بقلم: محمد عبيد الله
دأب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ البداية على تصفية خصومه ومنافسيه وكل من لا يروق له من خلال “نصب مؤامرات” بأساليب الحرب النفسية وأشكال اختراق العقول. لذلك رأيناه عقب تحقيقات الفساد والرشوة نهاية 2013 قد اختلق من عند نفسه مفهوم “الكيان الموازي”، وزعم أن الشرطيين والقضاة الذين ضبطوه متلبساً بـ”جريمة الفساد والرشوة” ينتمون إليه، وخطّطوا “الانقلاب” على حكومته، عن طريق توظيف ملفات الفساد والرشوة، وذلك بغية الحصول على “ذريعة شرعية” تبرر في نظر الرأي العام التصفية الشاملة التي اعتزم من قبلُ تنفيذها في جهازي الأمن والقضاء بصفة خاصة، وأجهزة الدولة المختلفة بصفة عامة.
ومن الممكن أن ننتهي من قول الأستاذ فتح الله كولن “ولا أدري من كان وراءها (نزع فتيل تحقيقات الفساد) المخابرات الألمانية أم المخابرات الأمريكية أم الاستخبارات التركية.. لا أدري!” إلى أنه يتشكّك في توظيف أردوغان لهذه التحقيقات في إنجاز هذه التصفية، خاصة إذا علمنا أنه كان على علم بها قبل 6 أشهر من انطلاقها فعلاً، بفضل تقارير جهاز مخابراته، وأن الرأي العام كان جاهزاً لقبول “الانطباع” الذي سيخلقه أردوغان في “الأذهان” بأن هناك عدواً “وهمياً” يريد الإطاحة بحكمه، بسبب النقاش الحاد الذي دار بينه وحركة الخدمة حول إغلاق المعاهد التحضيرية الخاصة (درسخانة). ويبدو الآن أنه أثار هذا النقاش عمداً لإعداد الأرضية والأذهان لتقبُّل تطبيق مشروع “إعادة ترتيب الحياة المدنية” وفق هواه، حيث قلب جميع أجهزة الدولة رأساً على عقب، وأطاح بمئات الآلاف من الموظفين ولا زال المئات منهم قابعين في السجون حالياً، إضافة إلى تصفية كل وسائل الإعلام الحرة أو المحايدة أو المعارضة، وآلاف الشركات والمؤسسات التعليمية، وأتى مكانهم عناصر خاضعة له تماماً تتلقى التعليمات منه مباشرة. لكن الجيش الوطني ظل بعيداً عن هذه التصفيات حتى المحاولة الانقلابية.
أردوغان والجيش الوطني
يعلم الجميع أن الجيش الوطني، بعد تطهير العناصر والشبكات الإجرامية في ظل قضايا أرجينيكون والمطرقة وجيتام (مخابرات الدرك) الانقلابية خاصة، حاول البقاء خارج السياسة اليومية والصراعات العابرة، وكان يستاء جداً من محاولات إدخاله إلى اللعبة السياسية وجعله “أداة” لتحقيق أطماع وأهداف سياسية. لذلك رأيناه يعرب عن انزعاجه في مناسبات مختلفة وبطرق شتى من النهج الذي سار عليه أردوغان في الفترة الثالثة من حكمه على وجه الخصوص. ومن الممكن تلخيص المواد التي شكّلت مصدر إزعاج له في ثلاثة عناوين رئيسة:
- علاقات أردوغان المشبوهة مع تنظيم داعش الإرهابي.
- ضغوط أردوغان على الجيش لإعلان الحرب على سوريا.
- علاقات أردوغان المشبوهة مع حزب العمال الكردستاني.
علاقات أردوغان المشبوهة مع تنظيم داعش الإرهابي
كما أن أفراد الأمن والقضاء أزاحوا الستار عن جرائم أردوغان الخاصة بـ”الفساد والرشوة”، كذلك كشف الجيش الوطني القناع عن جريمته في “التعاون مع الإرهاب”، أي مع كل من تنظيمي “حزب العمال الكردستاني” و”داعش” الإرهابييْن لتنفيذ سياساته الداخلية والخارجية.
