– (الزمان التركية) – بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا التي جرت في الخامس عشر من يوليو/تموز الماضي، وجهت السلطات التركية الاتهام إلى حركة الخدمة وعلى رأسها الأستاذ محمد فتح الله كولن الداعية التركي المقيم في منفاه الاختياري بولاية بنسلفانيا الأمريكية، ومنذ ذلك الحين والسلطات في تركيا تمارس كل أنواع الانتهاكات ضد أفراد الخدمة ومؤسساتها. وتطالب الولايات المتحدة بتسليم كولن إلى تركيا دون تقديم أية أدلة أو القيام بتحقيقات نزيهة، وهو ما أعربت عنه الولايات المتحدة على لسان مسئوليها، حيث نفوا تقديم تركيا أية وثائق أو أدلة تثبت هذه المزاعم، وإنما كل ما قدموه هو عبارة عن اتهامات، وقد سارعت وسائل الإعلام العالمية بعقد لقاءات صحفية مع الأستاذ كولن للاستفسار عن حقيقة هذه الاتهامات عقب الأحداث مباشرة. واللافت في هذا الموضوع أن وسائل الإعلام التركية حتى المعارضة منها امتنعت عن إجراء أية لقاءات إعلامية مع الأستاذ، وتبنت خطاب السلطة الحاكمة بل رفض غالبية نواب البرلمان التابعين لحزب العدالة والتنمية مقترحاً تقدم به أحد أفراد حزب الحاكم في اللجنة المشكلة للتحقيق في الانقلاب بسفر اللجنة إلى مقر الأستاذ كولن في أمريكا لتستمع لجوابه حول هذه الاتهامات، كما رفض البرلمان بأغلبية أصواته طلب اللجنة الاستماع إلى رئيس الأركان ورئيس الاستخبارات التركية حول أحداث الانقلاب، مما يعطي انطباعا بأن هناك نية مبيتة للتغطية على الفاعلين الحقيقين لهذه المحاولة.
وقد قامت جريدة الأخبار المصرية بإجراء حوار مع الأستاذ كولن ونشرته في عددها اليومي الصادر بتاريخ 13/11/2016 الموافق الأحد، وجهت له فيه أسئلة متنوعة حول رأيه في محاولة الانقلاب، والأطراف الحقيقية التي تقف وراءه، وأسباب اتهام أردوغان للخدمة خاصة دون غيرها من الجهات، وسبب عداء أردوغان لمصر على هذا النحو إلى غير ذلك من الأسئلة التي وردت في الحوار، وإليكم نص الحوار كاملا كما نشرته جريدة الأخبار المصرية.
المفكر فتح الله جولن المتهم بتدبير محاولة الانقلاب ضد أردوغان في حوار خاص لـ »الأخبار«:ما يصدر من أردوغان تجاه مصر هذيان
حوار أمير لاشين – كاتب صحفي بجريدة الأخبار
هو أحد أشهر الشخصيات التي اثارت جدلا سياسيا عالميا خلال العام الحالي.. اتهمه الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة التي جرت في تركيا شهر يوليو الماضي.. لكنه وصف ماجري في تركيا بأنه »مسرحية» لجأ اليها اردوغان للسيطرة علي الجيش والانفراد التام بالسلطة وهو ماحدث بالفعل بعد ايام قليلة من محاولة الانقلاب -حسب رأيه-.. فتح الله جولن المفكر والمعارض التركي الاشهر مؤسس حركة »الخدمة» التي اعلنها الرئيس التركي منظمة ارهابية للانتقام منها بعد معارضتها لسياسته القمعية وكشفها ملفات فساد تتعلق بأسرته ووزرائه.. »الأخبار» حاورت جولن والذي يعتبره اردوغان العدو الاول له بعد ان اختلف مع سياساته واضطر للعيش في ولاية بنسيلفنيا الامريكية.. سألنا جولن عما اثير حول نيته مغادرة امريكا والاستقرار في مصر وعن مزاعم وجود ارتباط فكري بين جماعته وجماعة الاخوان ولماذالم يتحرك الشعب التركي ضد اردوغان رغم نسفه للديمقراطية التركية واتباع سياسات قمعية خلفت وراءها عشرات الالاف من السياسيين والعسكريين والصحفيين؟وهل من الوارد ان يتحرك الجيش التركي بعد تدخل اردوغان في شئونه واستبدال قياداته بآخرين موالين له ولحزبه؟ قضايا واسئلة مهمة طرحناها علي فتح الله جولن في هذا الحوار.
• اتهمكم اردوغان بقيادة انقلاب ضده في تركيا لكنكم وصفتم ماجري بأنه مسرحية مادليلكم انه ماحدث مسرحية؟
– إنني أقول هذا بناء علي المعلومات التي تناثرت هنا وهناك، لكني لا أتَّهم أحدا بشخصه.. فقد قُدِّر لي أن أشاهد كل الانقلابات التي جرت منذ العام 1960، وعايشت أجواءها كلها، وكنت هدفا للبعض منها وعانيت كثيرا بسببها، لذلك أعرف ما يمكن أن يطلق عليه »انقلابا» نوعا ما. وبناء علي كل ما عايشته خلال الانقلابات السابقة يمكنني القول إن هناك لعبة ما في تفاصيل هذا الانقلاب المزعوم، فمثلا لم يبدأ أي واحد من الانقلابات السابقة بإغلاق للجسور، ولا تتم الانقلابات في وضح النهار أو في ساعات الذروة من الليل، والتي تكون الجماهير فيها لا تزال في الشوارع كما حدث في الأخير. لكن وصفنا له بالمسرحية لا يعني أبدا الاستهانة بالأرواح التي راحت ضحية لهذه الأحداث، سواء من المدنيين أو من أفراد الشرطة والجيش،فأنا أدعو الله أن يتقبلهم عنده من الشهداء.
قد تختلفون معي في وجهة النظر هذه، لكن اسمحوا لي أن أقول: إن الانقلاب له منطق معين، فهو يبدأ بمن هم علي رأس الهرم، لأنهم الهدف النهائي. لكن الأمور لم تجر علي هذا النحو في تلك الليلة، مما يعني أن الانقلاب نفسه لم يكن هدفا، وإنما الهدف هو إخراج الأحداث في صورة انقلاب لتحقيق أهداف أخري من ورائه، ما كانوا ليحققوها في الظروف العادية. ولذلك قاموا بهذا الانقلاب الصوري فألقوا القنابل في مبانٍ فارغة، وبدلا من الذهاب إلي أماكن المسئولين بدأوا يهاجمون الشعب، ولم يحدث أي مساس بأي سياسي، لذا رأينا السياسيين يستعرضون عضلاتهم علي شاشات التلفزة لساعات طويلة، بينما الأحداث تجري علي أشدها في الشوارع بين الجماهير وأفرادٍ وآليات من القوات المسلحة.. لم تحدث أية مداهمة لأي مبني تليفزيوني سوي مبني التلفزيون الرسمي TکT بشكل عرضي ولفترة محدودة، في الوقت الذي كانت تبث فيه قنوات التلفزة الأخري خطاباتِ وتصريحات المسئولين الحكوميين ونداءاتهم للشعب وتحريضهم له علي الخروج لمواجهة الجيش. لهذا كله شككت في كونها انقلابا حقيقيا، إذ لم يكن واحدا من الانقلابات التي عشتها من هذا القبيل.
