بقلم: مصطفى عبدالله ونيسي/ باريس
في هذه الدراسة أحاول تسليط الضوء على علم من أعلام الإصلاح في وطننا الإسلامي الكبير،. وهو علم استطاع بما أوتي من حكمة وغزارة علم وإيمان أن يؤسس لمدرسة فكرية متميزة في التربية والإصلاح. فهو مفكر وعالم مبدع كانت له إسهامات في الفكر الإسلامي الأصيل و المعاصر، والتي بدأ المختصون في الفكر والبحوث الإسلامية في الشرق والغرب يعترفون بتميزها ونفاستها في مجال الإصلاح عموما، سواء منه الفكري أو السياسي والاجتماعي على حدِّ السواء. ومع ذلك بقي هذا الرجل شخصية غير معروفة بالقدر الذي تستحقه خاصة في وطننا العربي بصفة عامة والمغرب العربي بصفة خاصة.
وقياما مني و لو بجزء بسيط بواجب التعريف بهذا النوع الفذ ّ من المصلحين الذين رَهَنـُوا حياتهم ثمنا رخيصا لخدمة هذه الأمة ونهضتها وعزتها، يسعدني أن أقدم للقرّاء فذا من أفذاذ الإصلاح والتغيير السلمي في وطننا العربي والإسلامي، إنـّه سعيد النورسي رحمه الله تعالى، المعروف ببديع الزمان النورسي. فمن هو سعيد النورسي(1876/1960)؟
هو ابن” ِلقـَرَوِيَيْنِ كـُرْدِيَيْنِ” متواضعين في شرقي الأناضول، عـُرِفَ والدَاه ُ بالاستقامة على الدين وتقوى الله، وكان والده يشتغل بالفلاحة. تعلـّم سعيد في سلسلة من المدارس الشرعية في عصر اتسم فيه التعليم الشَّرْعِي بالانـْغِلاق وعدم مواكبة تطورات الحياة المعاصرة ومنجزاتها، فولـَّد هذا الشُّعُورُ عند النورسي رغبة جامحة في تكميل هذا النقص الذي كان يراه فادحا في شخصيته العلمية بالاطلاع على علوم الحضارة المعاصرة؛ فعلـَّم نفسه العلوم الطـَّبـِيعية والفلسفية، وأصبح مدرسا ومصلحا تربويا كبيرا. كما أنـّه انخرط في الخدمة العسكرية للدفاع عن استقلال وسيادة الإمبراطورية العثمانية، فشارك في الحرب العالمية الأولى، وأبلى البلاء الحسن في قتاله البطولي ضد الرُّوس في القوقاز، ولم يُـثـْنِهِ ذلك وهو في القتال عن كتابة جُزْءٍ من تفسير للقرآن الكريم. ثمَّ وقع في الأسر. وأرْسِلَ إلى السِّجن لمدة سنتين كأسير حرب في روسيا التي فـَرَّ منها بعد ذلك.
وبعد الحرب أسهم بكل حماس في دفع الحركات الاجتماعية والسياسية التي تولت مقاومة آثار الاحتلال البريطاني لاستانبول، وعند الإعلان عن تأسيس الجمهورية استدعاه مصطفى كمال أتاتورك الحاكم الجديد للبلاد، في محاولة منه لاستمالته واحتواء نشاطه السياسي والاجتماعي، وعرض عليه منصبا في حكومة الجمهورية التركية الجديدة، ولكن هذا الأخير لم يقبل بهذا المنصب حفاظا على استقلالية قراره ونظافة منهجه ومصداقية دعوته الإصلاحية؛ فكانت النتيجة بطبيعة الحال اتهامه ظُلما بالتآمر على أمن الدولة و استقرارها في حركة تمرد اندلعت في شرقي الأناضول ضد النظام الجمهوري الجديد للبلد؛ فأجْبـِرَ الرَّجُلُ على الرَّحيل إلى المنفى في غرب الأناضول لسنوات تلت بلغت الخمس والعشرين.
