بقلم: د.عثمان محمد غريب
في الخامس عشر من تموز المنصرم دَوَّتْ أصداءُ المحاولةِ الانقلابيةِ الفاشلةِ على نظام الحكم في تركيا أرجاءَ العالَمِ بأسره، وانقسم الناس فيها شِيَعَاً وزُمَرَاً.
فمنهم الفَرِحُ الجَذلانُ الذي تَـمَنَّى نجاحَ الانقلاب وانتصارَ الانقلابيين والإطاحةَ بنظام الحكم هناك.
ومنهم التَرِحُ الكئيبُ الشَّاجي الذي خشِيَ أن يؤول تركيا إلى ما آلت إليه سوريا والعراقُ واليمن.
ومنهم المتفرج اللامبالي كما يتفرج على فيلم رعب أمريكي غير آبِهٍ بالنتيجة والـمَـآب.
وكلُّ مَن له مُسكةٌ من لُبٍّ يَعلم أنَّ الانقلاباتِ العسكريةَ لا سيما في هذا الزمن العصيبِ لا تُـجدي نَفعا ولا تُزيل قَمْعَا، وما حَّلَ الانقلابُ العسكريُ بلدا إلا ارتحلَ بِدخوله الأمنُ والأمان.
ومِنْ هنا ظَهَرَتْ نَبـَراتُ أصواتِ أولي الألباب والنُهى شديدةً صلبةً متينةً في إدانة تلكم المحاولة التي أربكت العالم.
ولا أخفيكم أنني لما سَمِعتُ بذلك هَرعت مباشرة إلى التلفاز وأنا مُبَلْبَلُ الفكرِ وَلْهَانَ، مُشَتَّتُ البالِ لَهْفَانَ، أدعو اللهَ أنْ يحفظ تركيا وأهلَها وأمنَها من كيدِ الكائدين وشرِ الأشرار، ولا يَكتُبَ للانقلابيين الانتصارَ.
وظَهَرَ سادةُ الحكم في تركيا وأعلنوا عَدَمَ معرفَتِهم بـهذا الانقلابِ، بيدَ أن ما يثير رُيُوبًا وشُكوكا وتساؤلاتٍ حولَ الانقلابِ هو أنَّ هؤلاء السادةَ مع عَدَمِ عِلمهم بالانقلاب –كما يقولون- إلَّا أنَّـهم منذُ اللحظاتِ الأُولى للانقلاب مِن غَيرِ انتظارٍ للمحاكم أن تقوم بدورها وجَّهُوا أصابعَ الاتهامِ إلى ما يُسَمُّونَهُ بالكيان الموازي، ويَقصِدون به جماعةَ الخدمة التي أسَّسَها الداعيةُ الإسلامي والمفكرُ ذائعُ الصَّيتِ فتحُ الله غولن الذي أعلنَ بشكلٍ واضحٍ أنه لم يكُ له علمٌ به وبما جرى إلا بعد الإعلان عنه رسمياً، وأعلن رفضه للانقلاب وأنه لم يرضَ به، وأنه سوفَ يُحاسِبُ كلَّ مَن تّوَرَّطَ في الانقلابِ أمامَ اللهِ تعالى في محكمةِ العدل الإلهية لأن الضررَ الأكبرَ للانقلاب يَقَعُ عليه وعلى جماعتِه ومنهجِه في تبليغ الدين الإسلامي الحنيف، لأنه لا يؤمنُ باستخدام العنف، والانقلابات العسكرية لا تقوم إلى على كاهلِ العنف، ولا تَلِدُ إلا عُنفاً.
وأعْلَنَ صراحةً أنه سَينصاع لأي حكم تُصدره لجنةُ تحقيقٍ دوليةٍ في ذلك، مؤكدًا أنه سيخطو نحو حَبْل المشنقة طوعًا إن استطاعوا أن يُثبتوا ضلوعَه في الانقلاب الفاشل.