أضف إلي ذلك، العدد المحدود جدا من الآليات كالدبابات ومركبات الجنود التي تواجدت في الشوارع، واعتلتها الجماهير في مشهد استعراضي كأنها أُرسلت لذلك. بل إن بعضا من المدنيين اقتحموا هذه الدبابات وقاموا باستخدامها وقيادتها، مما يلقي نوعا من ظلال الشك علي نوعية هؤلاء المدنيين، وطريقة تواجدهم في هذه الأماكن تحديدا
فمنذ بداية الأحداث فَهِم َكل من له عقل ممن رأوا هذا المشهد ولديهم اطلاع علي ماهية الانقلابات، أو شاهدوا إجراءاتها من قبل، أن ما يحدث ليس من الانقلاب في شيء.
كما أن الجنود الذين كانوا يتواجدون في الشوارع لم يكن لديهم علم بطبيعة المهمة المكلفين بها، فقد قيل لهم: »إن هناك تطبيقات عسكرية»، لذلك كانوا لا يعرفون إلي أين يتجهون، بل إن أحد الجنود عندما سئل عن وجهته أجاب: »إن هناك إرهابيا سنذهب إلي اعتقاله، وانتظِروا منا الخبر».
• عدد الجنرالات المعتقلين علي خلفية هذا الانقلاب المزعوم يبلغ نحو 150 جنرالا، تحت قيادتهم مئات الآلاف من الجنود والضباط وضباط الصف، بينما لم يتواجد في الشوارع من هؤلاء الجنود سوي بضعة آلاف حسب
الروايات الرسمية فأين ذهب بقية الجنود والضباط؟ ولماذا لم يكونوا في مسرح الأحداث؟
– لقد قضيت سنتين من عمري أؤدي واجب الجندية في صفوف الجيش التركي، ولديّ إلمام بطبيعة العمل في هذه المؤسسة، ومدي الجدية والانضباط في تلقي الأوامر والتعليمات من القيادة، وكل الذين أدوا واجبهم الوطني في الجيش يعلمون هذا. فإذا قيّمنا كل هذه الأمور تقييما شاملا فسيتبين لنا أنه عمل مدبر من قِبَل أناس لا يتحلون بجدية الجندية،وأنه أشبه بسيناريو أُعدّ خصيصا لتحقيق أهداف معينة.
• بناء علي هذا التحليل، مَنْ في رأيكم كاتب هذا السيناريو؟ ومَنْ الذي قام بإخراجه؟
هناك من ردد بأن هذا العمل قام به »القوميون-العلمانيون»، ومنهم من ذكر »الكماليين المتطرفين»، ومنهم من ذكر ثلاث فئات، ومنهم من ذكر خمسا.. وهناك جهات ذكرت أنه تم الدفع بمجموعة من المتدينين في المقدمة ليكونوا في الواجهة ويحمّلوهم المسئولية. علي كلٍّ لابد من إجراء تحقيق شامل عادل ونزيه للكشف عن ملابسات هذا الانقلاب وفضح من ورائه. ولكن إجراء تحقيق بهذه الأوصاف في ظل الأوضاع الراهنة في تركيا أمر يصعب تحققه، اللهم إلا إذا انعقدت لجنة دولية للتحقيق في الأمر، ساعتها يمكن الوصول إلي نتائج سليمة. ومن جهة أخري لابد أن ننظر إلي الأمور بنظرة أكثر شمولية حتي نقف علي المخططين الاستراتيجيين لهذه المحاولة، ومن هم المستفيدون منها بدلا من الغرق في التفاصيل.
لقد مر وقت ليس بالقليل علي الأحداث حتي الآن، ومع كل هذه الإجراءات التي اتخذوها نستطيع القول: إن الجهود المبذولة بغرض الكشف عن المخططين والمنفذين الحقيقيين لا تسير بصورة جدية حتي الآن. بل علي العكس فرغم أن الذين قاموا بمحاولة الانقلاب الفاشلة هذه علي حد قولهم أفرادٌ من وحدات الجيش العسكرية إلا أن إجراءات الاعتقال والفصل من الأعمال، وسحب الجوازات ومصادرة الأموال وتأميم الشركات والتعذيب في السجون، ومعاملة الأبرياء من المعتقلين معاملة المجرمين، بل والإفراج عن عدد كبير جدا من المجرمين الحقيقيين من ذوي الأحكام بعفو عام لاستيعاب عدد آخر من الأبرياء، كل هذه الإجراءات تمتد لتطال قطاعا كبيرا من المدنيين أكبر بكثير ممن استهدفتهم داخل الجيش. فقد استهدفت قرابة مئة ألف من المعلمين والقضاة والمدعين العامين وأفراد الشرطة والعمال وأصحاب الحرف وأعضاء الجمعيات الخيرية والإعلاميين.. حتي طالت الأطفال وكبار السن والنساء والمرضي، ولا تزال تلك الانتهاكات مستمرة دون توقف بذريعة الانقلاب.
وكل هذه العمليات تكشف للمراقب أن النية مبيتة علي الاستمرار في التغطية علي الفاعل الحقيقي وعدم الكشف عنه، فمؤسسة الجيش من أكثر المؤسسات في البلاد انضباطا ودقة في تطبيق التعليمات والأوامر، وليس من الصعب الكشف عن أصغر قضية فيها وتحديد أطرافها، لذا نري من التناقض أن يتم الزج بهذا العدد الكبير من المدنيين في السجون والمعتقلات واتهام مجموعة كبيرة أخري بأنهم وراء هذا الانقلاب في قطاعات مدنية مختلفة منذ اللحظات الأولي للانقلاب، وألا يتم في الوقت نفسه الإفصاح عن أسماء المتورطين.
أو الكشف عن الفاعلين والمدبرين لهذا الأمر من أفراد الجيش، وإعلان أسمائهم للرأي العام علي الرغم من مرور هذا الوقت الطويل.