وفي تلك الفترة انسحب الرّجل من الحياة العامة ليكرس حياته وموهبته لتفسير القرآن وكتابة مؤلفه النفيس “رسائل النور .” وهكذا نرى أن َّ سعيدا النورسي مرَّ في حياته العلميّة والفكرية بمرحلتين رئيسيتين هما: “سعيد القديم ” و” سعيد الجديد”. وقد تزامنت هاتان الفترتان إلى حد بعيد مع المراحل الرئيسية التي عرفها التاريخ الحديث لتركيا، وهي العقود الأخيرة للإمبراطورية العثمانية، تليها الأعوام السبع و العشرون الأولى من عهد الجمهورية التركية التي أُعْلِن عن تأسيسها يوم ألغيت الخلافة في 3مارس1924 م. هذا بالإضافة إلى فترة ثالثة: وهي فترة ما يعرف بسعيد الثالث ــ و التي تـُعتبر في جوهرها امتدادا لفترة ” سعيد الجديد” مع اشتمالها على بعض خصائص ” سعيد القديم “، وقد تزامنت تلك الفترة مع فترة حكم الحزب الديمقراطي(1950 ــ1960). وقد مثلت السنوات العشر الأخيرة من حياة النورسي (2).
هذه المراحل أبانت عن تفتح عقليته وقدرته على التفاعل الإيجابي مع محيطه من ناحية، وتطور فكره ومرونة منهجه الإصلاحي وحداثته من ناحية ثانية. وهي مراحل ينبغي على كل دارس مهتم بدراسة هذه الشخصية أن يتمعن فيها ويدرسها بعمق حتى يستفيد منها ويستنير بما توفر فيها من هـُدى وحكمة.
لا شك أن حياة الرّجل كانت مليئة بالنشاط العلمي والتربوي ولكن ما يهمنا منها في هذا المقال هو رؤية الرجل للإصلاح عموما و موقفه من التغيير والرقي بوعي الإنسان نحو الكمال والفاعلية من ناحية ثانية.
فما رؤية الرجل للإصلاح؟ وما المنهج والمسالك الاصلاحية التي أفرزها فكر الرّجل وبلورها؟
النوّرسي ومسألة الإصلاح :سعيد النورسي هو واحد من أولئك العلماء والمفكرين الذين ساءهم حال أمة الإسلام، وقد تساءل عن أسباب تأخر المسلمين و تقدم غيرهم، ولكنه مع ذلك لم يستسلم لهذا الواقع قط، فحاول أن يفهم وينقب و يكشف عن أهم أسباب تأخر هذه الأمة. ولم يكتف النورسي بدور الكشف عن علل الإمبراطورية العثمانية كممثل رسمي وأساسي لوحدة الأمة سياسيا التي أصبحت القوى الاستعمارية تـُطلق عليها اسم الرجل المريض، وإنّما فعل ذلك بغرض البحث عن المعالجات الحقيقية لهذه العلل التي أصابت العالم الإسلامي بأسره في الصميم للنهوض به و بأمته مرة أخرى. و بناء على ذلك سخّـر حياته لهذه المهمة، فحاول أن ينير السبل إلى كيفية النهوض بهذا العالم من جديد. وإذا أردنا أن نفهم المشروع الإصلاحي للنورسي فينبغي علينا العودة والاستفادة من دراسة رسائله المعروفة برسائل النور عامة، فهي مصدر هذا الإصلاح ومحضنه الأول. كما أنَّ تتبع مسار التطور الفكري للنورسي في مختلف مراحل حياته الثلاث وقراءة عوامل وأسباب هذا التطور تفيدنا في بيان حقيقة مشروعه الإصلاحي كما أشرنا إلى ذلك سابقا.
