بقلم: محمد يلديز
أنقرة (الزمان التركية) -كشفت المراسيم والقرارات الصادرة بموجب قانون الطوارئ، الذي أعلنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أعقاب محاولة الانقلاب المسرحي في 15 يوليو/ تموز 2016، أن تركيا تبتعد يوما بعد يوم عن دولة الحقوق والحريات وسيادة القانون، وتغلق طرق البحث عن الحقوق.
خلفت مراسيم حالة الطوارئ وراءها منذ 15 يوليو/ تموز الماضي، ما يزيد عن مائة ألف ضحية، بين مفصول من العمل ومحتجز ومعتقل؛ ويستمر الظلم وتتواصل المعاناة. وكان آخرها قبل أيام عندما فصل 367 شخصا من العمل في مؤسسات القطاع العام، بموجب المرسوم رقم 683.
كانت المحكمة الدستورية قد رفضت طلب حزب الشعب الجمهوري (أكبر أحزاب المعارضة التركية) بإلغاء المرسومين رقم 668 و669 الصادرين بموجب قانون الطوارئ، بحجة أن النظر في هذا الأمر ليس من اختصاصها. واتهم وزير العدل التركي بكر بوزداغ بعد القرار الصادر من المحكمة الدستورية حزب الشعب الجمهوري بضرب الدستور عرض الحائط لتقدمه بهذا الطلب إلى المحكمة إذ قال: “إن المحكمة الدستورية لا يمكن أن تصدر قرارا في هذه المسألة، نظرا لوجود قانون يحظر رفع دعوى في هذا الموضوع. إلا أن حزب الشعب الجمهوري تعمد تجاهل الدستور وضرب بمواده عرض الحائط من خلال هذا الطلب، لأن أحكام الدستور في حظر رفع دعوى في هذا الصدد واضحة”، على حد زعمه.
بعد غلق المحكمة الدستورية التركية أبوابها في وجههم، اضطر الضحايا والمظلومون للجوء إلى محكمة حقوق الإنسان، وهذا الأمر أدى إلى زيادة كبيرة في الطلبات المقدمة إلى هذه الأخيرة بطبيعة الحال.
ففي شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أجرى الأمين العام للمجلس الأوروبي ثورب جورن جاغلاند، زيارة مفاجئة للعاصمة التركية أنقرة، التقى خلالها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ورئيس الوزراء بن علي يلدريم، ووزير الخارجية مولود تشاويش أوغلو، ورؤساء أحزاب المعارضة، ورئيس المحكمة الدستورية. عقب هذه الزيارة ظهرت فكرة تشكيل لجنة مؤقتة في تركيا للنظر في طلبات وشكاوى ضحايا مراسيم قانون الطوارئ، والتأكيد على عرض الشكاوى والطلبات بالأدلة المثبتة لها.
كان هدف هذه اللجنة حل القضايا والمشاكل في حال ثبوت مظالم حقا والحيلولة دون انتقالها إلى المحكمة الدستورية أو المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. ومع أن قرارات هذه اللجنة مفتوحة لنقاش الجهات الرقابية القضائية، إلا أن بعض المتخصصين أعربوا عن تخوفهم من أن يتسبب ذلك في تأجيل وتأخير حل بعض الشكاوى؟
نشرت حكومة العدالة والتنمية مؤخرا المرسوم رقم 685 المتعلق بتشكيل لجنة فحص إجراءات حالة الطوارئ المعلنة في أعقاب الانقلاب. لكن حقوقيين بينهم كرم ألتي بارماك، الناشط في مجال حقوق الإنسان، يؤكد أن الحكومة تسعى بهذا المروسم لقطع طريق الوصول إلى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية أمام ضحايا الظلم والقرارات التعسفية، مشيرا إلى أن المشتكين سيضطرون لانتظار مرور عرائضهم من هذه اللجنة والمحاكم الإدارية والقضائية، ومحاكم الاستئناف، والتمييز، والمحكمة الدستورية، ومحكمة حقوق الإنسان الأوروبية حتى يرون نتائجها، ما يعني أنهم لن يحصلوا على حق العودة إلى وظيفتهم في المؤسسات الحكومية إلا بعد مرور 10 أعوام على الأقل في حال ثبوت تظلمهم.
على سبيل المثال؛ طلبات التظلم ستبقى في هذه اللجنة للنظر فيها لمدة عامين. بالإضافة إلى 3 أعوام أخرى خلال مرحلة الإجراءات القضائية الإدارية، “في أفضل حال”.
وإذا ما انتقل الموضوع إلى المحكمة الدستورية سيستمر النظر والبت فيه 2-3 أعوام كأفضل تقدير. وبحساب الفترة كاملة اعتبارا من تاريخ الفصل من العمل الحكومي، ستتراوح مدة عملية البحث عن الحقوق عبر الطرق القانونية الطبيعية الداخلية ما بين 8-9 سنوات.
أما بعد وصول الطلبات إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان فإن الإجراءات هناك ستستغرق 3 أو 4 سنوات. الأمر الذي يبرهن على أن الضحايا سيتمكنون من العودة لعملهم في المؤسسات الحكومية مرة أخرى بعد مدة تتراوح بين 10-15 سنة من تاريخ الفصل، وبالتأكيد إذا كان عمره يسمح بذلك. يا له من عدل في ظل حكم حزب “العدالة” والتنمية!