ولكن الذي يملأ الفؤاد أسىً ويُـمَزِّقُه إربَا ويقطع نِياطَه أن بعضَ الدعاة والعلماء –لا سيما من الذين ينتمون إلى التيار الإسلام السياسي- مِن غير أن تكون لهم أثارةٌ مِن عِلمٍ في ذلك شَرَعُوا يَسمعُونَ لِطَرَفٍ دونَ طَرَفٍ، ويُصَدِّقون كلَّ ما يَتَفَوهُ به دونما استماعٍ للطَّرَفِ الآخر، ويُرَدِّدُّون كالبَبَغاء كلَّ ما نَطَقَ به السلطةُ الحاكمةُ في تركيا، وشَرَعُوا – من غير بينةٍ ولا حجةٍ- يَصِمُونَ الأستاذَ غولن وجماعتَه بالإرهابِ والخيانةِ والعمالة لليهود والتجسس لصالح إسرائيل.!!!
مع أن هذا النهج المعوج في التعامل مع الفتن مخالفٌ لقوانين الأرض وقوانين السماء التي تَحظُرُ على الإنسان تصديقَ أحد الخَصمين وتكذيبَ الآخر إلا بعد أن يُصْغيَ لكلا طَرَفَي النزاع دونما محاباةٍ أو مجاملةٍ أو انحياز.
وبـهذا يُظهرون ولاءَهم للجماعة السياسية الحاكمة في تركيا والتي تربطهم ببعضٍ علاقاتٌ فكريةٌ ومنهجية بَدَلَ أن يكونَ ولاؤُهم للحقِّ ولو كان مع العدو الكافر، بل حتى لو كان الحق مع الشيطان، لا سيما وقد أنصفهُ الرَّسولُ الأعظمُ –صلى الله عليه وسلَّم- حينما قال لأبي هريرة –رضي الله عنه: صَدَقَكَ –أي الشيطان- وهو كَذُوبٌ.!!
وكأنـهم لم يسمعوا بقوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) ﴾ سورة الحجرات.
وكأنَّـهم غافلون عن النصائح الذهبية التي نصح بـها سيدُنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليَّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- لما بعثه إلى اليمن قاضيا: ” إذا جَلَسَ بَيْنَ يَديكَ الخَصمانِ، فلا تَقضِيَنَّ حتى تَسْمَعَ مِن الآخَر ، كما سَمِعتَ من الأوَّلِ ، فإنه أحرى أنْ يَتَبَيَّنَ لك القضاءُ”
فيا ليت شِعري أين التقوى وأين قوانين العدالة؟ وأين تحكيم النصِّ القاطع على أهوائنا ونزواتنا ومصالحنا؟!.
قال تعالى ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا(135) ﴾
أما بالنسبة للسلطة الحاكمة فإنني -يَشهدُ الله- لستُ لهم نداً ولا عدواً، بل مشفقٌ أمينٌ لا أرجو لهم إلا الخيرَ والسَّدادَ والرَّشادَ، بيدَ أنَّـهم في التعامل مع هاته القضيةِ الخطيرةِ وقعوا في جملة أخطاء، منها:
أولا: الاستعجال في توجيه الاتهام واتخاذ القرار، مع أن السياسي الرشيد الحكيم لا يستعجل في اتخاذ قراراته، لأن الاستعجال مَزْلَقَةٌ مَهْلَكَةٌ، وهو قرين النَّدَمِ في الغالب الأغلب.
ثانيا: مخالفة القاعدة القرآنية القائلة (ولا تزر وازرة وزر أخرى) فلذا لا يجوز أن يؤاخَذَ الإنسانُ بجريره غيره، ولو كان له أباً أو ابناً أو أخاً أو زوجاً أوشريكا أو صديقاً، أما هذه الأوامرِ بالاعتقالِ العَشوائي والفَصلِ الوَظيفي الجَماعِي لكلِّ مَن انتمى إلى جماعةِ الخِدمة، أو والاهم، أو أعانـهم، أو أثنى عليهم بِبِنْتِ شَفَةٍ، أو مَتَّ إليهم بصلة فليس بينها وبين السياسة الرشيدة أيةُ وشيجة، ولا تُنبيءُ إلا بالنهاية القريبة لأصحابـها وذويها.
وهذا ما رأيناه وقرأناه، ولو استطاع هؤلاء أن يَصلوا إلى قلوبِ النَّاس لفتَّشُوها ونَقَّبُوها حتى يَعلَمُوا ما بداخلها من مـحبة أو بغض لجماعة الخدمة.
ولا أدري ما ذنبُ الشيخِ الطاعنِ في السنِّ يُعْتَقَلُ بسبب انتماءِ ابنه لجماعةِ الخِدمة.!!