ولا شكّ أن قضية “شاحنات المخابرات” المحملة بالأسلحة المتجّهة إلى تنظيم “داعش” الإرهابي في سوريا كانت أكثر المواضيع التي تقضّ مضجع أردوغان. كانت النيابة العامة طالبت القوات الأمنية وقوات الدرك باستيقاف تلك الشاحنات في 1 و19 يناير/كانون الثاني 2014 للاشتباه بوجود أسلحة في طريقها إلى داعش في سوريا. إلا أن أردوغان وصف هذه العملية بـ”محاولة انقلاب” أيضاً تستهدف إسقاط حكومته، ويقف وراءها “الكيان الموازي” كذلك، ثم بادر إلى “الانقلاب المضادّ” عل كل العناصر الأمنية والقضائية والعسكرية المشاركة في الحادثة، وأمر بإقالتها وحبسها. ومع أنه ادعى أن الشاحنات كانت محملة بالمساعدات لإرسالها إلى توركمان سوريا، لكن كما قال الأستاذ كولن، نفى عضو حزب الحركة القومية السابق نائب رئيس الوزراء الحالي طغرول توركاش كل هذه المزاعم وأقسم يمينًا مغلَّظًا بقوله: “والله إن تلك الشاحنات لم تكن ترسَل إلى التركمان أبداً”.
فضلاً عن ذلك فإن رئيس تحرير صحيفة جمهوريت جان دوندار نشر تسجيلاً مصوراً، من المفروض أنه حصل عليه من مصادر عسكرية، يكشف عياناً عن وجود أسلحة في تلك الشاحنات، ويسلط الأضواء على الأحداث التي جرت خلال عملية الاستيقاف. ومع أن أردوغان أراد استغلال هذه الحادثة، وبعبارته هو “محاولة الانقلاب” وتحويلَها إلى فرصة ذهبية لإطلاق تصفية شاملة في صفوف الجيش أيضاً، بحجة تطهيره من عناصر “الكيان الموازي”، على غرار ما أحدث في صفوف الأمن والقضاء، إلا أن الجيش الوطني على مستوى القيادة لم يقتنع ولم يسمح بذلك، بل قاومه ولم يلبِّ طلبه في هذا الصدد.
ضغوط أردوغان على الجيش للدخول إلى سوريا
ولما بدأ أردوغان يمارس الضغوط على الجيش ليتوغل في سوريا، بل راح يستفزّه بالتعاون مع تنظيم داعش، كما قال رئيس المخابرات هاكان فيدان في تسجيل صوتي مسرّب بأنه يمكنه أن يطلب من بعض العناصر إلقاء قنابل من الجانب السوري إلى الأراضي التركية لاختلاق الذريعة واستفزاز الجيش والدفع به إلى الحرب في سوريا، تفاقم حجم الخلاف بينه (أردوغان) والجيش الوطني، حيث إن الأخير رفض أن يكون “أداة” في يده ليحقق بها أهدافه السياسية في المنطقة، وأعلن أنه لن يدخل سوريا أبداً ما لم يكن قرار دولي، الأمر الذي أثار غضب أردوغان كثيراً.
وكلما برزت الأدلة التي تظهر التعاون بين أردوغان وهذه المنظمة الإرهابية ومثيلاتها، كاستمرار معالجة أنصارها في مستشفيات تركيا، والسماح للشباب بالانضمام إليها رغم اعتراضات أسرهم، والإفراج عن جميع المتهمين والمعتقلين والمحكومين عليهم، بما فيهم زعيم تنظيم داعش في تركيا “خالص بايانجوق” الملقب حركياً بـ”أبو حنظلة”، تبلور في ذهن الشارع التركي والدولي أن أردوغان يأمل في إعلان نفسه “أميرًا للمؤمنين” في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي بعد إسقاط نظام “بشار الأسد”. والكلمات التي تفلّتت من لسانه ذات مغزى إذ قال: “سأقرأ الفاتحة عند ضريح صلاح الدين الأيوبي، وأصلي في الجامع الأموي”. فقد ظنّ أردوغان أنه يمتلك القدرة على تغيير ملامح منطقة الشرق الأوسط وإعادة تصميمها عن طريق استخدام داعش. لذلك أخذ يحلم بإسقاط الأسد خلال نصف يوم ليقيم صلاة الجمعة في الجامع الأموي. واستخدم كلاً من “سفينة مافي مرمرة” و”العداء لإسرائيل” على الصعيد الخطابي فقط كأدوات للدعاية لدى الشعوب العريضة في سبيل تحقيق هذا الهدف.
