بقلم: يافوز أجار
طالب أعضاء حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا بلجنة التحقيق البرلمانية فيما يسمى بـ”محاولة الانقلاب الفاشلة”، الرئيس السابق عبد الله جول، بالإجابة على مجموعة أسئلة مثيرة، بطريقةٍ بدت وكأنهم يتهمونه ويستجوبونه بدلاً من السعي للوصول للحقائق.
ومن بين الأسئلة التي أرسلت إلى جول، “هل وصفت فتح الله كولن بـ”التربوي” في خطابٍ أرسلته إلى المسؤولين الأمريكان؟”، واستفسروا عن رأيه حول الادعاءات المتعلقة بتوجيهه رئيس المخابرات هاكان فيدان إلى الاستجابة لاستدعاء النيابة العامة في إطار ما عرف في تركيا آنذاك بـ”أزمة السابع من فبراير عام 2012″، حيث لم يستجب رئيس المخابرات للنيابة العامة بدعوى أنها تخطط لاعتقاله.
وكان الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان زعم آنذاك عبر وسائل إعلامه أن المدعي العام صدر الدين صاري كايا استدعى رئيس المخابرات هاكان فيدان في 7 فبراير2012 لـ”أخذ إفاداته”، بسبب مشاركته في “مفاوضات أوسلو” الرامية إلى التوصل مع حزب العمال الكردستاني الإرهابي لتسويةٍ حول القضية الكردية، وذلك كأول خطوة لتمهيد الطريق إلى الإطاحة بحكومته و”اعتقال أردوغان” عبر محاسبته على السياسة التي تتبعها حكومته في التفاوض مع هذه المنظمة الإرهابية.
ولا يعد من النباهة أن نستنتج أن هذه اللجنة تحرّكت بتوجيهٍ مباشر من الرئيس أردوغان، وننتهيَ إلى أنه يتهم رفيقه عبد الله جول بالموافقة على استدعاء رئيس المخابرات، وهذا يعني بالضرورة أنه يتهمه بالموافقة على الإطاحة بـحكومته واعتقاله بعد اعتقال رئيس مخابراته هاكان فيدان.
ومن اللافت أن هذه الخطوة تأتي بعد أن ادعى الزعيم العلماني اليساري المتطرف والقيادي في تنظيم “أرجنكون” دوغو برينتشاك؛ حليف أردوغان الجديد، أن نطاق تحقيقات حركة الخدمة سيتوسع ليشمل كبار قادة حزب أردوغان العدالة والتنمية أيضًا، وبعد أن كتبت صحافة أردوغان عن لقاء عبد الله جول في الأردن مع رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير من أجل تأسيس حزب جديد لإنقاذ تركيا من مأزقها الحالي.
وهذه الأسئلة التي تحمل صيغة الاتهام الموجه إلى عبد الله جول، إضافة إلى السؤال الموجه لرئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو بشأن لقائه مع فتح الله كولن، أثارت تساؤلات في الشارع التركي حول ما إذا كان أردوغان يخطط لتصفية واعتقال رفيق دربه بتهمة دعم ما سماه “منظمة فتح الله كولن الإرهابية” والسعي للإطاحة به.
“أسطورة التخطيط لاعتقال هاكان فيدان وأردوغان”
بدأت الآلة الإعلامية العملاقة الخاضعة لأردوغان، خاصة بعد الكشف عن فضائح الفساد والرشوة التاريخية، تبرر كل وسيلة مهما كانت من أجل تحقيق الغاية، بما فيها حياكة سيناريوهات وقصصٍ وهمية لا تمتّ بصلة إلى الواقع. وأبرز عملية اختراق العقول وزرع الأفكار التي باتت الأداة التي يستخدمها رجال أردوغان في الحملات الأمنية التي ينفذونها منذ أكثر من أربع سنوات ضد كل من يصنفونهم ضمن “معارضي أردوغان”، بتهمةٍ مزورة تحت مسمى “الانتماء إلى الكيان الموازي”، هو ما يعرف بــ”حادثة استدعاء رئيس المخابرات من قبل النيابة العامة”، ولأن هذه الحادثة أثارت زوبعة سياسية كبيرة وكانت بمثابة “نواة” للأحداث التي تبعتها ينبغي التوقف عندها لإزاحة الستار عن كل ملابساتها.
ويزعم إعلام أردوغان أن المدعي العام “استدعى” رئيس المخابرات في 7 فبراير 2012 لـ”أخذ إفاداته” لمشاركته في “مفاوضات أوسلو” التي كانت تسعى لإقامة السلام الكردي، وذلك استعدادًا للانقلاب على أردوغان عبر محاسبة “السياسة” التي اتبعها في التفاوض مع تلك المنظمة الإرهابية. ثم هبّ يحيك قصصاً وهمية تدعم هذا التصور.
