بقلم: حمزة صابر
في مسعى لتشويه انتقامي ليس له أية علاقة بالإنصاف دعا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هيئة الشؤون الدينية إلى إصدار تقارير وإعداد نشرات تبين ما يحتويه فكر الخدمة – على حد زعمه- من ضلالات.
وهذه سابقة خطيرة في تركيا تبتدع سنة سيئة لكل مسؤول مستقبلا يريد الطعن في معارضيه، أو يسعى للنيل منهم، عبر توظيف الشؤون الدينية أداة للعقوبات السياسية التي يريد إنزالها بمعارضيه. وقد تستخدم مستقبلا أيضا في الطعن على حزب العدالة والتمية الحاكم نفسه إذا ما آلت الأمور إلى غيره بطبيعة النظام الديمقراطي الذي يقضون عليه حاليا، أو ربما يظنون أنهم لن يزولوا عن الحكم أيضا كما كان يظن أسلافهم وأمثالهم من الطغاة في كل مكان.
على العموم هذه المواقف ليست بمستغربة على كل طاغية يوظف كل الأساليب في تثبيت أركان حكمه، والإجهاز على مخالفيه، أو من يظنهم مصدر الخطورة على حكمه وسلطانه. فإذا كانت شرعية المخالفين دينية وأخلاقية تبدأ حملات الطعن في دينه وأخلاقه، ومن ثم نرى اتهامات بالضلال والفسق والانحلال، وقد يصل الأمر إلى تدبير مكيدة له تصوره في وضع غير أخلاقي، ونماذج ذلك كثيرة في بلادنا. وإذا كانت شرعيته بين أتباعه وجمهور الناس وطنية فإن تهما من أمثال الخيانة والعمالة للخارج تكون هي الاتهامات المثلى في هذه الحالة. أما في الحالة التركية فقد بلغ الطغيان مداه، حيث ذهب النظام الحاكم في تركيا في تجريح الخدمة ورائدها الأستاذ محمد فتح الله كولن كل مذهب، جرحوهم عقائديا ومذهبيا وأخلاقيا ووطنيا، وسردوا في حقهم اتهامات دون أي سند أو دليل لا تليق بأدنى إنسان، فما بالك بمن نذروا أنفسهم وأوقفوا حياتهم في سبيل خدمة دينهم ووطنهم وأمتهم والإنسانية كافة؟!
لقد قامت الخدمة بجمع كل الشتائم والاتهامات التي وجهت إلى الخدمة في السنوات الثلاث الأخيرة من طرف أردوغان نفسه وغيره من الموالين فوجدوها تربو على الخمسمائة، تتناول الدين والعقيدة والشرف والعرض والأخلاق وكل ما يخطر ولا يخطر على البال. إلى جانب عدد كثير آخر من الإهانات والبذاءات التي لا تصدر حتى من الشياطين. فمن هذه الاتهامات أنهم كيان مواز وحشاشون وفيروس ودود العلق، وعملاء للصهيونية والإمبريالية الأمريكية. كما وجهوا لهم تهما إقليمية بهدف تحريض الدول التي يقيمون فيها عليهم، فهم في مصر ذوو ميول إخوانية، وفي السعودية صوفيون قبوريون، وفي روسيا إرهابيون وفي أوروبا انقلابيون، وفي أمريكا يعملون على اختراق أمريكا ثم احتلالها. لذلك تقوم الحكومة التركية بتحريض اللوبي اليهودي ضدهم، بل يستأجرون محامين يهود للعمل على رفع دعاوى ضدهم في المحاكم بذريعة أنهم خطر على الأمن القومي الأمريكي، وعلى التواجد اليهودي فيها حيث يحاولون تشكيل لوبي خدمي ضاغط ينافس اللوبي اليهودي في أمريكا ويزحزحه عن مكانته.
والعجيب أن كثيرا منها يناقض بعضها بعضا، فهم عملاء لليهود وأمريكا وخطر عليهما في الوقت نفسه، وهم ذوو ميول إخوانية ويؤيدون النظام الحاكم في مصر في الوقت نفسه، وهم صوفيون قبوريون ويحرضون المتصوفة في تركيا على معاداتهم في الوقت نفسه. جنون في جنون، والضريبة ستدفعها الشعوب الإسلامية التي لا تلبث ترى نورا في نهاية النفق حتى يسلطوا عليها من أبناء جلدتها من يهدم النفق كله على رؤوسهم، في الوقت الذي تتعالى فيه أصواتهم له بالهتاف وتكلّ أيديهم من كثرة التصفيق.
إن أول ملف قامت به هيئة الشئون الدينية استجابة منها لهذه الدعوة الطغيانية هو طعن الخدمة في موضوع الحوار بين الشعوب والثقافات والديانات، ويبدو أنها بفتح هذا الملف لا تحاول أن تتعب نفسها بالقراءة والاطلاع على أدبيات الداعية فتح الله كولن المدونة في هذا الشأن وتتفهم وجهة نظر الخدمة فيه، أو حتى تستعرض نماذج هذا الحوار وفعاليته التطبيقية على الأرض والنتائج المذهلة التي حققها. بل عمدت بتكاسلها البيروقراطي إلى استلال ملف اتهامي قديم أُعدَّ من طرف جماعات راديكالية تسعى إلى وضع حواجز وفواصل بين طبقات المجتمع من خلال تقسيمه إلى فرق ومذاهب متباينة، وعزل كل فريق في مكانه واستعداء بعضه على البعض الآخر. أخذت رئاسة الشؤون الدينية هذا الملف المُعلّب الجاهز وبدأت تعمل على ترويجه وترديد التهم عينها التي ترددها هذه الجماعات الراديكالية. وبدلا عن أن تعمل كمؤسسة دينية محترمة على تقريب وجهات النظر والبحث عن القواسم المشتركة بين مختلف الطوائف والاتجاهات، وتتحمل مسئوليتها المحلية والإقليمية في بلد بحجم تركيا يفصل بين الشرق والغرب ويسعى للانضمام للاتحاد الأوروبي، إذا بها تتبنى فكرة صِدام الحضارات، وتسير خلف توجهات الحكومة الراديكالية سيرا أعمى بدلا عن ترشيدها وردها إلى جادة الصواب.
في اعتقادي إذا استمرت الشئون الدينية في تماهيها مع النظام التركي في هذا الشأن فسوف تقضي على البقية الباقية من مصداقيتها في نظر الشعب التركي والشعوب الإسلامية، بل ربما تقضي على ما يسمى بالشؤون الدينية مستقبلا.