مخابرات أردوغان ينصب مؤامرة ضد الجيش
ليست قضية التعامل مع داعش هي الوحيدة التي تقضّ مضجع أردوغان، وتشكل مصدر إزعاج للجيش الوطني، وإنما يضاف إليها “عملية الأخذ والعطاء” أو المساومة السياسية التي جرت بين أردوغان وزعيم العمال الكردستاني الإرهابي “عبد الله أوجلان” من خلال ما يسمى بـ”مفاوضات السلام”.
في عام 2011 دبر حزب العمال الكردستاني “مؤامرة” أوقع فيها الجيش التركي فتسبّب في وقوع ما يسمى بـ”حادثة أولو دره”، التي أسفرت عن مقتل 34 كردياً مدنياً يقومون بتهريب بضائع على الحدود العراقية – التركية، وذلك في وقت كان أردوغان يستعد فيه للاعتراف الكامل بحقوق الشعب الكردي وكان العمال الكردستاني يعيش أصعب أيامه.
حمَّلت رئاسة هيئة الأركان العامة جهاز المخابرات (MİT) برئاسة هاكان فيدان، الذي يصفه أردوغان بـ”كاتم أسراري”، مسؤولية الغارة الجوية “الخاطئة” بسبب تقريره حول استعداد “فهمان حسين”؛ أحد زعماء العمال الكردستاني، لهجوم إرهابي في المنطقة. والملفت أن الصحف المحلية كتبت آنذاك أن هذه المعلومات الخاطئة جاءت من إيران في إطار التعاون الثنائي بين البلدين. ففي معرض حديثه عن حادثة أولو دره، وفي إطار رده على سؤال مفاده “هل تأتيكم معلومات استخباراتية من الدول الأجنبية” قال رئيس المخابرات العسكرية السابق إسماعيل حقي بكين “رئيس المخابرات هاكان فيدان كان يقدم لنا معلومات استخباراتية مصدرها إيران عن المنطقة الجبلية الواقعة في المثلث التركي العراقي الإيراني”.
ومهما كان الأمر، فإن هذه الحادثة وما تلاها من أحداث مشابهة، مهّدت الطريق لتكبيل أيدي القوات الأمنية والعسكرية إزاء عناصر العمال الكردستاني، ومن ثم إقالةِ وزير الداخلية إدريس نعيم شاهين في وقت لاحق من قبل أردوغان بالذات، بطلب الزعيم الإرهابي عبد الله أوجلان، كما صرح الوزيرُ نفسه. وذلك رغم أنه كان الاسم الذي يقف وراء العمليات الناجحة ضدّ هذه المنظمة الإرهابية، لدرجة أن المكالمات اللاسلكية التي جرت آنذاك بين الزعماء الإرهابيين كشفت عن اعترافهم بتعرض المنظمة لخسارة كبيرة جداً وفقدانها قوتها تماماً.
وعندما أوشكت المنظمة الإرهابية على التمزق والانتهاء، بفضل العمليات الناجحة في عهد شاهين، جاء حينها بالضبط طوق النجاة لها من خلال “مفاوضات السلام” التي أجراها المخابرات بقيادة فيدان، والتي كانت صحيحة من حيث المبدأ، مع أخطاء كثيرة في الطريقة المتبعة. فالحكومة أمرت بعد حادثة أولودره بوقف العمليات الأمنية والعسكرية ضد المنظمة، ومن ثم أطلقت أو اضطرت إلى إطلاق مفاوضات معها لتسوية القضية الكردية، بدلاً عن التواصل مع الشعب الكردي الذي هو الضحية الحقيقية لإرهاب المنظمة وجور “الدولة العميقة” التي تدعى في تركيا “أرجينيكون”.
