(الزمان التركية) – كان تاريخ 26 ديسمبر 1991 حدثا مفصليا، أعاد بلورة النظام العالمي، ولحظة فارقة في التاريخ المعاصر، وإعلانا بإنتهاء آخر فصل من فصول الحرب الباردة، عبر تفكّك الإتحاد السوفياتي وإستقلال جمهورياته، ليسقط بذلك حلف وارسو، وحلّت جمهورية روسيا الوريث القانوني للإتحاد السوفييتي علی المسرح الدولي، ورغم محاولات موسكو القيام بإجراء تغييرات جذرية و تركيز عناصر رأسمالية السوق، كبديل لفكر إشتراكي أنهكها و عمّق فجوة الإنهيار الاقتصادي، فإنّها لم تفلح في تجنيب روسيا أزمة إقتصادية كبيرة في مطلع التسعينات، تسبّبت في إنخفاض بنسبة 50% من الناتج المحلي والإنتاج الصناعي، الأمر الذي انعكس اجتماعياً بتراجع نسبة الولادات وارتفاع نظيرتها من الوفيات وبلغت نسبة الفقر سنة 1993 معدلّات قياسية ناهزت ال70%، قابله إستشراء في الفساد ،وتغلغل المافيا في أجهزة الدولة مع إزدياد مطّرد في معدّلات الجريمة، ممّا عجّل بإستقالة الرئيس بوريس يلتسين سنة 1999، وتسليم منصبه لرجل المخابرات فلاديمير بوتين، الذي فاز بعد أقلّ من سنة بالإنتخابات الرئاسية، حاول بعدها إنتشال الإقتصاد من أتون التقهقر، و إجراء اصلاحات إقتصادية و إجتماعية لإرجاع بريق روسيا.
عودة الدبّ الروسي
لا غرابة أن تكون لروسيا فوبيا وإرهاب سياسي من الثورات، عجّلت بسقوط إمبراطوريتها الشاسعة المترامية في شكلها السوفييتي، عقب مجموعة من الثورات عرفت بالثورات الملوّنة، لازالت موسكو تتّهم الولايات المتّحدة الأمريكية بالوقوف وراءها، فيقول الكاتب الروسي ميخائيل شيشكين بطريقة ساخرة “ليس هناك في روسيا من يحبّ متاريس الثورة…”، فروسيا لم تكن بمنأی عن تداعيات الربيع العربي، حيث خصّب البوعزيزي بويضات الثورة في محافظة سيدي بوزيد التونسية المغمورة، بعدما احترق و هبّ ريح رماده علی المنطقة بأكملها، فتبعثرت الحسابات وتغيّرت الخارطة الجيواستراتيجية، واعتلی الإسلاميون سدّة الحكم في أكثر من بلد.
إلتزمت روسيا الحياد في أوّل الثورات العربية، رغم أنّ هذه الأخيرة أطاحت بأكبر حلفائها في شمال إفريقيا وهو معمر القذافي العقيد الليبي، بعد أن سقط نظام حسني مبارك قبله بأشهر، و هو نظام بدأ الإنفتاح علی روسيا بوتين في بداية الألفية الثانية بعد أن حاول النظام المصري الخروج من الجلباب الأمريكي ولو بشكل جزئي، كما أن حليفها الجزائري ليس بمنأی عن كل هذه التحولات ،وهي التي تشترك مع تونس الثائرة في حدود برية شاسعة، إضافة الی التجانس الإثني و الثقافي بين الشعبين، كل هذا لم يعجّل بتحرّك روسيا رسميا للتصدّي للمدّ الثوري في المنطقة العربية وإنقاذ
حكوماتها المتساقطة تباعا كأحجار الدومينو، عدا تسهيل بعض صفقات التسلّح مع الجزائر الذي أبرم أضخم اتفاقية تسلّح مع روسيا منذ سبعينات القرن الماضي، فبلغت قيمة الصفقة مليارين و 800 مليون دولار، نشرت حيثياتها جريدة “كومرسانت” الروسية في مقال تفصيلي، تحدّث عن طلبات جزائرية لمقاتلات سوخوي مقنبلة ،وطائرات مروحية و مجموعة طائرات سوخوي 35، و40 طائرة مروحية كإجراء إحترازي فرضه وضع أمني متفجّر في حدوده الشرقية، مع كل من تونس و ليبيا، وحالة من الهشاشة الأمنية مع جيرانه