من هو قارون ؟!
-إنه أحد أغنياء قوم سيدنا موسى (بنو إسرائيل) كان لديه الكثير من الثروات حتى إن مفاتيح هذه الثروات كان ثقيلة فلم يعد يستطيع حمل مفاتيحها مجموعة من الرجال الأقوياء.وقد كان وزيراً لشؤون العبرانيين لدى فرعون.
فتح اللهُ عليه أبوابَ النعيم، وسبل الرزق، وطرق الكسب، فعظمت أمواله، وكثرت كنوزه، وفاضت خزائنه، وأوتي بسطة في الرزق، ورخاء في العيش، وكثرة في المال؛ فعاش في ترف وبذخ، وكبرٍ وبطرٍ، وفخر وخيلاء.
طغى وتجبّر، فسق وتمرّد، تطاول وتمادى، زاد نهمه، وكثر خدمه، وعظم حشمه، حتى ظن أن لن يقدر عليه أحد، عميت بصيرته، وعظم زهوه، وزاد غروره. وما أكثر هؤلاء في كل العصور ، ولاسيما في عصرنا هذا.
فقارون يمثل اليوم مؤسسات وشركات الاحتكار ومنظمات التجارة والاقتصاد التي تبتز أموال الفقراء والضعفاء من عباد الله بحجج واهية، أو مساعدتهم بشروط قاسية. والسيطرة على خيرات الملايين من الناس ومنعهم من العيش بأمان وطمأنينة، وما نلاحظه في بعض الدول من جوع وفقر ومرض، وما سببه إلا الحكومات الفاسدة والشركات الاحتكارية. وبصورة مباشرة أو غير مباشرة فالثروة الطائلة تؤدي إلى السياسة، والمشاركة في صناعة القرار السياسي والاقتصادي للبلد، ولغرض تمرير بعض القرارات، أو لإخفاء ما يجري خلف الكواليس يقومون بإلهاء الجماهير بمهرجانات واحتفالات وبأمور لا يعنيهم شيئاً، وقد تخفى على الكثير من الناس هذا الأمر.
والترف عامل من أقوى العوامل وأشدها تأثيراً في سقوط الأفراد والأمم والجماعات والدول، إلى هاوية الهلاك، وخاصة إن كان هذا الترف يبدأ من رأس السلطة السياسية والاقتصادية، فإن ساعة الهلاك تكون وشيكة.
لقد هلك الله تعالى مال قارون معه لكي لا يفتن الذين من بعده ويتنافسوا على الدنيا، فيصبح في المجتمع قارونات عدة فينسوا الآخرة، ويكون دعوتهم أشد لتعلقهم بالدنيا.
ونهاية قارون درس لكل دولة أو فرد أو حكم أو حزب أو مؤسسة، دكتاتوري، طاغي، متجبر ، على رقاب العباد إلى يوم القيامة.
ويمكن أن يتكرر صور العذاب والهلاك في الوقت الحاضر ، بصور شتى، إن هلك قارون موسى فإن هناك قارونات كثر على مر التاريخ. وما أكثر اليوم من يقول : { إنما أوتيته على علم عندي}.
إن اللّه قد عاقب قارون على بطره وجحوده وبغيه وفساده ، وأدرك الذين كانوا يتمنون أن يكون لهم ما كان له أن بسطة الرزق ليست خيراً دائماً وأن فيها محكّاً لأخلاق الناس وامتحاناً لنوازعهم وكثيراً ما تكون عليهم نقمة وشرّاً وأن الكافرين لا يفلحون قط.
ولم يستمع قارون لنداء قومه، ولم يشعر بنعمة ربه، ولم يخضع لمنهجه القويم. وأعرض عن هذا كله في استكبار لئيم وفي بطر ذميم. كما نرى في قارونات هذا العصر. فقد حاول جماعة منَّ الله عليهم أن يثيروا فيهم روح الخير، وينبهوهم من غفلتهم، فنصحوهم أن لا يغويهم المال، ولا يغرهم الثراء، فيحول بينهم وبين الإحسان إلى قومهم، والمراقبة لربهم، والأخذ من الدنيا بنصيب، ومن الآخرة بنصيب فإن لله حقاً، وللناس حقاً، وللنفس حقاً، فيجب أن يعطى كل ذي حق حقه. وبينوا لهم أن الله تعالى يمقت الفساد والمفسدين، وأن هذا المال ظلّ زائل ووديعة مستردة، فلا يفرحوا ولا يغتروا، بل يجب أن يتخذوه وسيلة لقضاء مآربهم في الدنيا، وطريقاً لسعادتهم في الآخرة، إلا أن تمادوا في طغيانهم، وزادوا في بغيهم، مع غرور واستئثار، وبطر واستكبار.