وقبل الوقوف على أهم المفاصل التاريخية لحياة الرجل في مجال الفكر والتربية و الإصلاح بصفة عامة لابد من التعريف ولو بإيجاز برسائل النّور باعتبارها الوثيقة الأولى والنص الأساسي والنظري لمشروع بديع الزمان النورسي
رسائل النور: النص المؤسس للمدرسة الإصلاحية للنورسي، وقديما قالوا: “الشعر ديوان العرب”،. وكذلك رسائل النور هي ديوان المشروع الإصلاحي للمصلح الكبير و المربي الفذ بديع الزمان الملا سعيد النورسي.
ورسائل النور كما يصفها صاحبها هي: “غذاء روحاني جريء،(3) ومُعجزة قرآنية، (4) ووسيلة تحافط على القرآن وتفسره، (5) وحقيقة صوفية، (6) وتنبيهات وإخطارات، (7) وهي ضياء معنوي، (8) و مسلكها مقتبس من نور مسلك الصحابة الكرام”(9).
يحاول النورسي من خلال ربطه لرسائل النور بالقرآن أن يقيم علاقة بين القرآن كنص مقدس ونصه الرسائل كنص بشري، فأقواله و كتاباته لا تشكل أي نوع من العقائد الدينية المستقلة بذاتها بل إن صلاحية هذه الأقوال والكتابات إنما هي مـُستمدة من القرآن وحده الذي هو بالنسبة إليه: “خطاب ودواء لجميع طبقات البشر من أذكى الأذكياء إلى أغبى الأغبياء، ومن أتقى الأتقياء إلى أشقى الأشقياء” (10)
فالرسائل كما يراها صاحبها هي مجرد عمل يلخص كل الأفكار والمشاعر بأولياء الإسلام منذ البداية وحتى النهاية. وهو بهذا الربط بين نصه ونصوص غيره من علماء الإسلام الكبار يقيم نوعا من التواصل والعلاقة الخفية والتاريخية بينه وبين الآباء الروحيين الكبار للإسلام، أو حتى لبقية الحكماء والآباء الروحيين للبشرية من غير المسلمين.(11) وهي كما يقول: “إنـّما ترشحت من زُلال القرآن”(12) و”خرجت من القرآن”(13).
فالتاريخ الإسلامي لم يخل حاله من مصلحين مجدّدين، يبعث الله على رأس كل مائة عام لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها. ورسائل النور هي بدورها تندرج ضمن هذا السياق، فهي امتداد للفكر الإصلاحي التنويري الديني منذ العهد الأول للإسلام إلى الوقت الحاضر وإلى أن تقوم السّاعة.
فرسائل النور هي النص الأول والأساسي المؤسس للفكر الإصلاحي للمصلح الإسلامي الكبير سعيد النورسي رحمه الله. والانطلاق منها للتعرف على الآراء والأفكار الإصلاحية للنورسي ضرورة منهجية وموضوعية تفرض نفسها.
هذه لمحة جدّ ُ عامة عن سعيد النورسي ورسائله النورانية نمهد بها لدراسة التغيير السلمي عند العلامة الكبير بديع الزمان الملا سعيد النورسي رحمه الله و أسكنه فراديس الجنان
هوامش
1.خلاصة موجزة عن سيرة سعيد النورسي قد نعود إلى تفصيلاتها في دراسة تالية
2.نحو سيرة فكرية لسعيد النورسي: شكران واحدة ص 28من كتاب الإسلام على مفترق الطرق
3.المثنوي العربي النوري: سعيد النورسي،ص70
- الملاحق (انظر ملحق بارلا): النورسي،ص83
5.ملحق قسطموني، النورسي ص100
- 6. نفس المصدر ص123
- نفس المصدر ص 202
8/9 نفس المصدر ص 202/205 ـ 223
- 10. المثنوي العربي ص 100
11.كيف نقرأ ” رسائل النور” لسعيد النورسي، ابراهيم محمد أبو ربيع ص 97 من كتاب الإسلام على مفترق الطرق 12ـ ختم التصديق الغيبي/ النورسي 93
- 13. المكتوبات/ النورسي ص 479