(الزمان التركية) قد لا أكون مبالغا إذا قلت بأن العالم المعاصر يشهد الفتنة الثالثة في العصر الحديث بسبب ما يحدث في الجمهورية التركية اليوم. أما أولها فيخص القضية الفلسطينية وأما الثانية فهي أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 وأما الثالثة فهي محاولة الانقلاب الملعونة بتركيا.
من أهم الحقائق المضحكة المبكية التي طبعت خاصرة هذا القرن، صناعة مصطلح الإرهاب فمنذ ظهوره إلى اليوم لم يستطع- بل لم يرد- المجتمع الدولي أن يحدد تعريفا واضحا لهذا المصطلح لأسباب سياسية بالدرجة الأولى. وبعد ذلك تسابق الناس وخاصة الظالمون منهم إلى توظيف هذا المصطلح وتفننوا في الركوب عليه لتحقيق كثير من مآربهم التي عجزوا عن تحقيقها بالقانون والعدل والحق. وبذلك ألبس الظلم لباسا قانونيا وأصبح يستعمل في المساومة على المبادئ وتصفية الحسابات السياسية مع كل خصم أو معارض. وهكذا وظف المصطلح بشكل كبير بعد أحاث 11سبتمبر 2001 ، حتى أن الكثير من الناس يتشائم بذكر هذا التاريخ. الغريب في الأمر أن جهات كثيرة من خبراء الإعلام والسياسة، يقدمون حقائق ومعلومات تكاد تتماثل بخصوص فبركة أحداث يختلف حجمها ودرجة قوتها باختلاف المقصود. فقد تكون اتهامات مجانية أو تلفيق تهم باطلة وقد تصل إلى درجة إشعال الحروب وصنع الانقلابات وقتل الشعوب.
وبقدرة قادر يصبح الجلاد ملَكا والضحية شيطانا، عبر ما وفرته العولمة اليوم من تقنيات مرعبة. والناس في هذا درجات، وفق ما يملكون من إمكانات وسلطات. وبقدر ما توسعت تلك الإمكانات والسلطات زادت العبقرية والإبداع والدقة في إخراج مسرحية مفبركة عالية الجودة واسعة الانتشار كثيرة المشاهدة باهرة النتيجة.
هذا في عالم الدنيا أما في عالم الدين فإن ظلم الناس وإشعال الفتن أو صناعتها أمر في غاية المذمة والنكير. و قد جاء في بعض المصادر كما في كتاب “كشف الخفا” للعجلوني: (الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها). ورغم أن بعض العلماء ضعف هذا الحديث إلا أن مضمونه قوي بعدد من النصوص في الكتاب والسنة، و ليس هنا مكان التفصيل فيها. منها للتمثيل فقط ما روي عن ابن عمر بلفظ “الفتنة راتعة في بلاد الله تطأ في خطامها لا يحل لأحد أن يوقظها ويل لمن أخذ بخطامها”.
بناء على ما سلف، يمكن القول بأن العمل على إحداث الفتنة بين الناس فضلا عن المسلمين أمر منكر ومرفوض بالعقل والدين. لكننا حين التأمل في تاريخ الطغاة والظالمين نجدهم لا يقيمون وزنا إلى القيم العظيمة التي تدعو إلى الرحمة والعدالة والحرية والمساواة، وأن كل همهم مُنصبّ على الفرعنة عبر حيازة كل السلطة أو القارونية من خلال جمع حطام الدنيا ومالها بالنقير والقطمير.
وبهذا الصنيع تضيع مصالح البلاد ويروع العباد عبر فقدان الطمأنينة والأمن، فتنتهك الأعراض والحرمات ويعيش الناس في الهرج وتضيع المصالح العامة والخاصة.
وفي هذا الإطار تعد الأحداث التي تعرفها تركيا اليوم فظيعة بكل المقاييس. فعلى المستوى الخارجي فقد العالم الإسلامي والعربي سندا كبيرا كان في أمس الحاجة إليه في ظل ما يعيشه من تجاذبات سياسية وتخلف في التنمية. وفقد العالم العربي والإسلامي سندا وحُلما طالما انتظره. كما فقد العالم بأسره دولة عظيمة كان بإمكانها المساهمة في تحقيق توازنات دولية وازنة بكل المقاييس. أما على المستوى الداخلي فلا أظن عاقلا يقبل الاعتداء على الحقوق وانتهاك الحريات أو ضياع المصالح وإهانة الشرف بهذا الشكل.