فضلا عن ذلك فإن الأمر الذي يزيد الشكوك والتساؤلات هو أن اللجنة غير مستقلة ولا محايدة من حيث هيكلها التكويني وآلية اتخاذ القرارات، فهى تتكون من 7 أعضاء فقط؛ 5 منهم يعينهم رئيس الوزراء والوزراء المختصون، والعضوان الآخران يعينهما المجلس الأعلى للقضاة والمدعين العامين وذلك لا لأي شيء بل تقدم اللجنة صورة قانونية.
أضف أن اللجنة ليس لها صلاحية إلغاء قرارات مراسيم الطوارئ، بل حدد نطاق مهمتها بطلب إعادة المفصولين إلى وظائفهم والحكم في “قرارات إغلاق الشركات والمؤسسات” فقط.
هدف أوروبا تخفيف حملها
من الممكن أن نذكر الأسباب التي دفعت المفوضية الأوروبية والحكومة التركية للتفكير في دعم مثل هذه الخطوة كما يلي:
– رغبة المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في تخفيف أعبائها بعد تلقيها عشرات الآلاف من طلبات الشكوى وحملها على اللجنة المشكلة في تركيا.
– هذه الخطوة في صالح الحكومة التركية، لأنها ستقوم بالدعاية لصالحها من خلال تقديمها دليلا على فاعلية الطرق القانونية الداخلية من جانب، وستعيق صدور قرارات الانتهاك والإخلال من محكمة حقوق الإنسان الأوروبية على الأمد القريب من جانب آخر.
باب محكمة حقوق الإنسان الأوروبية لا يزال مفتوحا
حسنا، فهل هذه الطريقة مجدية في حل هذه المشكلة؟ وهل لا يمكن التوجه إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ظل وجود هذه اللجنة؟ بحسب رأيي لا! لأن صلاحيات اللجنة تقتصر على بعض قرارات الإخلال والانتهاكات مثل “حق تقديم الطلبات إلى المحكمة”، ولا تختص بتسوية قضايا الانتهاكات مثل انتهاك مبدأ “قرينة البراءة” في حق الضحايا. فإن لم يتم إلغاء مرسوم حالة الطوارئ الخاص بالشكوى المنظورة فإن ذلك يكون انتهاكا للضمانات التي توفرها المادة السادسة من اتفاقية حقوق الإنسان الأوروبية الموقعة عليها من قبل الحكومة التركية. ولا يمكن تحقيق إعادة الحقوق إلى أصحابها إلا بعد إلغاء مراسيم حالة الطوارئ والتعويض عن انتهاكات حقوقية من قبيل الإخلال بمبدأ قرينة البراءة والاتهام بالانتماء إلى تنظيم إرهابي في ظل غياب أي قرار قضائي ومن ثم تقديم الاعتذار إلى الناس المهدورة حقوقهم.
باختصار لأن اللجنة المشكلة بموجب المرسوم الصادر برقم 685 غرضها ليس وضع حد لانتهاكات حقوق الإنسان، فإن الطلبات المقدمة إلى المحكمة الأوروبية ليست من ذلك النوع الذي من الممكن أن تحله هذه اللجنة وتنهي تلك الانتهاكات. لذلك ينصح للضحايا بالاستمرار في تقديم طلباتهم إلى المحكمة الأوروبية.
سبب انزعاج الحكومة التركية من بحث الحقوق المهدورة
لا يخفى على أحد أن حكومة حزب العدالة والتنمية مستاءة من بحث المواطنين عن حقوقهم أمام محاكم مستقلة؛ إذ قال الرئيس أردوغان في خطاب ألقاه في 22 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي: “هناك عديد من الشكاوى والمشتكين! إلا أن عرائض الشكوى تبدو وكأنها مكتوبة من قبل الشخص نفسه! إن هؤلاء معدومو الشرف! فهذه الشكاوى والعرائض مصدرها ومركزها واحد. إنهم يواصلون تلقي الأوامر من المركز ذاته”، واتهم الباحثين عن حقوقهم بـ”عدم الشرف”!
ومن ضمن الوقائع الكوميدية المهزلية والمأساوية ما تعرضت له مجموعة “إيباك” القابضة المعروفة بعد أن تقدمت بطلب للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بشكوى فرض وصاية على شركاتها بشكل غير قانوني عندما فشلت في الحصول على حقوقها ورد مظلمتها بالطرق القانونية الداخلية. لنسمع بقية القصة من جريدة “صباح” رائدة الإعلام الموالي لحكومة العدالة والتنمية:
“احتجزت قوات الشرطة في مطار أتاتورك الدولي 18 عبوة كانت في طريقها للشحن الجوي من تركيا إلى ألمانيا. وبحسب محاضر الواقعة، فإن كل عبوة من العبوات المحتجزة ضمت عددا من المذكرات والشكاوى مكونة من 1607 صفحات، وكانت في طريقها إلى لجنة حقوق الإنسان الأوروبية. تحتوي هذه المستندات على شكاوى ضد هيئة الوصاة الذين عينتهم السلطات التركية على شركات مجموعة إيباك القابضة.
بعد كل ذلك، فهل من المنطقي أن ننتظر من حكومة حزب العدالة والتنمية التي تدير البلاد بهذه العقلية أن تحقق العدل المطلوب للمواطنين؟!
تركيا، محكمة أوروبية، العدالة والتنمية، حقوق الإنسان