هناك جهة في الجيش تُدعي »مجلس السلام الوطني» يُعزي إليها محاولة الانقلاب الفاشلة، ولكن إلي الآن ليس لدينا أي معلومات عنها، كم عددهم؟ وما ارتباطاتهم؟ من الذين استخدموا الدبابات والطائرات؟ وممن تلقوا أوامرهم؟ ومن حرض طلاب المدارس العسكرية السذج حتي خرجوا إلي الشوارع علي هذا النحو؟ من استغل عواطفهم البريئة وقام بحشدهم؟ من احتجز الجنرالات من هيئة الأركان بل ورئيس الأركان نفسه؟ تداولت وسائل الإعلام تصريحات متضاربة في كل هذه الأمور، تسمع أن فلانا هو من وراء هذا الانقلاب، ثم في اليوم التالي يتحدثون عن بطولته في إفشال هذه المحاولة. وهكذا كلما زادت التصريحات زادت معها التناقضات بدلا من العكس. يقولون إن كل الأمور باتت تحت السيطرة، فما دام الأمر كذلك فلماذا لا يعلنون النتائج بشفافية علي الرأي العام؟
تجارب سابقة
• برغم كل هذه الأمور التي ذكرتموها لابد أنكم قد تشكلت لديكم قناعة حول الفاعلين الأصليين، فإلام توصلتم في هذه القناعة من خلال تجاربكم السابقة وتوقعاتكم الحالية؟
– لست مطلعا علي كافة التفاصيل، هناك ادعاءات تتردد في الأوساط الإعلامية لم يتبين لي مدي صحتها تشير إلي أن مجموعة من »العلمانيين القوميين» هم من وراء هذه المحاولة، وأن هناك اعتقالات لبعض من المعروفين بتأييدهم لـ»دوغو برينتشك» رئيس حزب الوطن القومي المتطرف الذي كان معتقلا علي خلفية قضية الأرجنكون، وتم الإفراج عنه بعد تفاهمات مع الحكومة الحالية.
ومن جهة أخري كتبت مجلة »فوكس» (Focus)الألمانية استنادا إلي مصادر من الاستخبارات الإنجليزية أن هذه العملية قام بتدبيرها مجموعة من السياسيين بغرض إدانة حركة الخدمة، وأعتقد أنه في القريب العاجل سترشح معلومات ودلائل أخري تشير إلي الفاعلين الحقيقيين. لكن وحتي تظهر تلك الدلائل فالحكومة هي المسئولة أمام الرأي العام المحلي والعالمي عن البحث والتدقيق الجاد لكشف ملابسات هذه الأحداث، والإفصاح عن المخططين والمنفذين الحقيقيين لهذه المحاولة. لكن يبدو أن الحكومة لا تسعي سعيا جديا في هذا المجال، فعمليات القبض والاعتقال العشوائية، والاستمرار فيما يسمي بمطاردة »الساحرات»، والدعايات الإعلامية التحريضية، وسائر ألوان الظلم والاضطهاد وأعمال التعذيب الوحشية والانتهاكات الجسدية، بالإضافة إلي تعرض عائلات المقبوض عليهم والمعتقلين من نساء وأطفال ومرضي وكبار السن لصنوف شتي من الإيذاء، كل هذا يشي بأن الحكومة ليس في نيتها الكشف عن المخططين والمنفذين الأصليين لهذه العملية.
• لماذا الخدمة؟
– إن محبي الخدمة والمتطوعين فيها قد نأوا بأنفسهم عن الانخراط في العمل السياسي، وابتعدوا تماما عن كل ما يمت بصلة للإسلام السياسي.لكنه بعد وصول المنتمين إلي فكر الإسلام السياسي إلي سدة الحكم، وتمكنهم من مراكز القوة وصناعة القرار بدأوا ينظرون إلي كل الحركات ذات المرجعية الإسلامية، والناشطة في المجتمع المدني بأنهم يجب أن يعلنوا لهم ولاءهم، ويقوموا بمبايعتهم علي غرار نظام البيعة التقليدي المشهور في التراث الإسلامي.
فالشخص القابع الآن في سدة الرئاسة زار كثيرا من الشخصيات عندما كان بصدد تأسيس حزبه عام 1999،وقد زارني أيضا لطلب الدعم وتلقي النصائح، وقدمت له بعض التوصيات بناء علي ما أبداه لي من جدية وإخلاص، لكن تبين لاحقا أنه كان مخادعا، فقد حكي عنه بعد مدة أحد الذين رافقوه في هذا اللقاء أثناء مغادرته وهو في المصعد قوله:» ينبغي القضاء علي هؤلاء أولا.» وهذا يعني أنه ما كان يُكِنّ لنا أي ود من الأساس، وأن تصريحاته في مدح حركة الخدمة والثناء علي أنشطتها ما هي إلا مراوغات من سياسي احترف الخداع. لقد كان دعمنا له في البداية بناء علي ما قطعه علي نفسه تجاه الشعب التركي من وعود، فقد وعد بدعم الحريات واحترام القانون وتعديل الدستور، وتعزيز الديمقراطية والسعي قدما في سبيل الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي، وتلبية المتطلبات المتعلقة بذلك في ملفات الديمقراطية والحقوق والحريات واحترام الإنسان. لكن مواقفه تغيرت كليا عقب الاستفتاء العام علي الدستور عام 2010. فقد علق الوعد بتعديل الدستور علي دعمنا له في النظام الرئاسي، ثم طووا ملف تعديل الدستور هذا كليا، وطالبونا بالدعم العلني للنظام الرئاسي، وتأييدهم مطلقا في كل مواقفهم، وأن ندور معهم في تقلباتهم حيث داروا.
لم يستطيعوا أن يفهموا أن دعمنا لهم أو انتقادنا لأدائهم ليس مرتبطا بهم بقدر ما هو مرتبط بمبادئنا التي نتمسك بها دائما. لقد قلبوا لنا بعدها أفصحوا عن وجههم الحقيقي تجاهنا، لم يتحملوا أن يكون هناك اتجاه في البلد له تأثير في الرأي العام بمقتضي نشاطاته وفعالياته المجتمعية ولا يمكنهم التحكم فيه، لذا قرروا التخلص منا تماما. بدأوا أولا بتوفير مؤسسات بديلة للخدمة من أموال الشعب ومن ميزانية الدولة، وبذلوا كل ما في وسعهم في سبيل ذلك، سواء في الداخل التركي أو علي مستوي العالم. ولما فشلوا في ذلك لأنهم لم يكن لدي أفرادهم الروح نفسها التي يتحلي بها أبناء الخدمة المتطوعون فيها قرروا الاستيلاء علي هذه المؤسسات التي أنشأها المجتمع بنفسه. وبدلا من حيازتها وإدارتها إدارة حكيمة من طرف الدولة أعلنوا إفلاسها وأغلقوها ثم وزعوها فيما بعد علي المقربين منهم، وهم الآن يحاولون الشيء نفسه في الخارج، لكن باءت كل محاولاتهم تلك بالفشل، لأن الله لا يصلح عمل المفسدين.