“الأخذ والعطاء” بين أردوغان وأوجلان
بحسب المحاضر التي نشرتها جريدة “ملّيَتْ” بتاريخ 28 فبراير/ شباط 2013، والتي تحتوي المحادثات التي دارت بين وفد حزب الشعوب الديمقراطي الكردي وأوجلان في محبسه بجزيرة إيمرالي، في إطار “مفاوضات السلام”، كان النائب الكردي “سري ثريا أوندر” يقول لأوجلان: “وهناك قضية انتقال تركيا إلى النظام الرئاسي.. فالرأي العام حساس جداً في هذا الموضوع”. فكان يردّ عليه أوجلان بقوله: “من الممكن أن نُعمِل الفكر في النظام الرئاسي ونتبناه. فنحن نقدّم دعمنا لرئاسة السيد رجب طيب أردوغان. لذلك يمكننا الاتفاق معه على أساس هذا النظام الرئاسي”. وعندما تساءل أوندر: “ولكن كيف سيكون حينها وضعكم وموقعكم؟”، أجاب أوجلان مبتسماً: “عندها لن يكون هناك حبس، ولا إقامة جبرية، ولا عفو.. لن يبقى هناك أي داعٍ لمثل هذه الأمور؛ لأننا سنصبح أحراراً جميعاً”، ما يكشف أن هذه المفاوضات كانت تجري في إطار النظام الرئاسي مقابل حرية أوجلان أو حتى منح حكم ذاتي له في المناطق الكردية.
والواقع أن أردوغان ارتكب خطأ كبيراً بضمِّ ملفّ الإرهاب “الخاص” إلى ملفّ المشكلة الكردية “العام” وتناولِهما معاً في عنوان واحد تحت مسمى “مفاوضات السلام”. ذلك لأن هذه المقاربة دفعت بالأكراد كافة إلى التجمّع تحت لواء العمال الكردستاني، وإلى تصوير وتقديم أوجلان على أنه زعيم جميع الأكراد. ومع أن العديد من المسؤولين نبّهوا إلى هذا الخطأ الإستراتيجي في التعامل مع قضيتي الإرهاب والمشكلة الكردية، إلا أنهم تعرّضوا للنفي أو الإقصاء والشيطنة. كما أن أردوغان وصم كل من يلفت إلى مخاطر هذه المقاربة بـ”الدموي” و”المتغذي على الدماء”.
وعندما أعلن زعيم الحزب الكردي صلاح الدين دميرطاش عزمه على خوض غمار الانتخابات التشريعية السابقة (7 يونيو/ حزيران 2015) كحزب مستقل بدلاً عن المرشحين المستقلين كما كان سابقاً، وتحدى أردوغانَ قائلاً: “لن نسمح لك بفرض النظام الرئاسي”، ظنّ البعض أن هذا القرار جاء “بموجب الاتفاقيات السرية” بين أردوغان وأوجلان. ولأن المعطيات كانت تشير إلى استحالة تجاوز الحزب الكردي الحد النسبي لدخول البرلمان، فإن مرشحي حزب أردوغان هم من كانوا سيدخلون البرلمان بشكل تلقائي بدلاً عن المرشحين الأكراد. لذلك رأينا أن نائب رئيس الوزراء يالتشين أكدوغان قال لاحقاً فيما يخص احتمالية فشل الحزب الكردي في تخطي العتبة الانتخابية: “هناك من يقول إذا لم نتخطَّ العتبة الانتخابية فإنه سيكون كذا وكذا. لن تكون أية مشكلة إذا ما حدث ذلك، بل سيكون جيداً جداً”.