وفي سبيل تشكيل هذا الإدراك في الرأي العام أنتجوا حتى فيلماً يتناول هذه الحادثة، فمدعاهم هو أن المدعي العام اختار وقتاً حساساً جداً لهذا الخروج على الحكومة، حيث تزامن مع خضوع أردوغان لعملية جراحية بحيث “لو نام على السرير قبل 45 دقيقة لوجد يديه مكبلتين عند إفاقته واستيقاظه من فراش العملية!”
أما حقيقة الأمر فهي كالتالي:
أولاً: ما قام به المدعي العام لا يمكن وصفه بـ”الاستدعاء” بل هو “دعوة”، ذلك لأن المدعي العام صدر الدين صاري كايا أجرى مكالمة هاتفية مع فيدان، ودعاه خلالها للتباحث والتشاور حول انخراط بعض عناصر المخابرات في صفوف حزب العمال الكردستاني والمشاركة معهم في أعمال إرهابية، إضافة إلى إطلاق سراح رجالٍ اعتقلوا على أنهم إرهابيون بحجة أنهم رجال المخابرات، ثم اتخذ الطرفان قراراً بعقد لقاء لبحث الموضوع، وحدّدا يوماً معيناً فعلاً، أي الأمر عبارة عن دعوة رئيس المخابرات من أجل تبادل المعلومات التي يحوزها بشأن منظمة إرهابية، أي تشاور بين جهازين تابعين للدولة ذاتها.
لكن نظراً لأن هناك استعداداتٍ لإيجاد أرضية وإطارٍ لتنفيذ خطة مشؤومة، فإن هذا الموضوع تم تسريبه إلى الموقع الإلكتروني لجريدة “حريت”، حيث نشر خبراً قبل يومٍ واحد من انعقاد اللقاء ادعى فيه بأن “رئيس المخابرات فيدان كان سيعتقل لو استجاب لدعوة المدعي العام”، ومن ثم أخذوا يحيكون مؤامرة وفقاً لهذا الزعم.
فضلاً عن أن البيان الذي نشره مساعد النائب العام في إسطنبول آنذاك “فكرت سجان” يكشف أن سبب دعوة فيدان ليس مشاركته في المفاوضات التي أجريت مع العمال الكردستاني، ولا “محاسبة أردوغان” على سياسته في هذا الصدد، حيث جاء في بيانه: “أن دعوة فيدان لتبادل المعلومات لا تستهدف، لا من قريب ولا من بعيد، الجهودَ التي تبذلها، أو السياسةَ التي تتبعها السلطة التنفيذية (الحكومة) من أجل إنهاء فعاليات الإرهاب. لكن ما حدث هو أن النيابة العامة في إسطنبول حصلت على دلائل ووثائق خلال تحقيق معين بخصوص منظمة كي جي كي (KCK) التي تعد “الجناح المدني” و”العقل المدبر” لمنظمة العمال الكردستاني تثبت أن عدداً من موظفي المخابرات انتهكوا نطاق المهام الموكلة إليهم وخرجوا عليها، وذلك عن طريق المساهمة في تنفيذ فعاليات المنظمة الإرهابية، الأمر الذي أثار شبهات قوية حولهم”.
والمفارقة أن أردوغان كان أطلق خلال حوار تلفزيوني على منظمة كي جي كي؛ اللجنة التنفيذية العليا للعمال الكردستاني، “الكيان الموازي” داخل الدولة، وطالب بالاستمرار في تنفيذ العمليات ضد أعضائها وقياديها، قبل أن يصف به حركة الخدمة!
والدليل القاطع على أن النائب العام صاري كايا لم يدعُ فيدان لمحاسبته على سياسة السلطة الحاكمة تجاه العمال الكردستاني هو أن النيابة العامة في أنقرة كانت تنظر فعلاً دعوى رفعها النائب البرلماني من حزب الشعب الجمهوري تانجو أوزجان حول مفاوضات أوسلو مع العمال الكردستاني، ولا يمكن فتح تحقيق جديد حول الموضوع ذاته تقنيّاً بينما يستمر التحقيق المذكور، مما يبطل دعوى محاسبة فيدان بسبب مفاوضات أوسلو وسياسة الحكومة في هذا المضمار.
أما الحكاية العاطفية حول التخطيط لاعتقال أردوغان بعد فيدان وهو على فراش العملية، فعارٍ عن الصحة تماماً، ذلك أن أردوغان كان خضع لعملية جراحية مهمة في 26 نوفمبر، أي قبل شهرين على الأقل من حادثة دعوة فيدان من قبل المدعي العام في 7 فبراير 2012، بل كان عاد لجولاته الداخلية ما عدا الخارجية. ومن ثم أجريت له عملية بسيطة مكملة للأولى دون تخدير لكن في 11 فبراير 2012، أي بعد 4 أيام من هذه الحادثة، وفي كلتا الحالتين فإن الزعم “لو نام على سرير العملية قبل 45 دقيقة لوجد يديه مكبلتين عند إفاقته” ليس إلا بمثابة إضافة “صوص” عاطفيّ إلى هذه الحكاية الملفقة!