فماذا كانت ثمرة الموعظة ونتيجة النصيحة؟
تضييق فرص الظهور والعمل أمامهم عموماً في المجالات العملية والعلمية، وإدخالهم في سلسلة متصلة متداخلة من المتاعب تبدأ بالاستيلاء أو وضع الحراسة على أموالهم وممتلكاتهم ويتبع ذلك اعتقالهم، وثم اهتزاز المثل والأفكار في عقولهم في الاعتقال، وانتشار الاضطرابات العصبية والنفسية والعاهات والأمراض فيهم. واضطرار العوائل لغياب العائل وحاجاتهم المادية إلى توقف الأبناء عن الدراسة وتوجيههم للحرف والمهن وبذلك يخلو جيل الموجهين المتعلم.
يقول صاحب الظلال: “إن قارون نموذج متكرر في البشر فكم من الناس يظن أن علمه وكده هما وحده سبب غناه ،ومن ثم فهو غير مسؤول عما ينفق وما يمسك ،غير محاسب على ما يفسد بالمال وما يصلح غير حاسب لله حساباً “.
وحمل رجال الخدمة في هذا العصر على عاتقهم باتخاذ المال وسيلة وليس غاية حتى قال عنهم رائدهم : “لم يكن من المتوقَّع لنا إطلاقا -على أيَّ مقياس من مقاييس العالم الحديث- أن نقابل رجالاً يملكون هذا القدر من المال والطاقة للعمل الخيريِّ التطوعيِّ، يتَّصفون بمثل ما رأيناه من ورَع وتواضع وتفانٍ منقطع النظير، يبتهلون إلى الله ليلاً نهاراً أن يوسِّع في أرزاقهم حتى يستطيعوا رعاية الآخرين، دون أي استعلاء أو شعور بالفخر” .
فالدنيا دار ابتلاء ودار عبور إلى الدار الآخرة، والناس يردون الدنيا وعنها يصدرون، فمنهم من يصدر عنها بتجارة رابحة مع الله عز وجل، وهم المتقون الذين لم يغتروا بزخرفها وزينتها، وعلموا أنها ليست دار قرار وإنما هي متاع قليل، وأن الآخرة خير وأبقى، ومنهم من يصدر عنها بتجارة خاسرة، وهم الذين رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وجعلوها نصب أعينهم، فمن أجلها يعملون ويكدحون، فأعمى حب الدنيا بصائرهم، وجاءهم الموت فنقلهم إلى الدار الآخرة بلا زاد ولا عدة، ولم تنفعهم أموالهم التي جمعوا في الدنيا، بل كانت عليهم وبالاً.
وقصة قارون جسدت فتنة الجهلاء وطغيانهم بالمال، والعلم والجاه. إنها قصة الصراع الدنيوي الدائم بين الحق والباطل، والبغي والاعتدال، والغلو والوسطية، والعلم النافع والعلم الضار. وعشاق الفانية والعاملين للباقية.
تلك القصة المتكررة في تاريخ البشرية دائماً، والتي ازدادت استعاراً في عصرنا المادي، حيث طغت التربية المادية الحيوانية الجسدية، على التربية السوية المتزنة الإيمانية. فزهى العلم المادي الخالي من القيم الدينية، وطغى العلم المادي بعلمهم وبغوا، وازدادوا في طغيانهم وفاض بعد أن جمعوا بين بلايا قارون ، وتأله فرعون والنمرود وغيرهم.
