دكار (الزمان التركية) – أصبح المسجد الكبير الذي أسسه الشيخ أحمدو بمبا معلما إسلاميا جاذبا لملايين المسلمين يتوافدون إليه في موسم ” ماغال طوبى” الذي تحول إلى عيد وطني.
وتغرق مدينة طوبى في طوفان بشري،في موسم ماغال، فملايين الأتباع يتطلعون للوصول إلى المسجد الكبير وسط المدينة، الذي أسسه الشيخ أحمدو بمبا وقال في شأنه: “لا شيء يهمّني في هذا العالم سوى تشييد هذا المسجد”، وهي العبارة التي بقيت عالقة في أذهان الملايين من أتباعه.
ويتواصل العمل في المسجد منذ عام 1932 تحت إشراف مباشر من أبناء الشيخ أحمدو بمبا وأحفاده، ليصبح اليوم معلما معماريا يفتخر بها جميع السنغاليين، فيما يعد واحداً من أكبر المساجد في القارة الأفريقية وأكثرها أبهة وجمالاً، حيث يمزج ما بين الطراز المعماري الإسلامي الأندلسي والمغربي، مع لمسة أفريقية لا تخطئها العين.
في الباحة الفسيحة للمسجد الكبير يجلس عشرات آلاف الأتباع، ممن فاتهم الدخول إلى المسجد رغم اتساعه، يستظلون مناراته السبع العملاقة وقبابه المتناثرة، ينتظرون فرصتهم للوصول إلى حيث يرقد مؤسس الطريقة المريدية الشيخ أحمدو بمبا، في ضريح مطرز بالآيات القرآنية والأدعية، مع أبيات شعرية بلغة عربية رصينة خلدها “خادم الرسول” في مدح محبوبه صلى الله عليه وسلم.
يتحدث سكان مدينة طوبى باعتزاز وفخر عن مسجدهم، يؤكدون أنهم شيدوه بناء على وصية من مؤسس المدينة، وتأكيداً للمكانة الكبيرة التي يجب أن تحتلها طوبى في قلوب المسلمين في غرب أفريقيا، ولكنهم يفخرون بأن جميع تكاليفه التي تعد بملايين الدولارات خرجت من جيوب أبناء وأحفاد الشيخ أحمدو بمبا، والمخلصين من أتباعه والمحبين له في أصقاع العالم.
والمسجد الكبير، الذي يعد واحداً من بين أجمل 25 مسجداً في العالم، يمتد على مساحة 8 آلاف و790 مترا مربعاً، تزيّن إطلالته 7 مآذن أو منارات، 4 منها تبلغ 66 مترا من الارتفاع، واثنتان يناهز ارتفاعهما الـ 60 مترا، في حين تبلغ الأخيرة 86.80 مترا من الارتفاع، بداخله معهد إسلامي تدرس فيه مختلف العلوم بما فيها القرءان الكريم والفقه والسيرة واللغة العربية
ويعد موسم “ماغال” بالنسبة لزوار مدينة طوبى فرصة لاستعادة تفاصيل حياة الشيخ أحمدو بمبا، الذي يعد واحداً من الشخصيات الدينية التي تركت بصمتها في السنغال وغرب أفريقيا، بل إن بعض الباحثين يعدونه من أكثر الشخصيات الأفريقية تأثيراً في القرن العشرين.
من هو الشيخ أحمدو بمبا؟
ظهر الشيخ أحمدو بمبا مبكي (1850-1927)، في فترة كان الاستعمار الفرنسي يوسع من نفوذه السياسي والاقتصادي والعسكري في غرب أفريقيا، وكان قادة الاستعمار يرون في الإسلام عقبة أمام مشروعهم، وخاصة ظهور الشيخ أحمدو بمبا الذي كان أتباعه في تزايد، وتحول مجلسه إلى قبلة لكل الراغبين من النهل من علمه وبركته.
وجه الفرنسيون للشيخ أحمدو بمبا تهمة السعي إلى خوض حرب ضدهم في السنغال، وهي التهمة التي تتنافى مع المنهج الذي أطلقه الشيخ أحمدو بمبا والذي يرفض أي نوع من أساليب العنف والقتل، إلا أن الفرنسيين كانوا يرون في الرجل مناهضاً لمشروعهم الاستعماري فقرروا نفيه إلى خارج السنغال، لتبدأ رحلة صعبة خارج وداخل السنغال، اعتبرها الشيخ أحمدو بمبا امتحاناً يستوجب الشكر لله، ومن هنا جاءت فكرة “ماغال طوبى”.
نفي الشيخ أحمدو عدة مرات، كما أخضع للإقامة الجبرية في السنغال أكثر من مرة، ولكنه نفي أول مرة عام 1895 إلى الجزر الكونغولية، والتي عاد منها عام 1902، إلا أنه لم يكد ستقر في السنغال من جديد حتى قرروا نفيه مجدداً عام 1903 ولكن هذه المرة إلى موريتانيا التي بقي فيها حتى عام 1907.
لم تكن علاقة الشيخ أحمدو بمبا بموريتانيا وليدة اللحظة التي وصل إليها منفياً من طرف الفرنسيين، وإنما كانت صلاته قوية بالعلماء والمشايخ الموريتانيين، وخاصة الشيخ باب ابن الشيخ سيديا وعدة شخصيات علمية أخرى، ولديه أشعار وقصص معروفة مع هؤلاء العلماء والمشايخ، تؤكد مدى الاحتفاء الذي لقيه “خادم الرسول” في موريتانيا.