فضلاً عن كل ما ذكرنا أعلاه، فإنه لم يكن من الممكن اعتقال أردوغان من الناحية التقنية، إذ من المستحيل أن يعتقل أيُّ مدعٍ عامّ رئيس الوزراء بإعداد لائحة اتهام بحقه، وليس بإمكانه، في أي حال من الأحوال، أن يعزله من منصبه ومهمته. وهذا لسبب بسيط، لأن رؤساء الوزراء، وكذلك النواب البرلمانيين، لا يمكن عزلهم من مناصبهم ومحاكمتهم ما لم تكن موافقة برلمانية وإحالة إلى محكمة أمن الدولة العليا، ولكن لما رفض فيدان الاستجابة لدعوة النائب العام، عمد هذا الأخير إلى تطبيق الإجراءات الرسمية، فطالب النيابة العامة في أنقرة بأخذ إفاداته حول الموضوع المذكور، ومن هنا اندلعت الأزمة المذكورة، ووظف أردوغان هذه الأزمة في تنفيذ عملية تصفيات كبيرة من جانب وتعيينات من جانب آخر في الأجهزة البيروقراطية للدولة، خاصة في جهازي الأمن والقضاء، إضافة إلى إجراء تعديلات قانونية وفرت درعاً قانونياً لعناصر المخابرات ربط إمكانية محاكمتهم قانونياً بإذن رئيس الوزراء أردوغان مهما كانت التهم الموجهة إليهم.
كبير مستشاري أردوغان ينفي تخطيط الخدمة لاعتقال أردوغان!
وعلى الرغم من ذلك، فإن أردوغان ورجاله لم يتهموا في ذلك الوقت، أي عام 2012، حركة الخدمة بالوقوف وراء ما أسموه “الخروج على الحكومة” ولم يتحدثوا أبداً عن وجود كيان موازٍ يريد الانقلاب عليها، بل كان هذا الوصف يطلق على منظمة كي جي كي المرتبطة بالعمال الكردستاني، من قبل أردوغان وإعلامه، كما قلنا، حتى عندما وردت مزاعم في بعض الصحف تتهم الخدمة بالوقوف وراء ذلك، خرج يالتشين أكدوغان كبير مستشاري أردوغان حينها ونائب رئيس الوزراء وكتب مقالاً بعنوان “نحن مدركون باللعبة”، نفى فيه كل هذه الاتهامات عن الخدمة.
ففي المقال الذي نشرته صحيفة “يني شفق” الموالية للحكومة في عنوانها الرئيسي مع وضع عنوان “بالتأكيد تفشل هذه اللعبة” أكد على “عدم وجود أي صراع بين حزبهم العدالة والتنمية وحركة الأستاذ فتح الله كولن، كما تصوّره بعض الأطراف ووسائل الإعلام في أعقاب استدعاء رئيس جهاز المخابرات فيدان”.
وقال “من غير الممكن أن يسود صراع أو نزاع في مجال السلطة والإدارة بين مجموعتين تسعيان لتقديم خدمات إلى شعبهما في مجالين مختلفين”، ثم لفت إلى أهمية الأخوّة والتضامن بين المجموعتين اللتين تجمع بينهما المثلُ العليا الخالدة وليس المنافع والمصالح العابرة، أكثر من ذلك فإنه شدد على أن آمال من يسعون إلى “إثارة الفتنة والبغضاء والعداوة بين الحكومة برئاسة أردوغان ومؤيدي حركة الخدمة التي تستلهم فكر الأستاذ فتح الله غولن لن تتحقق على الإطلاق، ولن يفتح الطريق أمام الحاقدين والحاسدين لتنفيذ مخططاتهم المنحوسة”.
لكن النفاق “السياسي” لأكدوغان؛ مستشار أردوغان، ظهر للجميع عندما زعم أن ما سماه “الدولة الموازية”، ويعني بها حركة الخدمة، قد دبّرت مؤامرة، ونصبت فخاً للجيش الوطني لإدانة أفراده وإيداعهم السجن، ووجد أردوغان بفضله، في هذا المفهوم المختلق، ضالته، حيث باتت هذه التصريحات بمثابة “طوق نجاة” لأردوغان ليتشبّث به ويخرج من “حوض” أو “بحر الفساد” الذي تورط فيه مع رجاله.
الحقيقة هي أنه إن أمكن الحديث عن وجود مخطط انقلابي في هذه الحادثة، فهو الانقلاب الذي أحدثته حكومة أردوغان حينئذٍ ضد كل “الكوادر الوطنية” في مؤسسات الدولة، فالحكومة وظفت هذه الحادثة في منع تطهير المخابرات من عناصرها المرتبطة بـ”الدولة العميقة” التي تدير الشعب التركي عن طريق تنظيم “أرجنكون”، والشعب الكردي من خلال تنظيم “حزب العمال الكردستاني” منذ تأسيس الجمهورية التركية الحديثة عقب سقوط الدولة العثمانية.
يبدو أن أردوغان يريد الآن استثمار هذه الحادثة مجددًا لجني وقطف ثمرات جديدة قد تشكل عائقاً أمامه نحو نظامه الدكتاتوري المغلف بالنظام الرئاسي بنكهة تركية، على حد تعبيره هو.