الجنوبيين في مالي و النيجر،كما أن هذا الصمت كانت له تفسيراته الداخلية في روسيا المنشغلة بجارها الأوكراني، فأستغلت موسكو ثورة في كييف أطاحت بالرئيس فيكتور يانوكوفيتش، لتحتل شبه جزيرة القرم في 27 فبراير 2014 لدعم وجودها الجيو الإستراتيجي متذرّعة بحماية رعاياها في المنطقة، لتتزايد مطامع بوتين نحو إعادة بريق روسيا العالمي، والتي ستكون بوابته الشرق الأوسط بلا شك، الأمر الذي تبلور مع العقيدة العسكرية الروسية، التي أقرت في26 ديسمبر 2014 أن التطرّف التديني علی قائمة أهم المخاطر الخارجية التي تهدّد الأمن القومي بعد خطر حلف الناتو الذي أصبح حسب تعبير الساسة في موسكو علی الحدود الروسية، ولا غرابة في أن تكون الجماعات الإسلامية مصدر قلق لروسيا التي يقدّر عدد المسلمين فيها 20 مليونا، وجوارها من دول القوقاز و منطقة الفولغا من أكبر الحواضن المفرّخة للجهاديين، ولهم مع موسكو تاريخ من التصادم بلغ حتی العمق الروسي في أحداث رهائن المسرح في اكتوبر 2002 ،علاوة علی سنوات من حرب إستنزاف بين الجيش الروسي و جماعات شيشانية جهادية ،عرفت بضراوتها و شراستها في جبهات القتال ،كما يعتبر جهاديي هذه البلدان من أكثر مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية دموية في العراق وسوريا إضافة إلی تزايد أعدادهم يوما بعد آخر فتشير أرقام إلی تواجد أكثر من 3000 مقاتل قوقازي ينشط مع مجموعات مسلّحة في سوريا ، فكانت هذه الاسباب ذريعة لبوتين حتی يتدخّل في سوريا في 30 سبتمر 2015 لحماية للنظام الموالي لموسكو، وحليف إستراتيجي تتركّز علی أراضيه آخر القواعد العسكرية الروسية في المنطقة، و مايعادله سقوطه من إنحسار للدور الروسي وتراجعه لصالح قوی ناشئة مثل تركيا ،وهي دولة تمثّل بشكل أو بآخر حلف الناتو …كل هذه العوامل التاريخية و السياسية تجعل من الشرق الأوسط بما يحمله من مكاسب جيوسياسية بوابة لعودة روسيا، والإقتراب مجددا من مصادر الطاقة والتحكّم في أسعار الغاز و البترول، وإحداث خطوط لمدّ الغاز الروسي عبر الشرق الأوسط نحو أسواق جديدة بدل خط السيل الذي يمرّ عبر كييف الأوكرانية التي تشهد علاقاتها مع روسيا أسوأ حالاتها بعد اجتياح شبه جزيرة القرم ، كما أن سقوط النظام في سوريا يعني خسارة سوق ضخم للسلاح الروسي ،وفي علاقة بالخصم الامريكي فقد تراجع وجوده في سوريا بشكل كبير مع توافق سنة 2015 مع سنة البطة العرجاء ،وهو مصطلح في العلوم السياسية يقصد به السنة الاخيرة في الفترة الإنتخابية و هي آخر سنة في فترة حكم باراك اوباما الذي رضخ للضغوطات الداخلية بعدم فتحات جبهات أخری، بعد تورّط الولايات المتحدّة الامريكية في المستنقعات الأفغانية و العراقية، وتصاعد أسهم اليمين الشعبوي الداعي إلی مراجعات سياسية في علاقة واشنطن بالجماعات المتطرفة، لذلك فقد ظلّ الواقع السوري خاضعا لتوازن مرعب في فترات مدّ وجزر وكرّ وفرّ، بين جيش النظام الأسدي والميليشيات الموالية له من جهة، و بين فصائل المعارضة و الميليشيات الجهادية و الكردية من جهة أخری ،ليكون تاريخ سبتمبر 2015 لحظة فارقة في تاريخ الإحتراب السوري، و هي بداية التدخل الروسي عسكريا لمعاضدة النظام و مساندته بطلات جوّية