وما جَريرةُ أمٍ عَجوزٍ تُحاسَبُ على أمرٍ لا ندري هل فعله ابنُها أو لم يفعله.!
ثالثا: انتصارُ الرُّوحِ الانتقاميةِ التي هي دَيدَنُ الطغاةِ والجَبابِرة على حساب الرُّوحِ التسامحيةِ الرأفويةِ الرحمويةِ التي هي طبعُ الأنبياء والرُّسُلِ والصالحينَ والحكماءِ المقسِطين، ولست أدعو هنا إلى إطلاق سراح الكل والعفو عنهم، لأنَّ هذا مبنيٌ على الموازنة بين المفاسد والمصالح المترتبة على ذلك، وهو متروكٌ لأصحابِ الشُّورى والقرارِ في تركيا، إلا أنني أقول بأن الروح الانتقامية التي تطال كلَّ مَن وجهت إليه تـهمة المشاركة في الانقلاب وذويهم وأقاربـهم بعيدة عن الرشد السياسي بُعدَ الثَّـرى عن الثُّـرَيِّا.
رابعا: إيثار منطق القوة على قوة المنطق، فمما لا مرية فيه ولا ريبَ أن القوة لا تُواجَهُ بالفِكر، وكذلك المنطق والفكر لا يواجَهان بالقوة، وإنما تواجَهُ القوةُ بالقوة، والفكرُ بالفكر، والعملُ بالعملِ، ومَنْ رامَ إخمادَ نورِ الفكرِ بالقوة فقد أبعد النُّجْعَةَ، وسار وراءَ السَّراب يَخالُهُ ماءً زلالاً حتى إذا جاءَه لَم يجده شيئا ووجدَ الله عنده فوفَّاهُ حِسابَه، ويا لَهُ مِن حِساب.!
أما سياسة الاجتثاث التي انتهجها الحزب الحاكم فلا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تصمد أمام إصرار المنتمين للخدمة وثباتهم وتفانيهم.
أقول ذلك لأن جماعةَ الخدمةِ جماعةٌ فكريةٌ تربويةٌ عمليةٌ تَبَنَّتْ أفكارَ الأستاذ غولن منهجا، والتي بدورها لا تكادُ تَخرُجُ مِن مَنهج الأستاذ بديع الزمان النورسي –رحمه الله-، وقد رفع رايتَها رجالٌ ونساءٌ آثروا ذلك المنهج على مصالحهم وبذلوا في سبيل إعلائه الغالي والنفيس، وقد أبـهروا كلَّ مَن التقى بـهم ورأى بصماتِـهم على الحياة.
فإذا أراد أحد المناوئين للجماعة أن يقضي عليهم فلابد من اللجوء إلى معالجة الفكر بالفكر ومواجهة الكلمة بالكلمة، وليعلم بأنه ليس له إلى القضاء عليهم سبيلٌ باستخدام القوة بَدلَ الفكر، وفُوهةِ البندقيةِ بَدَلَ سِحر الكلمات، بل سوف يزدادون يوما بعد يوم، واستخدام القوة ضدهم ما يزديهم إلا ثباتا وحماسا.
لأن العالم يشهد لهم بأنهم قد تركوا بصماتِـهم على وجه المعمورة، وبَنَوا مدارسَ في أكثرَ من (170) دولة من دولِ العالَم من قَرِّ «سيبريا» إلى حَرِّ إفريقيا -كما قيل-، لنشر المبادئ السَّامية للإسلام والسَّلام.
فإنْ أردتُم منافَسَتَهُم فالميدانُ واسعٌ يَسَعُ الكُلَّ، فأرُونا جهودَكم، أروُنا مدارسَكُم وجامعاتِكم في العالَم كما أروناها هُم، أروُنا مشافيكم وجهودَكم الإغاثيةَ في أفريقيا المنكوبةِ كما فَعَلُوها، مَن الذي أمسَكَ بأيديكم وكَبَّلَها بالحديد حتى تَتَعَطَّل، مَن الذي جَعل على أعينكم الغشاوةَ حتى لا تُبصِروا طُرُقَ العَمَلِ والاتقان، مَن الذي عَقَلَ عقولَكم وحَجَرَ حُجُرَكم حتى تَتَبَلَّد.