سلطات واسعة
• إذا كان أردوغان لديه كل هذه السلطات الواسعة، فلماذا يلجأ إلي مثل هذه الوسائل لماذا يدبر مسرحية الانقلاب حسب قولكم؟
– إن القائمين علي شأن البلاد الآن يسعون منذ خمس سنوات بذرائع مختلفة لتوسيع صلاحياتهم، وجمع كل السلطات في يد واحدة،تمهيدا لإقرار النظام الرئاسي. وقد بدأوا هذا عن طريق الإعلام، فأنشأوا آلية معروفة الآن باسم » الحوض الإعلامي»، نقلوا من خلالها كثيرا من وسائل الإعلام المستقلة أو المملوكة لأفراد لا يُظهرون الدعم لهم إلي ملكية رجال أعمال موالين، من خلال إفلاس مالكيها الأصليين، أو الحجز علي ممتلكاتهم. حتي القنوات الإعلامية التي استطاعت أن تحافظ علي حياديتها بالرغم من تلك الإجراءات كلها، قاموا بإرهابها مستغلين في ذلك أحداث »جيزي بارك» التي وقعت في تقسيم.
وبدلا من تقديم الفسدة والمرتشين إلي العدالة بعد انكشاف فضائح الفساد في 17-25 ديسمبر 2013،زعموا أن الخدمة هي من قامت بهذه العملية بغرض إحداث انقلاب مدني علي الحكومة، وبدأت ماكينة الإعلام سالفة الذكر تشتغل علي هذا الموضوع، واستغلوا حينها الفرصة وقاموا بتغييرات شاملة في جهازي الشرطة والقضاء، أبعدوا فيها كل من كانوا يجرون التحقيقات في هذه القضايا من القضاة والمدعين العموم، وقاموا بعزل وإبعاد كثير من غيرهم، وعينوا مكانهم موالين لهم، حتي صار الجهازان الشرطي والقضائي تحت وصايتهم تماما.
ثم اتجهوا بعد ذلك إلي المؤسسة العسكرية يطالبون بتطهيرها علي حد زعمهم مما يطلقون عليه »الكيان الموازي»، وقد قاموا قبل ذلك بتصفية بعض الجنرالات بعزلهم من مناصبهم أو اعتقالهم في القضيتين الشهيرتين اللتين أطلق عليهما »أرجنيكون» و»باليوز» (المطرقة)، واعتقدوا أن الأمور ستتم بنفس السهولة التي حدثت في جهازي الشرطة والقضاء، لكن المؤسسة العسكرية طالبتهم بتقديم الأدلة علي انتماء هذه القوائم المعدة سلفا للخدمة، وأصرت علي العمل في إطار القوانين في مقاومة منها لدخول المؤسسة العسكرية تحت وصاية الحكومة، والحفاظ علي استقلاليتها.لذلك لم يكن أمامهم من سبيل إلا تدبير محاولة من هذا النوع لبسط النفوذ الكامل علي مؤسسة الجيش.
وإن الناظر لما آلت إليه الأمور والإجراءات بعد الانقلاب فسيجدها تسير جميعا في هذا الاتجاه، فإعادة هيكلة الجيش، وإدخال عناصر مدنية إلي مجلس الشوري العسكري لأول مرة، وعزل الآلاف من مختلف الرتب وتسريحهم من مناصبهم،وتعيين موالين مكانهم وإغلاق المدارس والكليات العسكرية ما كان ليتم دون وقوع عملية من هذا النوع.
• عكست وسائل الإعلام خلال بثها لمهرجانات الديمقراطية عقب المحاولة الانقلابية الفاشلة توحد المعارضة مع أردوغان فكيف ترون ذلك؟
– قبل محاولة الانقلاب الأخيرة كانت السلطة قد أحكمت قبضتها بما يعادل 95 % تقريبا علي وسائل الإعلام في البلاد، وتحول الإعلام إثر ذلك إلي أداة للدعاية للحزب الحاكم وعلي رأسه أردوغان.
وبعد المحاولة الانقلابية بات كل من يفكر في معارضة السلطة أو التعليق علي أدائها يصنف في عداد الخائنين.فعدد كبير الآن من كبار الصحفيين أو الكتاب الذين كانوا يعبرون عن رأيهم في أداء الحكومة إما في المعتقلات أو قيد الإقامة الجبرية ولا يسمح لهم بمغادرة البلاد. ففي مناخ جنوني كهذا هل تعتقد أن هناك من يتجاسر علي المعارضة أو حتي يناقش الأحداث بموضوعية دون أن يكون أمنه وسلامته وسلامة عائلته معرضة للخطر؟
إن الدعاية الإعلامية الكاذبة في أوروبا أيام هتلر وموسوليني كانت هي العامل الأول والرئيسي في حشد الجماهير نحو أهداف بشعة، وسيأتي يوم تكتشف فيه جماهير شعبنا كيف أنهم تم تضليلهم واندفعوا إلي ارتكاب بعض الحماقات بسبب تلك الدعاية التحريضية الكاذبة، وإلي أن يحين هذا الوقت سيبقي عدد كبير منهم للأسف ضحايا هذا التضليل الإعلامي المحرض.
• قلتم إن أكثر المستفيدين من هذه العملية هو أردوغان، وهذا يعني أن هناك مستفيدين آخرين، فمن هؤلاء حسب رأيكم؟
– عقب فشل المحاولة الانقلابية جرت عمليات تصفية واسعة في صفوف المؤسسة العسكرية قبل التحقيق في أحداثها والكشف عن ملابساتها، وتم استدعاء مجموعة من العسكريين الذين أدينوا وتمت محاكمتهم في محاولات انقلابية من قبل، ليحلوا محل هؤلاء المُسَرَّحين.
من جهة أخري أفادت بعض التقارير التي أعدها الخبراء أن عمليات التصفية والتسريح شملت أيضا كل من لم يدعم السلطة الحالية في محاولاتها جر البلاد إلي مغامرات مجهولة العواقب،حتي ولو كانوا من مؤيديهم. إنني لست علي علم بكافة التفاصيل والمجريات لكن يمكنني القول: إن هناك آلافا من العسكريين الذين ليس لهم علاقة بالانقلابات ولا يؤيدونها قد جري تصفيتهم، وإذا ما نظرتم إلي هوية هؤلاء الـمُسَرَّحِين ونوعية الذين حلوا محلهم في رتبهم يمكنكم حينئذ الاطلاع علي المستفيدين.