غير أن الرياح جرت بما لا تشتهي سفن أردوغان؛ إذ استطاع الحزب الكردي تخطي العتبة الانتخابية وحصل على 80 مقعداً برلمانياً. فالشعب الكردي رفض هذه “اللعبة السرية” وقال لها “لا”. وبعد ذلك الرفض بالضبط تفجّرت كل الأحداث التي شهدتها تركيا في الآونة الأخيرة؛ لأن الحزب الكردي تخطى العتبة الانتخابية مخترقاً بنود الاتفاقية التي تمّ التوصل إليها في محافل خفية. وبذلك زال “السبب” الذي كانت مفاوضات السلام تجرى من أجله. فأطاح أردوغان بطاولة عملية السلام في 28 يوليو/تموز 2015. ومن ثم صوّر يالتشين أكدوغان الحالة النفسية السائدة على قصر أردوغان وحاشيته بقوله: “إذا قلتم إننا لن نسمح لك بفرض النظام الرئاسي تحت قيادتك، فإنه لا يمكن أن يحدث غير ما حدث اليوم! فليس بمقدور الحزب الكردي بعد اليوم إلا أن يصوّر فيلم مسيرة السلام”.
ومع أن المنظمة الإرهابية كانت تعهدت بترك السلاح ومغادرة الأراضي التركية، إلا أنها لم تنفذ أياً من تعهداتها، بل استغلت فترة مفاوضات السلام لاستعادة قوتها السابقة، والاستعداد لإعلان حرب الشوارع في مرحلة مقبلة، بحيث تحولت المناطق الكردية إلى بحيرة دماء بسبب الاشتبكات المتبادلة بين الإرهابيين والقوات العسكرية.
والطامة الكبرى هي أن أردوغان مع أنه من أطلق مفاوضات السلام مع المنظمة الإرهابية، ومن أطاح بها بعد تحطم حلمه في تطبيق النظام الرئاسي عقب تسبّب الحزب الكردي في خسارة حزب العدالة والتنمية حتى الأغلبية المطلقة اللازمة لتشكيل الحكومة منفرداً، الأمر الذي اعتبره خيانة وانتهاكاً للوعد الذي قطعته المنظمة على نفسها، إلا أنه حمل الجيش الوطني فاتورة مئات القتلى من المدنيين والعسكريين في هذه الاشتباكات والعمليات الإرهابية، رغم أن الجيش صرّح مراراً بأن مسؤولية مفاوضات السلام ونتائجها تقع على السلطة السياسية المدنية.
البحث عن ذريعة لإعادة تصميم الجيش
لم يكن خافياً على الملمين بالشأن التركي وجود انزعاج متبادل بين أردوغان والجيش الوطني. حيث إن أردوغان كان يسعى لتحويل الجيش إلى “أداة طيعة” في يده ليحقق بها حلمه في نقل البلاد من النظام البرلماني إلى النظام الرائاسي تحت قيادته من جانب؛ ومن جانب آخر حلمه في إسقاط النظام السوري برئاسة بشار الأسد الذي بات مسألة شخصية وعقدة نفسية عنده، تمهيداً لإعلان نفسه “خليفة المسلمين” باعتباره “فاتح الشام” و”محرك الثورات العربية”. لكن الجيش الوطني رأى ورصد أنه يحاول تحقيق هذه الأحلام في الداخل عن طريق “توظيف منظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية” عبر “مفاوضات السلام” تارة و”حرب شاملة” تارة أخرى، وفي الخارج من خلال “استخدام منظمة داعش الإرهابية”. بمعنى أن الجيش كان مطلعاً على أسرار أردوغان في تعاونه مع الإرهابيين وأردوغان كان يعلم اطلاع الجيش هذا وكان بالمرصاد.
