير مدينة الباب وهى من ستحدد ملامح حلب وربما شمال سوريا، وهى من تستطيع حرق ورقة الفيدرلة التى بجعبة القيصر إذا تمكن منها الجيش السوري، ولا ينوى اشهارها مرة اخرى كي لا تغضب دمشق وطهران مجددا.
وحقيقة الامر هى المرة الثانية التى تستشعر فيها طهران القلق تجاه بوتين، ولكن المرة الاولى التى لا تستطيع فيها قراءة ما يدور بعقله. حتى بات الجميع يتساءل هل ستكون “الباب” حفرة اوقع فيها بوتين السلطان المغرور الطامع فى اقتطاع لواء اسكندرونة جديد، كي تصبح بؤرة استنزاف جديدة للجيش التركي فى ظل الحرب الشرسة التى يخوضها الجيش والشرطة داخل الحدود التركية ضد الاكراد والارهابيين، ام ستكون نقطة لصالح السلطان وسيتمكن من فرض السيطرة عليها وتمكين الجيش الحر منها كي يقلب الطاولة السورية من جديد.
فالسلطان مناور بارع وعازم على دخول منبج إن عاجلا أم آجلاً، بعد ان ساوم بغداد بسحب قواته من معسكر بعشيقة مقابل عدم تقدم الحشد الشعبي نحو الحدود التركية، وكذلك ساوم دمشق بخروج حزب الله من الميدان السوري مقابل التخلى التام عن جبهة النصرة، وكذلك ساوم اربيل بدعمها على جميع الاصعدة مقابل ضرب مشروع روج افا، خاصة بعدما أدرك الاكراد فشل مشروع “روج افا” (غرب كردستان) واستبدلوه بمشروع “شمال سوريا” الذى يشمل كل اطياف ومكونات الشمال السوري بعيدا عن النعرة العرقية الكردية، ويبقى السبب الاول فى اشتعال وادى بردي بالمعارك الطاحنة بين الجيش السوري والتنظيمات المسلحة، هو تحسين وضعية أنقرة على طاولة المفاوضات او المساومات إن صح التعبير امام موسكو بالاستانة.
حقيقة الامر أن أفضل مناور جاء على مدار اربعة عقود سابقة، دخل تجربة جديدة بعد الارتماء فى عباءة القيصر هربا من العم سام، ويحسب له سرعة الاستدارة، وحتى إن كانت النهاية واحدة فى كل الحالات، فيكفي أنه أعطى لنفسه فرصة جديدة، واضاف امامه جولة اخرى، أما فلاديمير بوتين الذى بحث كثيرا عن عمود فى الشرق الاوسط يبنى من خلاله سياسة جديدة للشرق دون أن يجد الطرف الامثل والاقوى، يبقى هو الآخر دخل مغامرة من الصعب تأكيد القول بكيف ستكون نتيجتها وكيف ستكون نهايتها، وهنا لا نستغرب سحب جزء من القوات الروسية فى سوريا، فمنذ شهور طلب جنرالات بالجيش الروسي ضرورة وسرعة الانسحاب من سوريا فى ظل ما تتسببه الحرب السورية من تكلفة مادية باهظة لموسكو التى تتعرض كل يوم لعقوبات اقتصادية غربية قاسية، والان ليس امامنا سوى الانتظار لما هو بعد الاستانة، فبالاستانة روسيا ستعالج جزء من اخطاء سيرجى سازانوف منذ مئة عام، وربما يتم بداية رسم خريطة جديدة للمنطقة قد تمتد لمئة عام قادمة.
فادى عيد
الباحث و المحلل السياسي بشؤون الشرق الاوسط