صمت الجيش
• هل تعتقدون أن الجيش التركي سيظل صامتا إزاءتلك الممارسات التي تم القيام بها في الشوارع؟
– من واجب الحكومة أن تسارع بالكشف عن الذين قاموا بهذا العمل وتقديمهم للقضاء، وبذلك ستتم تبرئة من لم يشارك في الانقلاب وتُنْفَي عنهم التهم. لكن الواقع يشهد بأن الإجراءات المتبعة والممارسات التي تجري علي الأرض تسير عكس هذا الاتجاه. لقد وقعت منذ البداية أحداث مؤسفة، فقد تعرضت سمعة الجيش التركي للإهانة من خلال عرض صور علي شاشات التلفزة الموالية للحكومة لضباط رفيعي المستوي في صورة مهينة، وعليهم آثار التعذيب أثناء التحقيق معهم. كما تم ضرب أحد الجنود الذين كانوا يتواجدون في الشارع حتي لفظ أنفاسه الأخيرة، في حين أن هذا الجندي لم يكن علي علم أساسا بسبب خروجه إلي الشارع.
وبالتأكيد مثّلتْ كل هذه الممارسات إهانة للعسكرية الوطنية، ولا شك أن كل من شاهدها أو اطلع عليها من أفراد القوات المسلحة مهما كانت هويته قد أصيب بنوع من الأذي وخدش الكرامة.
اللافت في الأمر أنه كان هناك فئة بين الجماهير التي خرجت بإخلاص لإنقاذ الوطن من شر الانقلاب كما صُوّر لها تقوم بالسيطرة علي الشوارع، وتمارس هذه الأعمال الوحشية، يظهرون بين الناس وكأنهم أفراد من شعبنا العاديين، في حين أن مكانة الجيش في نفوس الشعب التركي لا تسمح له بممارسة هذه الأفعال.
• أشارت بعض التحليلات والكتابات ان الفئة التي انخرطت في صفوف الجماهير يبدو عليها أنها مدربة ومجهزة سلفا للقيام بهذه الأفعال، فملابسهم وطريقة تعبيراتهم وخطاباتهم تشبه إلي حد كبير تعبيرات وملامح المنظمات المتطرفة من أمثال داعش والقاعدة وغيرهما. هذا فضلا عن أنهم كانوا مدربين علي قيادة آليات ومركبات صعبة كالدبابات، ممن لا يتسني للمواطن العادي أن يكون علي دراية بها. والسؤال هنا: هل قاموا
بدعوة هؤلاء الذين أعدوهم من قبل ليلعبوا دورا في هذه المسرحية؟
– لا أستطيع أن أخمن ماذا يمكن أن يقوم به الجيش بعد هذه المرحلة؟ لقد كان الجيش هو المؤسسة الوحيدة التي لا تزال تحافظ علي تقاليدها وثقافتها رغم الضغوط التي مورست عليها.
تعيش السلطة الحالية الآن حالة من جنون القوة، لذا تتسم إجراءاتها وعملياتها التي تقوم بها إزاء الجيش حاليا بالسرعة، ومن شأن هذه التحولات السريعة التي تقوم بها أن تأتي بنتائج عكس ما تتوقع، وتمهد لظهور نوع آخر من المشاكل لم يكن في حسبانهم، لأن اتخاذ قرارات بلا دراسة أو تأن وروية تجاه مثل هذه المؤسسات الجادة يفتح أبوابا من المشاكل يستمر أثرها حتي زمن طويل.
إن تركيا بحكم موقعها الجغرافي تكتسب أهمية كبيرة في المنطقة، ومن جانب آخر فعضويتها في كيان دولي كبير كالناتو يضفي عليها طابعا آخر من الأهمية ويفرض عليها في الوقت نفسه شروطا معينة، لذا فإن هذه الأهمية وهذا الوضع سيحتم علي المجتمع الدولي دورا تجاه تركيا، حتي لا تنزلق فيما انزلقت فيه دول الجوار من الفوضي والاضطراب.
كما آمل أن تُلقي ثقافة »الدولة» بثقلها في هذا الموضوع وتدفع المسئولين إلي التعقل لإنهاء هذا الوضع المتردي الذي لا يفتأ أن يخرجنا من دوامة للأخطاء ليدخلنا في دوامة أخري، وألا يجعلوا الجيش ميدانا لتصفية حساباتهم مغلبين في ذلك مصالح دولتهم وأمتهم علي المصالح الشخصية الضيقة، حتي لا يؤدي عدم الحرص في هذا الخصوص إلي الإضرار بمكانة الجيش وسمعته التي يستحقها.
انتفاضة الشعب
• كيف تفسرون عدم انتفاضة الشعب التركي ضد هذه الإجراءات التعسفية التي يمارسها أردوغان وحكومته؟
– أحب أن أوضح هنا نقطة مهمة وهي أنه ليس في ثقافة الشعب التركي ولا من أعرافه فكرة التمرد، خاصة إذا كانت هذه الإجراءات التعسفية التي تُمارَس ضده تتم من قبل الدولة، فإنه يميل إلي تقبل الأمر الواقع حتي ولو لم يكن راضيا عنه.
أضف إلي ذلك أن الإجراءات التعسفية الأخيرة لم يشهد لها التاريخ التركي القريب مثيلا، ففرض الوصاية الكاملة التي تحدثنا عنها علي وسائل الإعلام، وتحويلها إلي جهاز يضخ الدعاية السوداء ضد أي فئة أو فصيل يحاول الاعتراض حتي ولو كان من المقربين منهم بالأمس، ومصادرة المؤسسات الإعلامية، والزج بالصحفيين المستقلين في غياهب السجون والمعتقلات، والتضييق علي كل الوسائل التي يمكن أن يعبر فيها الإنسان عن رأيه حتي وسائل التواصل الاجتماعي، كل هذا أدي في النهاية إلي أن أصبحت وسائل الإعلام الحكومية الموالية ومن يدور في فلكها هي المصدر الوحيد للمعلومات؛ ومن ثم فالشعب الذي يتابع هذه الوسائل لا يمكنه تقييم الوضع إلا في ضوء هذه المعلومات المفلترة التي تقدمها له وسائل إعلام أردوغان وفريقه؛ إذ ليس له من سبيل آخر يمكنه من الاطلاع علي حقيقة ما يجري من أمور.
وبعد فضائح الفساد في ديسمبر عام 2013 والإجراءات التي اتخذوها في سلكي القضاء والشرطة التي تحدثنا عنها آنفا لم يكتفوا بذلك بل وجهوا نوابهم في البرلمان لإصدار قانون أسموه» الاشتباه» أو الشبهة المعقولة، وهو قانون يتيح للقضاء إصدار مذكرات اعتقال في حق من تحوم حوله »الشبهات» دون وجود أدلة تدينه.كما أسسوا محاكم خاصة تتكون من قضاة مقربين أطلقوا عليها محاكم »الصلح والجزاء»، يحال إليها هؤلاء المعتقلون بناء علي تلك الشبهة المعقولة، فصارت القوانين والمحاكم والاعتقالات بذلك أداة للعقوبات السياسية.