منذ سنوات والعالم يترقب نمو تركيا بين حاسد ومؤيد، وزاد من شدة التربص عدد من الخطوات المهمة التي عرفتها تركيا في تحقيق تنمية حقيقية وديمقراطية واعدة. ولكن شيطنة اللاعبين الكبار في صناعة الصورة الجميلة والمشرفة لتركيا جعلت المسيرة ترتبك والثقة تُفتقد في الداخل قبل الخارج. لا ينكر عاقل أن البناء التربوي والفكري الضخم الذي قام به المفكر فتح الله كولن، بناء عظيم بكل المقاييس وقد أشاد به أعداؤه قبل أوليائه في كل ربوع العالم. كما لا يغيب عن الذهن العبقرية السياسية التي أبدع فيها رجب طيب أردغان رغم كل الملاحظات. وبذلك تزوجت السياسة بالتربية فأنتجت واقعا غاية في الجودة والصلابة.
بين هذا وذاك بزغ فجر 17- 25 ديسمبر 2013 حين أجمع المعارضون على ما حدث من عمليات فساد التي اتهم فيها بعض الوزراء. حينها بدأت شقة الخلاف تكبر بين السيد أردغان والمعارضة، وبقدرة قادر توجهت كل أصابع الاتهام مباشرة إلى الأستاذ كولن فضلا عن رجال حركة الخدمة. هنا وبدل تقديم المتهمين إلى القضاء ليبرئهم أو يتهمهم يتدخل السيد أردغان ليأمر بالإفراج عنهم، بعدها عمت الساحة الداخلية والخارجية اتهامات بالتدخله في القضاء وتجاوز صلاحياته وخرق الدستور، و لم يكن الإعلام المقرب من حركة الخدمة إلا واحدا من هذه الأصوات. وبدل تدخل من يسمون أنفسهم حلفاء وأصدقاء تركيا لتطويق الموقف، تدخلت الأيادي الخفية لتصب الزيت على النار ليأمر السيد أردغان بمعاقبة كل من كان له علاقة بالتدخل في ملف الوزراء المتهمين وبعض أبنائهم. وبذلك وحسب الروايات و التقارير الداخلية بالخصوص يصبح الظالم مظلوما والمظلوم ظالما.
بعد ذلك اتسع الفتق على الراتق وزاد من عمق الأزمة مشاكل السياسة الخارجية. حيث تقلصت العلاقات الخارجية مع دول الجوار إلى حد القطيعة والحرب، فيما تطورت وبشكل دراماتيكي مع إسرائيل، وذلك بتزامن مع انسحاب كثير من الشخصيات والوجوه النزيهة والمحترمة بداية بالأعضاء المؤسسين و البارزين في حزب العدالة ومرويا بالرئيس السابق عبد الله جول وانتهاء باستقالة داوود أوغلو..الشيء الذي يطرح أكثر من سؤال.
ما يثير الانتباه في كل ذلك هو ربط كل الأحداث بجماعة الخدمة و فتح الله كولن. علما أن كل الاتهامات لم تُنبث ولو مرة واحدة تورط أحد من أعضاء حركة الخدمة في فساد مالي أو أخلاقي، لتبقى التهم دائما عامة وبدون دليل، أوسياسية في أحسن الأحوال. و المتأمل في الموضوع قد يجد لذلك مبررات منها الانتشار الكبير والملفت للمتعاطفين مع حركة الخدمة إضافة إلى النجاح الكبير الذي حققته هذه الحركة في كل المجالات. لكن لما سئل الأستاذ كولن عن ذلك كان جوابه مقنعا لجهات عديدة، ومفاده أنه وبصفته مواطنا وعالما يتحمل مسؤوليته و دوره في تربية وتكوين المواطنين بل وكل الناس مذكرا إياهم بما يأمر به دينه وواجبة الوطني. ثم إن أبناء هذا الوطن لما انتشروا في كل حدب وصوب لاشك أنهم كانوا يعملون بما يفرضه عليهم واجبهم الوطني أو الديني وفق ما يحملون من قيم وأخلاق. وكل ذلك في إطار الالتزام الواضح بدستور وقوانين البلاد. إذا فهل يحاسب الأستاذ كولن على ما قام به من واجب وطني أو ديني، أم يحاسب على آرائه ومواقفه المعارضة أحيانا لمواقف أردغان ؟ أم يحاسب على ما حققه من نجاحات؟ أم يحاسب على أمور أخرى؟ نعم قد نجد من بين رجالات الدولة وموظفيها أو جنودها من يقع فيما يخالف القوانين والأعراف المعمةول بها، وفي هذه الحالة لا يُعذر في تحمل تبعات فعله أيا ما كان فكره وعقيدته. أما أن يحاسب أحد على أنه يحمل فكر الأستاذ كولن أو يدافع عنه فهذا عين الظلم وقمة التعدي، في كل الأعراف والقوانين.