اغترِبُوا كما اغتَرَبُوا في الفيافي والقفار، ابعثوا فلذاتِ أكبادكم إلى العالَم كما فَعَلوا ليلَ نـَهار.
عودا على بدء:
يا علماءنا ومفكرينا: بعد هذه الكلمات الأليمة التي نثرتها على بساط المباحثة معكم أقول لكم:
إنكم اتهمتم الأستاذ فتح الله غولن وبدأتُم تُعاتِبُونه وتَقْسُونَ عليه ولم تَرَوا منه ما يُوميء إلى ذلك لا مِن قريب ولا مِن بعيد، ولكنَّكم رأيتُم بأم أعينكم كيفَ قامتُ الحكومةُ بعملية مروِّعةٍ للتصفية والاجتثاث والاعتقال والفصل من الوظائف منذُ فجر أولِ يومٍ للانقلاب بسرعةٍ مذهلةٍ جالبةٍ للنظر، ولم تَسألوا السيدَ أردوغان عن كيفية إعداد قوائم التصفيات والاعتقالات بهذه السرعة الفائقة؟
وَلَم تَسألوه عَن علاقةِ المعلِّمِين المساكين الذين لم يُقَدِّموا لتركيا سوى العلم والقلم، وقد اقترب عدد المطرودين من وظائفهم من خمسين ألف معلم.
ولم تَجْرَؤوا أن تسألوه عن جَريرةِ ستةِ آلاف موظَّفٍ يعملون في السلك الصحي من طبيب ومضمد وإداري.
وَلَم تَسألوه عن صلةِ أكثرَ مِن ألف وخمسمائة وسبعة وسبعين عميدَ كلية، وأربعةٍ وتسعين حَكَماً لكرة القدم بالانقلاب الفاشل، وقُلْ مِثلَ ذلك عن مصير ثلاثة آلاف قاضٍ ومُدَّعٍ عام، وإغلاقِ خمس عشرة جامعة، وأكثر من ألف مدرسة، وأكثر من ألف جمعية خيرية، وخمس وثلاثين مؤسسة طبية ومشافي ومصحات؟
وما علاقة وزارة الأسرة بالانقلاب حتى تنال عقوبة التصفية ستمائة موظف وموظفة فيها؟.
فلماذا الكيل بمكيالين؟ ولماذا باءُ السلطةِ تَجُرُّ عندكم، وباء الخدمة لا تَجُرُّ، مع أن باءَ الجرِّ هي هي لا تتغير هنا أو هناك.؟!
ولماذا لم تبينوا للسيد أردوغان حُكمَ مصادرةِ جميعِ ممتلكات المنتمين للخدمة في كل أنحاء تركيا، وإغلاق مؤسساتهم جميعًا، وملاحقتهم في كل أنحاء العالم حتى لا يبقي منهم على وجه الأرض دَيَّاراً؟.
أليس ذلك غصبا لأموال الآخرين؟ والرسول الأعظم –صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم- قال : ” من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه ، فقد أوجب الله له النار ، وحرم عليه الجنة ” فقال له رجل : وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله ؟ قال : ” وإن قضيبا من أراك”.
لماذا لم تذكروا له أنَّ سيدنا عليا –رضي الله عنه- لـمَّا كفَّرهُ الخوارجُ وأحدثوا شَرخاً في صفوف المسلمين، وقاتلوه فقاتلهم وانتصر عليهم، لَم يَغنمْ مِن أموالهم ديناراً ولا درهماً.
وأين دوركم الإصلاحي مذ ظهور الخلاف بين الحزب الحاكم وجماعة الخدمة إثر ظهور ملفات الفساد عام 2013.؟ أنسيتم قوله تعالى (إنَّما المؤمنونَ إخوةٌ فأصلحوا بين أَخَوَيْكُم واتقوا اللهَ لعلَّكم تُرْحَمُونَ) الحجرات: 10.
سامحوني يا مشايخنا ومفكرينا إن قلتُ لكم:ما هكذا تورد –يا سعد- الإبل.!
لذا أدعو الجميع –لا سيما العلماء والمفكرين والدعاة- إلى التريث والأناة في الحكم على أحد الطرفين إلا بعد الاستماع إليهما مَعا، وإيثار الولاء للحق على الولاء لأية وشيجة أو مصلحة.
https://youtu.be/l-FOg0jgwMs