وفي سلك الشرطة أيضا قاموا بالتخلص من خيرة رجال الشرطة الذين تلقوا تدريبات عالية المستوي في أوروبا وأمريكا، ولديهم خبرة عالية في الكشف عن الجرائم والتعامل مع مرتكبيها ومنع العمليات الإرهابية قبل حدوثها، فضلا عن رعاية القوانين واحترام حقوق الإنسان، واستبدلوا بهم آخرين من المقربين. وبدلا من أن تكون الشرطة جهازا لخدمة الشعب، يمثل الحقوق والعدالة صارت أداة في يد الحكومة تبطش بها كما تشاء، وعاد التعذيب مرة أخري إلي السجون والمعتقلات بعدما كانت حديثا يتناقله الناس عن الماضي.
وفي هذا الجو المرعب الذي بات يخيم علي البلاد لا يمكن أن يجازف الناس ويفكرون بالخروج.
فسابقا كانت الجماهير تخرج بكثرة للاعتراض حتي علي المشاكل البسيطة كما خرج الناس للحفاظ علي البيئة في منتزه »جيزي بارك» بتقسيم، عام 2013، وجري قمعهم بشدة علي يد حكومة الحزب الحاكم الذي كان يتزعمها أردوغان آنذاك. ومن بعدها خفت حدة هذه الاعتراضات حتي تلاشت تماما بسبب الإجراءات التي قاموا بها والقوانين التي سنّوها. والآن وبعد محاولة الانقلاب دع عنك فكرة توجيه النقد إلي الحكومة بل بلغ التعسف حدا أن يعدّوك من الخائنين إذا لم تشترك معهم في الهجوم علي خصومهم، وتبني خطابهم.
• ولست أدري هل يكون من المنطقي في مناخ كهذا أن نتوقع من أبناء الشعب أن ينزلوا إلي الشوارع لإدانة هذه الممارسات التعسفية التي تمارسها الحكومة؟
– إن الكفر قد يدوم لكن الظلم لا يمكن أن يدوم. إن دائرة الظلم في البلاد آخذة في الاتساع، وبالتأكيد ستطال شرائح أكبر من المجتمع، وهو ما بدأ يحدث بالفعل، ووقتا ما سيشعر الشعب التركي بالحاجة إلي التعبير عن رأيه تجاه هذا الظلم، وسيسعي لإسماع صوته للآخرين.
صفقة سياسية
• هل تعتقدون أن الولايات المتحدة ستسلمكم إلي نظام أردوغان مقابل صفقات سياسية بين الطرفين؟
إن موضوع المطالبة بتسليمي ليس أمرا جديدا ظهر بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، بل قام رئيس الجمهورية الحالي عقب فضائح الفساد في ديسمبر 2013 الذي كان حينها رئيسا للوزراء بمطالبة أمريكا علنا أمام حشود من مؤيديه بتسليمي لهم، ورغم مرور زمن طويل علي هذه التصريحات الجماهيرية لم تتخذ الحكومة التركية أي إجراءات رسمية في هذا الشأن. وحسب ما أوردت بعض وسائل الإعلام فقد كان المسؤولون الأتراك في معظم لقاءاتهم التي تجمعهم مع نظرائهم الأمريكيين يبحثون معهم هذا الطلب، ويقدمون لهم بعض الحوافز لتحقيق ذلك، وأحيانا يربطون هذا الملف ببعض المصالح الاستراتيجية المشتركة. لكن المسئولين الأمريكيين لم يعيروا اهتماما لهذا الابتزاز، كما أن المنظومة القضائية هنا تعمل بشكل حيادي ومستقل، ولا تخضع لهذا النوع من الابتزاز والتهديدات. ولا أظن أن أمريكا ستغامر بسمعتها في ملفات حقوق الإنسان والعدالة لا سيما علي أراضيها من أجل إرضاء رغبات شخصيات متقلبة كهذه.
لقد أرسلوامؤخرا إلي هنا تقارير ملفقة تم ترتيبها في وقت مسبق تمتلئ بمزاعم لا دليل علي صحتها. أعتقد أن المؤسسات القضائية تدرس تلك التقارير، وتناقش ما إذا كانت تتضمن وثائق جادة. ولكن أري أن القناعة السائدة لدي المتابعين لهذا الشأن في أمريكا أنه لا يوجد أدلة مقنعة تقتضي تسليمي لهم.
وأجدها مناسَبة لأكرر ما سبق ورددته سابقا في جميع لقاءاتي الإعلامية: لتؤسَّسْ لجنة دوليةمن قِبَل أطراف محايدة، تكون مهمتها التحقيق في ملابسات ما جري في تركيا، علي أن يوفروا لهؤلاء المحققين المناخ الآمن بحيث يضمنون سلامتهم الشخصية هم وعوائلهم، وساعتها سأرضي بكل النتائج التي تقرها اللجنة، وإذا كان من بينها إدانتي فسأعود بكل طواعية إلي بلادي مسلما نفسي للعدالة لتتخذ في حقي ما تشاء. وأعتقدأن هذا طريق أيسر من الضغوط وممارسة أساليب وطرق سياسية ملتوية.
• إذا كان هناك احتمال أن تسلمكم الولايات المتحدة، فهل تفكرون في القدوم إلي مصر؟
– مصر تتمتع بمكانة مهمة في العالمين العربي والإسلامي، ولا شك أن زيارتها والجلوس بين علمائها رغبة عزيزة لكل طالب علم، وقد بلغتني أنباء عن توجيه بعض الوجوه الثقافية والسياسية دعوة لاستقبالي في مصر، وهذا موقف يستحق الإشادة والثناء وتوجيه الشكر لمن فكروا فيه.
وبهذه المناسبة، لا يسعني إلا أن أتقدم بجزيل الشكر والتقدير للقيادة المصرية علي موقفها النبيل والشهم حيث وقفت حائلا ضد استغلال تركيا لمنظمة التعاون الإسلامي في محاولاتها لإدراج الخدمة ضمن الكيانات الإرهابية، فهذه الوقفة الحازمة من مصر ذات الثقل في المجتمع الدولي لا يمكن أن تنسي، بل هي جميل لن أنساه ما حييت.