أيا كان الأمر فإن التورط في عملية محاولة انقلاب 15 يوليو 2016 تعد قاصمة الظهر بالنسبة لتركيا من جوانب كثيرة. الأول أن التفكير في الانقلاب حُمق وتهور بكل المقاييس. حمق لأن التغيير في عصر العولمة يقوده الفكر والثقافة والقناعات، ولاشك أن المتتبع للتغيرات الدولية اليوم يلحظ كيف تُفرغ الدول الكبرى جهودها وتنفق بسخاء أموالها من أجل ذلك في عدد من بقع العالم القوي. و لو كان الانقلاب المباشر مجديا لما ترددت الدول في العمل به، لكنها تستغل كل تهور في هذا الاتجاه لدعمه أو توجيهه قصد تحقيق مصالحها. وهو حُمق لأن توسع الدولة وتشابك خيوطها واختلاف عقائد وميول وأفكار رجالاتها يُعقد هذه العملية إن لم يجعلها من المستحيلات.
لكل ذلك فإن المستفيد الأول مما يجري في تركيا هم خصومها الحقيقيون في الداخل والخارج. اما في الداخل فلا يحتاج الامر الى عبقري لفهم ذلك. فبمجرد استقراء سريع لتاريخ هذا البلد نفهم بما لا يضع مجالا للشك من هم خصوم تركيا الحقيقيون.
وأما خارجيا فلاشك في أن الحديث عن إعادة تشكيل المنطقة وإعادة ترتيب ادوار اللاعبين الكبار غير خاف على المهتمين. بل ان الحديث عن خلق “دول” جديدة او “هلال” جديد او “شرق اوسط جديد” …كل تلك مشاريع تم الاعلان عنها غير ما مرة من طرف جهات كثيرة، وكلها تكاد تجمع على ان المستفيد الاول هما طرفان اثنان ايران واسرائيل. وإن قبلنا كل الاحتمالات فان قبول تورط المعنيين بالشأن التركي من ولاة امره وبناة صرحه أمر يحتاج دليل. وان اختلطت كل الاوراق ووقع احتمال جهة معينة فلا يمكن فهم او قبول اتهام فتح الله كولن لاعتبارات شكلية وموضوعية. أما شكلا فيتعذر ذلك لكون التنظيم ليس تنظيما سريا بل إنه يتعذر في ظل هياكل دولة مُعقدة وجيش قوي ومعارضة لكل ما هو ديني شديدة …لن يستقيم ذلك إلا أن يكون فتح الله “يحرك الجن” و “يستعمل السحر” كما يروج خصومه.
أما من حيث الموضوع فكل الباحثين والدارسين يعلمون المواقف المبدئية لهذا الرجل و ان عمله على تنزيل تلك المبادئ السامية والإنسانية عبر مؤسسات قوية وناجحة دالة على انسجام الرجل مع مواقفه في السلم والحرب. وان كان له ان يفتخر فليكفه دفاعه عن العمل المدني وعبر المؤسسات وفي ظل القوانين. وهذا يشهد به القاصي و الداني، إلا ان يكون كل المثقفين والعلماء والدعاة والسياسيين الذين يثنون على هذا الرجل ومواقفه بل ويدعون الى اقتفاء أثره، حمقى او مغرر بهم أو عاجزون عن فهم مكره وخلفياته العدوانية كما يدعي خصومه.
وخلاصة القول ان هذا البلد العظيم اليوم يعيش محنة وفتنة لعن الله من أيقظها. وسواء تعلق الأمر بإيقاظ فتنة أو التخطيط لانقلاب فالنتيجة سواء. إنها الفرقة التي تنتهي بالفشل كما قرر الدين وأكد العقلاء عبر تاريخ الانسانية الطويل؛ الذي يسن بأن المستفيد الاول هم الخصوم الحقيقيون. وإلا كيف نفهم انقلاب قرارات السياسات الداخلية والخارجية لتركيا بدون مقدمات.؟
كيف يصبح الصديق عدوا والعدو صديقا في لمح البصر؟ كيف يتم التطبيع مع الكيان الاسرائيلي وتشرع الابواب أمام اسراييل بشكل يستحيل فهمه؟ ثم كيف ولماذا تم وضع لوائح مفصلة وطويلة للآلاف من رجال الدولة والموظفين في كل اسلاك الدولة قبل ما سمي انقلابا وربط ذلك بمحاولة الانقلاب فيما بعد؟ وأخيرا من المستفيد من إهانة ثاني أكبر جيش في المنطقة، بل وتفريغ الدولة من آلاف الاطر من الجيش والأمن والقضاة والمربين بل و في كل مجال؟ كل هذا يفتح الباب على مصراعيه أمام كل الاحتمالات.
فالله نسأل ان يحفظ هذا البلد من كل سوء و أن يجعل تدمير خصومه في تدبيرهم آمين.