نفهم من التصريحات التي أدلى بها أردوغان ليلة الانقلاب الفاشل والتي قال فيها “هذه المحاولة في التحليل الأخير لطف كبير من الله من أجل تطهير القوات المسلحة التي من المفترض أن تكون خالية ونقية من هذه العناصر. واتخاذُ مثل هذه الخطوة قبيل عقد مجلس الشورى العسكري مطلع شهر أغسطس المقبل له دلالته، فالبعض توقعوا ما سيحدث في هذا الاجتماع، فبادروا إلى الإقدام على مثل هذه الخطوة”، أنه كان يخاف من قيام الجيش بفتح “ملفّ الإرهاب” (داعش والكردستاني) في ذلك الاجتماع، مع إبراز الأدلة والوثائق، بعد أن سرّب التسجيل المصور الذي كشف عن الأسلحة المختبئة في شاحنات المخابرات المرسلة إلى داعش. ولذلك كان يبحث عن “ذريعة” قبل انعقاد هذا الاجتماع لأركان الدولة ليقوم بحركة استباقية وينقذ نفسه من الضغوطات العسكرية المحتملة.
جيش “سادات” الموازي للجيش الوطني
لما فشل أردوغان في محاولاته لإعادة تصميم “الحياة العسكرية” و”القضاء الأعلى” وفق هواه بذريعة “الكيان الموازي”، بسبب مقاومة الجيش وعدم اقتناعه به، بادر إلى إنشاء جيش موازٍ للجيش الوطني تحت اسم “سادات”. وكان البرلمان التركي يستعد لنقاش الادعاءات الخاصة بشركة اسمها “سادات (SADAT) أو صدات، كما هو وارد في موقعها العربي، لكن الانقلاب الفاشل (!) حال دون نقاش هذا الموضوع.
فقد تأست شركة “سادات” على يد الضباط المتقاعدين و”المطرودين” من القوات المسلحة بحجة مشاركتهم في “أنشطة رجعية” في الظاهر، قبيل إعلان تأسيس حزب أردوغان. وهؤلاء الضباط أسسوا عام 2000 جمعية “المدافعين عن العدالة” لتكون ذراع أردوغان لتحصيل المعلومات من الجناح العسكري وتسريب الوثائق عبر امتداداتهم داخل صفوف الجيش. والشركة تقدم تدريبات على الحرب غير النظامية وفقًا لما جاء في موقعها الرسمي على الإنترنت، وتقوم بتدريبات هيكلية لحرب غير نظامية وتدريب العناصر على أعمال الكمائن، ومداهمات إغلاق الطرق، وتدريب، وتخريب، وعمليات تخليص وخطف وما إلى ذلك.
ويرد في الاستدعاء المقدم إلى رئاسة البرلمان أن هناك ادعاءات بتجميد هذه الشركة تدريباتها بعد أن حصلت الأجهزة الاستخباراتية الغربية على معلومات بشأن تلقي عناصر تنظيم داعش التدريب على يدها، بينما واصلت المنشآت العسكرية السرية التدريبَ داخل المخيمات في تركيا، وأن بعض الشباب الملتحقين بهذه المخيمات ينتمون إلى الأذرع الشبابية لحزب العدالة والتنمية وجمعية “الغرف العثمانية” المقربة من أردوغان. ويحذر الاستدعاء من أن تكون فعاليات الشركة بمثابة لبنات لحرب أهلية محتملة وعمليات اغتيال وتخريب.
ولعل هذا يفسر اللقطات التي بثتها القنوات مباشرة على الهواء ظهرت فيها مجموعات من الشبان بلباس مدني، يحملون بنادق أوتوماتيكية في شوارع إسطنبول، وشوهد تبادل إطلاق نار بين هذه المجموعات وقوات المنقلبين، ومنهم من لبس سترات مكتوب عليها “شرطة” للتمويه وتحقيق الأهداف تحت عباءة القانون، ولا يستبعد أن يكون هؤلاء من الجنود الذين درّبهم جيش أردوغان الموازي سادات. كما شوهد كثير من الشبان الذين يبدو أنهم عرب جاؤوا إلى تركيا قبيل الانقلاب. في القديم كانت شبكات من قبل أرجينيكون “العلمانية القومية الإثنية” هي التي كانت تقوم بمثل هذه العمليات، أما اليوم فحلّ محلها شبكات “سادات” المكونة من الشباب الأتراك والعرب لكن بـ”غطاء إسلامي”.