لكن كما ترون فأنا هنا أعيش منزويا مع بعض من طلابي نتدارس معا كتب التراث الإسلامي، ولا أغادر المبني الذي أسكن فيه إلا لحاجة ملحة كالتداوي أو تلقي الرعاية الصحية، وفي الوقت نفسه لا أريد أن أكون سببا لأي فرد أو دولة في أي أزمة يمكن أن تقع، كما لا أتصور نفسي مصدرا للحرج لأي بلد أتواجد فيه ولا سيما بلدا عزيزا علي قلبي كمصر.
إذا قررت الولايات المتحدة ترحيلي من هنا أو تسليمي إلي تركيا لأية اعتبارات فستكون وجهتي القادمة هي تركيا فحسب بكل تأكيد. وإلا فأنا لا أفكر في مغادرة هذا المكان الذي أقيم فيه والتوجه إلي بلد آخر، وأنا هنا أردد مع الشاعر »نفعي» قوله: »لم نلق من الدنيا صفاء، ولا نتوقع من أهلها شيئا، ولا حاجة لنا سوي باب ربنا».
• كيف تفسر التناقض الحاصل في شخصية أردوغان، ففي الوقت الذي يطبّع العلاقات مع إسرائيل من جديد يصرح بعدائه لمصر إدارة وشعبا في كل محفل؟
– إن هذه الشخصية التي تدير البلاد في تركيا حاليا تعيش في أوهام السلطنة والخلافة. فرغم عدم تصريحه بذلك علي الملأ، فإنه يحلم بإمارة المؤمنين، وكثيرا ما يلقبه المقربون منه بالسلطان أو أمير المؤمنين لأنهم يعلمون أنه يحب أن يُدعي بذلك، وهو أيضا يري نفسه أهلا لقيادة العالم الإسلامي، ومن ثم كان يظن أن العالم الإسلامي سينقاد لرغباته تلك. إنه يتكلم عن الدعاء في قبر صلاح الدين الأيوبي والصلاة في الجامع الأموي وكأنه يتكلم عن أجزاء من سلطنته. لقد قدم الدعم للمنظمات الإرهابية التي تقاتل علي الأرض السورية أملا في إسقاط النظام هناك وخضوع البلاد له. كما كان يحلم أن يفرض هيمنته علي مصر إبان حكم الإخوان ظنا منه أنه سيتمكن من ذلك. وعندما أخفق وخابت مساعيه بدأ ينقل هذا الملف داخليا يجتذب به أصوات الناخبين وبدأت آلته الإعلامية تقدمه علي أنه نصير المظلومين وصوت المستضعفين في كل مكان، في حين أنه لم يقدم لهم شيئا يذكر سوي شعارات جوفاء.
لكن المرير في الموضوع أنه اتخذ من مصر هدفا في كل محفل أو مناسبة ينال منها، ويحرض مؤيديه علي توجيه العداء لها، وهناك تقارير إعلامية تقول إنه قد توجه إلي ما هو أبعد من ذلك.
إن الشعبين التركي والمصري تربطهما روابط وعلاقات وثيقة تشكلت عبر قرون ممتدة من الزمان، لذلك فإنني أعتبر ما يجري الآن من تصرفات وتصريحات غير مسئولة من الجانب التركي في حق الجانب المصري نوعا من العبث والهذيان. لكني علي ثقة بأن هذا العبث سيتوقف عند نقطة معينة، وسيواصل الشعبان مسيرتهما الأخوية من جديد، في ظل وعي كل منهما بأهمية المكانة التي يتمتع بها كل من البلدين.
لقد تاجروا بقضية سفينة »ماوي مرمرة» واستغلوها في محافلهم الانتخابية أيما استغلال، كسبوا بإعلان عداوتهم لإسرائيل التعاطف الداخلي وحصدوا كثيرا من الأصوات، الشعب التركي عاطفته الإسلامية تجاه قضايا أمته جياشة، لقد أنكرنا عليه في هذه القضية »ماوي مرمرة» أن يتصرف وهو مسئول عن قيادة البلاد تصرف الناشطين السياسيين، وبحكم مسئوليته كان عليه أن يتخذ التدابير اللازمة لحماية أرواح مواطنيه، وألا يعرضها للهلاك بدفعهم إلي مغامرة غير محسوبة العواقب، لقد تألمت كثيرا لهذه الأرواح الطاهرة البريئة التي استشهدت في هذا العمل واستنكرت علي من قاموا بهذا الفعل غير الإنساني.
كان هذا رأيي ولم أتردد في إعلانه، حفظُ الأرواح مقدم علي حفظ الدين، لقد كان كلامي ساعتها موجها إلي الحكومة، أخذوا هذا الكلام وحرفوه عن سياقه، وبدأت ماكينات إعلامهم تشتغل علي التشويه والتخوين والاتهام بالعمالة لإسرائيل، ووجدوها فرصة للمتاجرة بهذا الملف واستغلال مظلومية إخواننا من الفلسطينيين لحصد الأصوات في الداخل التركي ومغازلة العالم الإسلامي بشعارات جوفاء في حق القضية الفلسطينية ونصرة إخواننا الفلسطينيين في حقوقهم المشروعة، بينما التعاون مستمر علي أشده بينهم وبين إسرائيل في الخفاء.
إنهم وبعد استغلالهم لهذا الملف أيما استغلال لإحراز بطولات دونكوشوتية وهمية تراجعوا عن كل شروطهم واختاروا طريق التطبيع مع إسرائيل، ولم يقدموا لغزة أي شيء يذكر، وضيعوا حقوق الضحايا الأبرياء الذين قضوا في هذه العملية،فلم يفكوا الحصار عن غزة، ولم تجر محاكمة الجناة في المحاكم الدولية علي النحو الذي كانوا يشترطونه. والأعجب أنهم راحوا يسوّقون هذا التطبيع في تركيا ودول المنطقة علي أنه انتصار لهم، ومما يحز في النفس أيضا إغلاقهم لجمعية كيمسة يوكمو التي كانت تقوم بدور مهم في تقديم المساعدات المالية والطبية لإخواننا في غزة. فكل ما سبق يبين لك مدي ما تنطوي عليه سريرتهم من خداع ومراوغة لا يليقان بالمؤمن حقا.
»الخدمة» والإخوان
• هناك من يؤمن بأن حركة الخدمة قريبة من خط الإخوان؟
– إذا كان المقصود بخط الإخوان هو الإسلام السياسي، فنحن منذ بدايتنا بعيدون كل البعد عن هذا الخط، لم يكن قط أبناء الخدمة طالبي سلطة أو ساعين إليها، ولم يدر في خلدنا قط أن نكون فاعلين في إدارة البلاد من أي زاوية.لقد كان همنا الأول والوحيد ابتغاء مرضاة الله من خلال العمل علي إنشاء جيل يتحلي بالعلم والفضيلة لنعالج بهذا الجيل ما تفشي في أمتنا ومجتمعاتنا من أدواء الجهل والفقر والنزاعات.