قرر الفرنسين في عام 1907 السماح بعودة الشيخ أحمدو بمبا إلى السنغال، ولكنهم فرضوا عليه إقامة جبرية في قرية منعزلة، قبل أن ينقلوه إلى مدينة “جربل” تحت إقامة جبرية بقي فيها حتى وافاه الأجل المحتوم عام 1927، إلا أن كل ذلك لم يمنع ازدياد أتباعه وانتشار الطريقة لمريدية في السنغال وخارجها، لتصبح بذلك واحدة من أكثر الطرق الصوفية انتشاراً وقوة في غرب القارة الأفريقية.
تقوم الطريقة المريدية على أسس عديدة من أبرزها محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وخدمته، فمؤسس هذه الطريقة لقب نفسه بـ”خادم الرسول”، ولكن تدريس القرءان الكريم وترتيله يحتلان مكانة كبيرة في نفوس سكان مدينة طوبى، ولعل هذه المدينة استطاعت أن تخلق منهجاً فريداً في تدريس القرآن الكريم.
مدينة القرآن
في زاوية منفردة بمسجد طوبى يجلس 28 من حفظة القرآن الكريم، لا شغل لهم إلا ترتيل السور والآيات، حتى يكملون خمس ختمات كل يوم، إنها دار القرآن التي أسسها الشيخ أحمدو بمبا عام 1903 خلال منفاه القسري في موريتانيا، وتحديداً في منطقة الصراصرة في منطقة لعكَل بالجنوب الموريتاني.
تواصل هذه المجموعة من حفظة القرآن الكريم عملها بشكل يومي منذ تأسيسها وحتى اليوم، يتولى الخليفة العام للطريقة المريدية الصرف على المنخرطين في دار القرءان، حتى ينصرفوا لمهمتهم الوحيدة وهي قراءة القرآن الكريم في المسجد الكبير غير بعيد من ضريح الشيخ أحمدو بمبا.
ويعد من الأمور الفريدة التي تختص بها مدينة طوبى عن غيرها من المدن، كثرة مدارس تحفيظ القرآن الكريم، ومن أشهر هذه المدارس محظرة تدرس مختلف الفئات العمرية، وتنظم على شكل حلقات تحمل كل حلقة اسماً من أسماء الله الحسنى: “دار المنان”، “دار القدوس”، “دار السلام”، “دار الرحمن”.. إلخ.
ويُشترط على الطالب الذي أكمل حفظ القرءان الكريم أن يكتبه عن ظهر قلب، فلا يكفي الحفظ وحده، وفي المكتبة الكبيرة بطوبى توجد نسخ لمصاحف كتبها طلاب المحظرة بأيديهم، من بين هذه المصاحف واحد كتب في جلسة واحدة من طرف عدة طلاب تخرجوا في نفس اليوم، وحضر كتابة المصحف صحفيون من مختلف وسائل الإعلام السنغالية والدولية، خلال تغطيتهم لأحد مواسم “ماغال طوبى”.
مدينة طوبى
تعد مدينة طوبى هي ثاني أكبر مدينة في السنغال من ناحية تعداد السكان والقوى الاقتصادية، بعد العاصمة دكار، إذ يقدر عدد سكانها بأكثر من مليون نسمة، وهم في أغلبهم مزارعون وفلاحون.
إلا أن مدينة طوبى مختلفة بشكل كبير عن بقية المدن السنغالية والأفريقية، فقادة الطريقة المريدية الذين يتولون تسيير المدينة والسهر على مصالحها، يفرضون قوانين صارمة فيما يتعلق بالمحافظة على الطابع الإسلامي المميز لها، فالملاهي الليلية ومحلات بيع الخمر والمجون ممنوعة بشكل صارم في المدينة.
حتى أن الفنادق والمنتجعات تم منعها في المدينة، وشيد الخليفة العام للطريقة المريدية قصوراً فخمة وكبيرة لاستقبال ضيوف المدينة والتكفل بضيافتهم، من دون أن يحتاجوا لأي خدمات فندقية قد لا تتفق مع الطابع الإسلامي الطاغي على المدينة، فيما يفتح سكان المدينة بيوتهم للزوار الذين يقصدونها في المواسم الدينية، وخاصة ماغال طوبى الذي يتضاعف فيه سكان المدنية عدة مرات
ماغال طوبى
لقد تحول الاحتفال بموسم “ماغال طوبى” إلى مناسبة وطنية في السنغال، بل إن دولاً عديدة تحرص على المشاركة فيه بوفود معتبرة ووازنة، ويكون الحضور الرسمي فيه معتبراً، سواء من طرف السنغال أو دول مجاورة كموريتانيا ومالي.
ولعل الموريتانيين من أكثر شعوب المنطقة اهتماماً بتخليد ذكرى “ماغال طوبى”، وهو ما ظهر هذا العام في حضور السفير الموريتاني بدكار شيخنا ولد النني، إلى مدينة طوبى حيث قدم هدية من الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز إلى الخليفة العام للطريقة المريدية الشيخ سيدي المختار مباكي، متمثلة في شاحنات محملة بالإبل، كمساهمة في ضيافة الوفود التي تستقبلها طوبى، وقد استلم الهدية الموريتانية الناطق الرسمي باسم الخليفة العام للطريقة المريدية باسيرو عبد القادر، الذي شكر الرئيس الموريتاني، واعتبر الهدية دليلاً على متانة الصلة والعلاقة التي تربط الشعبين الموريتاني والسنغالي.
كما تحضور شخصيات دينية وعلمية وثقافية موريتانية وازنة إلى مدينة طوبى من أجل المشاركة في فعاليات تخليد موسم “ماغال طوبى”، وهو ما يعتبره الموريتانيون إحياء لذكرى رجل قضى عدة سنوات في موريتانيا وترك خلالها أثراً كبيراً وذكراً طيباً لدى علماء ومشايخ البلاد.
نقلا عن موقع صحراء ميديا