النتيجة
وعلى ضوء المعلومات المقدمة أعلاه وفي ظل كشف المخابرات البريطانية عن تخطيط أردوغان لإلصاق هذه المحاولة الانقلابية بحركة الخدمة من أجل اختلاق ذريعة وإطلاق حملة تصفية موسعة ضد المتعاطفين معها في أجهزة الدولة، من الممكن أن نخلص إلى أن “أردوغان وأتباعه قاموا بهذه التمثيلية الانقلابية بغية إحكام قبضتهم على المؤسسة العسكرية ووضعها تحت وصايتهم، وحتى يتسنّى لهم إقصاء المعارضين لهم في داخل السلك العسكري.. أو ربما أثار بعض القوميين العسكر للقيام بهذا الأمر وتورط معهم بعض السذّج..”، كما يقول الأستاذ كولن.
خلاصة القول: مثلما أن أردوغان أحدث “انقلاباً مضاداً” في اليوم التالي من بدء تحقيقات الفساد والرشوة، ونسف جهازي الأمن والقضاء من ألفه إلى ياءه، بحجة تطهيرهما من أعضاء “الكيان الموازي”، ثم أنشأ بدلاً منهما جهازي أمنٍ وقضاءٍ “موازيين” تابعين له تماماً، وذلك من أجل التستّر على جريمة “الفساد والرشوة”، كذلك أقدم على “انقلاب مضاد” في صبيحة ليلة الانقلاب “المفبرك” بمهارة العناصر المشبوهة المذكورة، أطاح بكل القادة العسكريين وأعضاء القضاء الأعلى، سواء شاركوا في الأحداث أم لم يشاركوا، بذريعة تنقية الجيش من عناصر “الكيان الموازي” أيضاً، ثم راح يعيّن مكانهم أتباعه المبايعين له وحلفاءه من القادة المدانين سابقاً في قضايا انقلابية مثل قضيتي شبكة وعصابة أرجينيكون والمطرقة.
والملفت أن أردوغان اتهم الأستاذ كولن بالوقوف وراء “محاولة الانقلاب” ضد حكومته من خلال تحقيقات الفساد في نهاية 2013، دون أن يثبت ذلك بالدليل رغم مرور 3 سنوات، حتى إنه لم يستجب لدعوات فتح تحقيق دولي، بل عمد إلى عزل وسجن جميع الشرطيين والقضاة المشرفين عليها، وإغلاق كل الملفات الخاصة بها، بفضل المحاكم التي أسسها بذاته. وها هو يتهمه مرة أخرى بمحاولة الانقلاب دون أن يكون هناك أي دليل مادي أيضا. لكن الأستاذ كولن لا يمتلك ما يدفع به هذه الاتهامات عن نفسه سوى اليمين والتحدي. فماذا عساه أن يفعل بعد أن تحدى وطالب بتشكيل لجنة تحقيق دولية للكشف عن حقيقة الأمر في كلتا المحاولتين.
أليس الدليل على من ادعى واليمين على من أنكر؟ لماذا يهرب أردوغان من تحقيق دولي؟ أليس من الأجدر أن يطلب مثل هذا التحقيق أردوغانُ بدلاً من الأستاذ كولن. ولماذا لا يستجيب لطلب واشنطن بإرسال وفد إلى تركيا للتحقيق في هذا الصدد؟
هل هناك من تفسير منطقي لتهرب أردوغان من التحقيق الدولي سوى خوفه من تكشّف خيوط المؤامرة التي دبرها من خلال الانقلابيْن المفبركيْن من أجل إعادة تصميم وهيكلة الحياة السياسية أولا والمدنية ثانيا والعسكرية أخيرا لكي يتمكن من التستر على جرائمه في الفساد والإرهاب الدولييْن؟
إلى أين تتوجه تركيا في ظل حكم رجل واحد بات رهينَ جرائمه ومضطر لقتل كل من رآها ورصدها؟