تضعف من خلالها القدرات العسكرية للمعارضة، خاصة في ما يعرف بسوريا النافعة التي تمثّل جغرافيا 40% من المساحة ، تشمل دمشق ودرعا وحماة واللاذقية وحلب ،وتمثّل ديمغرافيا 60% من عدد السكان، لتقوم موسكو بتنشيط قاعدتها العسكرية في طرطوس، و تطوير مطار حميميم جنوبي شرقي اللاذقية إلی قاعدة جوّية عسكرية بدعم لوجيستي إيراني علی الارض، سواء من خلال حرسها الثوري، أو ميليشياتها المتمركزة في المنطقة، و أهمّها حزب الله صاحب الخبرات القتالية في المنطقة، كل ذلك أعطی عمقا إستراتيجيا للوجود الروسي في سوريا المستفيد من دعم قوة عسكرية ودولة متغلغلة طائفيا في المنطقة، سمحت لبوتين في سابقة من نوعها من إستعمال قاعدة همدان الإيرانية لتنطلق منها القاذفات لضرب أهداف في حلب ، وبالتوازي مع ذلك قامت روسيا بإستعمال الفيتو ثلاثة مرات للإعتراض علی قرارات لمعاقبة النظام الأسدي الذي هو بمثابة حجرالزاوية لبوتين وآخر حبة إذا إنفرطت إنفرط معها عقد الوجود الروسي في شرق اوسط يمثّل محرارا لموازين القوی العالمية التي مالت نحو الكفّة الروسية و حلفائها مع إنتصارات ميدانية فرضت نظام الأسد كنظام الأمر الواقع وبقائه كشرط للمشاورات بعد أن بسط يده علی حلب ثاني حواضر الشام و إستعداده للتمدّد نحو إدلب و تدمر خاصة بعد تليّن الموقف التركي و تنازله الغير مباشر عن دعمه للمعارضة السورية مقابل حماية أمنه القومي بتراجع الميليشيات الموالية له لمحاربة تنظيم الدولة في جرابلس و الباب، والتحجيم من الخطر الكردي علی الحدود التركية ضمن سياسة أولويات حتّمها تقارب في وجهات النظر بين الثلاثي الفاعل في الازمة السورية المتمثل في روسيا ثم ايران و تركيا ،مع غياب تمثيلي لنظام بشارالأسد، وقد حمل اللقاء الثلاثي الذي جری يوم 20 ديسمبر 2016 بين وزراء خارجية الدول الثلاث المذكورة، و قد خيّمت حادثة إغتيال السفير الروسي في أنقرة بظلالها علی المشاورات بفرض موسكو إملاءاتها علی تركيا التي كانت الحلقة الاضعف في الإجتماع الثلاثي في موسكو، و تنازلت عن موقفها الرافض لبقاء بشار مقابل تسبيقها لأولوية القضاء علی الجماعات الإرهابية .
يرجّح ملاحظون أن الدور الروسي لن يتراجع بعد إحكام النظام السيطرة علی حلب لكنه سيكون أكثر أريحية ،الأمر الذي سيسيل لعاب الدب الروسي لفتح جبهة أخری أو جبهات تعزّز وجوده في مكان مرتبط بالشرق الاوسط و هو شمال افريقيا. فهل تكون ليبيا مسرحا لتدخل روسي جديد ؟
ليبيا بوّابة المتوسّط…
في حواره مع وكالة سبوتنيك الروسية، يقول أحمد المسماري المتحدث العسكري بإسم القوات المسلحة الليبية “إن طرابلس هي الهدف الإستراتيجي للعمليات العسكرية الخاصة بالقضاء علی الإرهاب في الفترة المقبلة” .. تبدو هذه التصريحات ليست بالمفاجئة، لاسيما أن أحمد المسماري سبق وأن غازل موسكو ، مذكّرا بوعود روسية في تسهيل صفقات سلاح جديدة مع حكومة طبرق ،و تفعيل صفقات سابقة منذ عهد العقيد معمر القذافي، كما تتقاطع كل هذه التصريحات مع خبر أكّدته وكالات إخبارية روسية ،مفاده طباعة موسكو 4 مليار دينار من العملة الليبية لحلحلة ازمة السيولة التي تعيشها حكومة طبرق الموالية للواء المتقاعد خليفة حفتر، الذي قام