لقد كان أحد النواب في بدايات تأسيس الجمهورية التركية مصيبا حينما عبّر في إحدي خطبه قائلا: إن الحكام هم انعكاس لما يحمله أفراد المجتمع من قيم، فإذا كان الناس كالحليب فإن حكامهم هم زبدته، فالمجتمع الذي يتشكل من أفراد فضلاء لا شك أن حكامهم سيكونون كذلك أيضا. هذه رؤيتنا التي تبنيناها، ومن ثم قام أبناء الخدمة بفتح مساكن للطلبة ومعاهد تحضيرية ومدارس وجامعات، وشجعوا القادرين علي التكفل بالفقراء من الطلاب من خلال توفير المنح الدراسية لهم، وفتح مراكز مجانية للمطالعة والمدارسة والتقوِّي في موادهم الدراسية، لحض المجتمع علي تعليم أبنائه، وإزالة العوائق من أمام أولياء الأمور غير القادرين في سبيل تعليم أبنائهم، للقضاء علي مشكلة الجهل. كما قاموا أيضا بحثّ الأغنياء علي توسيع نشاطاتهم الاقتصادية في الداخل والخارج، وتوفير مزيد من فرص العمل للقضاء علي مشكلة الفقر. فتخرّج من هذه المدارس أجيال متسلحة بالعلم والمعرفة، يجيدون لغات مختلفة ولديهم اطلاع علي ما جد في العالم المعاصر من علوم وتكنولوجيا. وحصل طلاب هذه المدارس علي الجوائز الأولي في أولمبياد العلوم والرياضيات والمخترعات الحديثة، وصارت هذه المدارس ماركة في مجالها في داخل وخارج تركيا، حيث توسعت نشاطاتها لتمتد إلي 170 دولة. وقد لاقت في كل الدول التي حلت فيها ترحابا كبيرا من المسئولين وأبناء الشعب لما لمسوه من جدية واحترافية في المجالين التربوي والتعليمي.
وقد أسهمت هذه المؤسسات التربوية في تأسيس روح الوفاق بين الأقطاب المتنازعة، ففي البوسنة مثلا جمعت مدارسنا بين البوسني والصربي والكرواتي في صف واحد وهم الذين كانوا بالأمس متحاربين، وأسهمت بذلك في تقليص الخلافات وتعزيز الاتفاقات، مما نتج عن ذلك كله اهتداء أبناء الخدمة إلي تأسيس منتديات للحوار والتعارف والتقارب بين الحضارات والثقافات والأعراق والأديان، عملا بقوله تعالي:» لتعارفوا».
إن أرضية الإخلاص وبذل الجهد والتضحية التي أسسها إخواننا بعرقهم ودموعهم ودأبهم اجتمع عليها من الأعراق والأطياف والثقافات والأديان مالم يجتمع علي أرضية أخري من قبل، ذلك لأنهم يتوخون خدمة الإنسان أيا كان لونه أو عرقه أو دينه دون تفرقة أو تمييز، ولشعور المجتمعات بإخلاصهم في هذا المجال تعاونوا معهم وأفسحوا لهم قلوبهم وأوطانهم.
في الستينيات جاءني أحد أقطاب الإسلام السياسي في تركيا، وعرض عليّ المشاركة في تأسيس حزب سياسي، لكني رفضت عرضه وأصررت علي مواصلة العمل في المجال المجتمعي، وبعدها عُرضت علينا فرص كثيرة للانخراط في العمل السياسي، وطلبوا منا ترشيح من نراه مناسبا لتولي وزارات بعينها، لكنا لم نستجب لذلك أيضا. لو كانت لنا مآرب سياسية لكنا قد قطعنا فيها شوطا كبيرا، أو لكان لنا حزب سياسي مستقل، لكن كل هذا يتناقض مع رؤانا وأفكارنا التي نؤمن بها. ومن ثم لم يكن لنا علاقة بأي حزب ولم ندعم في حياتنا سوي المبادئ الإنسانية والديمقراطية التي نؤمن بها؛ لذلك كانت الأحزاب السياسية هي التي تخطب ودنا بالتقرب إلي ما نؤمن به من قضايا مجتمعية، ومن كان صادقا منهم في التقرب إلي هذه القيم والمبادئ كان يلقي منا الدعم والتأييد أيا كانت مرجعيته وخلفيته التي جاء منها. فبالأمس دعمنا تورغوت أوزال وهو وسط اليمين، وبعده بعض إجراءات ومشاريع بولنت أجاويد وهو يساري، ثم كان دعمنا لحزب العدالة والتنمية في بداياته الأولي، وذلك لأن كل هؤلاء كانوا يتحدثون معنا بنفس اللغة التي نتحدث بها.
أقول كل هذا لأبين أننا لم نقف يوما في موقف قريب من خط الإسلام السياسي، ولا يعني هذا أننا ننكر عملهم في هذا المجال ما داموا مخلصين للأطر الديمقراطية.بل إن مبدأنا الرئيسي هو احترام أفكار كل العاملين في الحقل الإسلامي الوسطي المعتدل مهما كانت انتماءاته، لكن خياراتنا في البعد عن هذا الخط منذ البداية هو ما سِرنا عليها وسلكنا طريقها، ولا نفكر في تغيير هذا المسار بعد ذلك أيضا.
• كيف ترون مستقبل تركيا؟
– إنني علي يقين بأن المستقبل سيتغير إلي الأفضل، فهذه الممارسات العابثة التي تجرف بمقدرات الأمة نحو المجهول ستتوقف عند نقطة معينة. كما أنني أعقد الأمل علي صحوة الشعب التركي واستفاقته من غفلته، فالأوضاع الجارية الآن من مظالم وانتهاكات واضطرابات محلية وخارجية ستدفع تركيا إلي الانعزال عن محيطها، وهو ما لا ينبغي أن يكون. فمكانة تركيا العالمية والجيواستراتيجية والمعاهدات والاتفاقات التي وقعت عليها تركيا مع جميع الأطراف تقتضي ألا تستمر تركيا في هذه الأوضاع حتي لا تفرض عليها عقوبات دولية تضر بالشعب وبسلامة أراضيه.
لذلك يحدوني الأمل بأن يتحكم المنطق السليم، وأن يُغلّب منطق الدولة علي منطق الأشخاص المغامرين، وتحتكم البلاد إلي أعرافها المتبعة في مثل هذه الأحوال، وتعود إلي المسار الديمقراطي الذي بدأت تنتهجه في بدايات حكم العدالة والتنمية، سعيا إلي تحقيق متطلبات شروط الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي في بدايات الألفية الثالثة.
من موقع لجريدة الأخبار