ويجسد القارونيون على ما آتاهم الله من بنايات شاهقة، وسيارات فارهة، وأموال طائلة، وخدم وحشم، وزينة ، فتراهم يسارعون في جمع الأموال بالطرائق غير المشروعة، وباستغلال عباد الله، ويمنعون عباد الله حقوقهم المشروعة، ويفتنونهم بأموالهم وزينتهم وتكبرهم ومظاهرهم الكاذبة، ونرى من يكذب ويقلد هذه الفئة القارونية ويرفعها إلى درجة عالية، ولكن الله الرحمن الرحيم له عباد فطن يعلمون حقائق الأمور تراهم رغم ثرائهم، ورغم ما أعطاهم الله من فضله، تراهم متواضعين متصدقين حامدين عابدين شاكرين. يخافون ربهم ويخشون عذابه، ويرجون ثوابه. وإذا فتن الجاهلون الناس كانوا هم في جانب العلم والقيم والفضيلة وهؤلاء هم الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر.
وفي سؤال وجه إلى رائد الخدمة الأستاذ فتح الله كولن :
س/ نشاهد أن الله قد أعطى الكثيرين الأموال الطائلة والسيارات الفارهة والقصور الفخمة والشرف الرفيع والصيت الذائع بينما الآخرون يتضورون في جوع وتصيبهم آلام وبلايا ومصائب وفقر وعلل. فيا ترى هل هؤلاء فاسدون والآخرون يحبهم الله حتى أغدق عليهم ما أغدق، بينما هؤلاء يسحقون تحت وطأة أعباء الحياة؟
أجاب : هذا النمط من السؤال لا يُسأل إلاّ للتعلم فحسب. وإلاّ يدخل الإنسان في الآثام. والحقيقة أن الذي يعاني مثل هذه المعاناة يلزمه هذا السؤال.
نعم، إن الله يعطي لمن يشاء العمارات والسيارات والخيول المسومة والأنعام والحرث ولمن يشاء الفقر والضرورة والحاجة. وينبغي في كل هذا عدم إنكار دور الأسباب الآتية من الأسرة والبيئة المحيطة بالفرد، فمثلاً كما لا يمكن إنكار دراية شخص في كسبه المال لا يمكن إنكار كون علمه بطرق الكسب وفق ظروفه المحيطة سبباً لكسبه. علاوة على ذلك فإن الله في الوقت الذي أظهر أهلية بعضهم، لم يعطهم المال والأولاد. ومع هذا فقد ورد في حديث ضعيف ذي مغزى عميق يخص موضوعنا: (إن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب ولا يؤتي الإيمان إلاّ من أحب، فإذا أحب الله عبداً أعطاه الإيمان)(الطبراني).
ومن ناحية أخرى لا ينبغي أن تعدّ الأموال خيراً. نعم، إن الله إذا شاء يؤتي أحياناً البعض الأموال والأولاد وأحياناً لا يؤتيهم. فالخير وارد في كلا الحالتين. لأنك إن كنت صالحاً واستعملت ما آتاك الله من مال في صالح الأعمال فإنه يكون لك خيراً، وإن كنت طالحاً وضالاً عن الصراط السوي فإعطاء الله لك ليس خيراً.
نعم، إن لم تكن لك استقامة على الطريق فالفقر يكون لك باباً للكفر. لأنه يسوقك إلى عصيان الله، ويوماً بعد يوم تزيد عصياناً لله. كذلك إن لم تكن على الصراط السوي ولم تكن لك حياة قلبية وروحية يكون غناك وبالاً عليك وبلاء. قال تعالى: {المَالُ وَالبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُنْيَا}(الكهف: 46) ولقد خسر الكثيرون في هذا الامتحان. إذ هناك الكثيرون جداً ممن غرقوا في الثروات الطائلة وليس في قلوبهم بصيص من نور بسبب كفرانهم النعم. لذا فان إتيان الله الأموال لمثل هؤلاء إنما هو استدراج ووسيلة لإضلالهم. وهم يستحقون هذه النتيجة لأنهم أماتوا حياتهم القلبية والروحية وأفسدوا قابلياتهم التي وهبهم الله.( كولن، القدر في ضوء الكتاب والسنة)
فالسعادة لا تتحقق فقط بالرفاه المادي وبوفرة المال وبامتلاك الدور والعمارات وبيوت العطل الصيفية، بل بالإيمان وبالسعادة القلبية والتمسك بالقيم الإنسانية، حيث ترسو القلوب إلى شواطئ الاطمئنان وتهدأ الرغبات وتنتهي الطلبات. وإلا فلو أعطيت الدنيا بكاملها لإنسان واحد لما انتهت رغباته وما سكنت شهواته.( كولن، النور الخالد)