بدوره بأكثر من زيارة إلی موسكو و بطرسبرغ، قابل فيها وزير الخارجية سيرجي لافروف أعقبها بمقابلة مع وزير الدفاع سيرجيو شويغو، و هي لقاءات علی أعلی مستوی تؤكد مراهنة بوتين علی اللواء المقرّب من نظام القذافي سابقا، وهو نموذج محبّذ من العقيدة العسكرية الروسية وسبيلها لتحقيق أهدافها الإستراتيجية بدحر الجماعات الاسلامية ،سواء منها المعتدلة أو المتطرفة ،ونسف كل مشروع ديمقراطي وتركيز طغمة عسكرية موالية، لا سيما أن قوّات حفتر تسيطر علی الهلال النفطي ومرافئ النفط العملاقة، مثل ميناء السدرة ورأس لانوف،و رغبة الروس في تطوير مطار عسكري في بنغازي، ليصبح قاعدة عسكرية علی شاكلة قاعدة حميميم السورية، و هذه القاعدة المزمع إحداثها في بنغازي لها من الاهمية الإستراتيجية ما يجعل روسيا تعود كقوة في بحر المتوسط غير بعيدة عن قاعدة أمريكية في صقلية ودول شمال الحوض، وهي الدول المكوّنة لحلف الناتو ،ليشرع بوتين وبشكل حذر بإرسال بعض الفنيين العسكريين سواء إلی القاهرة أو بنغازي و برقة لتجديد منظومات السلاح وتحسين الدفاعات البحرية و الجوية، كما أنّ السواحل الليبية تمثّل ورقة ضغط قوية بإمكان بوتين إستغلالها ضد أوروبا، فهذه السواحل الشاسعة ضلّت هاجسا يقضّ مضاجع دول شمال المتوسط ،و بإمكانها أن تكون بوّابة جحيم عليها عبر تدفق اللاجئين و المهاجرين غير الشرعيين من الدول العربية أو دول جنوب الصحراء ،التي لا يجد مواطنوها إشكالا يذكر في دخولهم الأراضي الليبية، ولعل هذه الورقة يمكن أن تعيد تشكيل الموقف الاوروبي من إجتياح روسيا لشبه جزيرة القرم ،وربّما أسقطوا العقوبات الإقتصادية في حال قايضهم بوتين ،وهو الذي تمكّن من ليّ ذراع تركيا و ضمن صمت الولايات المتحدة ،وربّما يكون قد تدخّل عبر مخابراته في مسار الانتخابات فيها عبر اختراق بريد هيلاري كلينتون الإليكتروني، و دعمه الواضح للمرشّح الجمهوري دونالد ترامب..
كل هذه المعطيات تؤكد نيّة روسيا التدخّل في ليبيا، ومعاضدة اللواء حليفة حفتر جوّيا وبريّا ،لاسيما أنّ الوضع في ليبيا أقلّ تعقيدا من سوريا لغياب تدخّل القوی الإقليمية بشكل مباشر في مسار الإحتراب فيها ،كما أن الغنائم السياسية و الإقتصادية تبدو اكثر إغراء في بلد طاقي غنيّ وإستراتيجي، كما أن الجارين سواء المصري أو الجزائري من مساندي حفتر عسكريا أو سياسيا،مع دعم مادي خليجي سخي، وتحديدا من حكام الإمارات، وجار تونسي ينأی بنفسه عن الإنحياز لطرف دون آخر .ولسائل أن يتسائل إلی متی ستبقی الدول العربية في موقع الضعف تتلاعب بها القوی الإقليمية والعالمية؟ و تخوض فيها الدول حروبها بالوكالة تكون حطبها الشعوب التي تخيّر بين الإنخراط في صراعات خاسرة، أو ركوب قوارب الموت هروبا من أتون المحارق، بينما حكوماتها تخبط خبط عشواء، فتلك حكومة تناكف نظيرتها بالإرتماء في أحضان طهران، فتماحكها الأخری بزيارة لسدّ النهضة الأثيوبي ،في تلاعبات خطيرة تنسف الحلم وجود دول عربية علی المديين القصير والمتوسط قادرة علی التأثير الإيجابي ومواجهة المشاريع القومية الأخری، وكأن قدرها أن تبقی بيادق في حجارة الشطرنج ،يتخلّص منهما الملك بعد إنتهاء اللعبة …
طارق عمراني…ناشط وكاتب تونسي