بقلم: أمره أوصلو
واشنطن (الزمان التركية) تقدم جريدة الزمان التركية ترجمة خاصة بها عن مقال الكاتب الصحفي التركي المخضرم والخبير الأمني أمره أوصلو الذي تناول فيه الأزمة السياسية الأخيرة بين حكومة حزب العدالة والتنمية في أنقرة وبعض الدول الأوروبية، وفي مقدمتها ألمانيا وهولندا، على خلفية منع وزراء ودبلوماسيين أتراك من عقد مؤتمرات واجتماعات جماهيرية سياسية للحديث عن التعديلات الدستورية على أراضيها، وما تلاها من تصريحات واتهامات من قبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس وزرائه بن علي يلدريم:
جسم غريب انطلق من أوروبا متجها نحو أردوغان!
بقلم: أمره أوصلو
تشن ألمانيا حملات مثيرة واحدة تلو أخرى ضد تركيا. في البداية خرج أحد أبرز المناصب السيادية في ألمانيا، وهو رئيس جهاز الاستخبارات وأعلن كسر صمته قائلا: “لا توجد أدلة على تورط فتح الله غولن في انقلاب 15 يوليو/ تموز 2016″، على عكس ما اعتاد الرئيس رجب طيب أردوغان وحكومة حزب العدالة والتنمية ترديده في كل مناسبة كانت صغيرة أو كبيرة. وقبل أن يفيق أردوغان من ارتباك صدمة الصفعة الأولى، فإذا به يفاجأ بأخرى من ألمانيا أيضا؛ بعدما فضح الإعلام الألماني الخطوة التي خطاها رئيس جهاز الاستخبارات التركي هاكان فيدان عندما قدم لنظيره الألماني قائمة بأسماء وبيانات المنتسبين إلى حركة الخدمة في ألمانيا، طالبا من الحكومة الألمانية اتخاذ اللازم معهم، لكنها حذرت المواطنين الأتراك المقيمين على أراضيها من أن جهاز استخباراتهم “التركي” يتجسس عليهم، بل لم تكتف بهذا وحسب، بل سربت تلك المعلومات إلى وسائل الإعلام أيضا.
وكان لهذه الحملة الألمانية الجديدة انعكاس مثير على اللغة المستخدمة في المؤسسات الإعلامية التابعة لوكالة “دوغان الإعلامية التركية؛ إذا بدأت جريدة “حريت” قبطان سفينة التطبيل، بتقليل استخدام لافتة “منظمة فتح الله غولن الإرهابية” في أخبارها بشكل واضح، بينما استمر في استخدام هذا التعبير بعض الكتاب من اللجان الإلكترونية المبايعة لأردوغان فقط. على سبيل المثال وليس الحصر: الكاتب مراد يتكين، أحد الكتاب أصحاب التوجه الغربي، تخلى عن استخدام مصطلح “منظمة فتح الله غولن..”. هذا التغير السريع في المواقف قد يصيب الإنسان بالحيرة والدهشة، ولكن السبب واضح للعيان: هناك جسم غريب يقترب من أردوغان!
الأهم من كل ذلك، بدأت ألمانيا تنبش أعشاش جواسيس الاستخبارات التركية على أراضيها. فبدأ كل من تقاطع سبيله بشكل أو آخر مع الاتحاد الديمقراطي لأتراك أوروبا (UTE) التابع لحزب العدالة والتنمية، ورجال دين وأئمة ورؤساء جمعيات دينية تابعة لهيئة الشؤون الدينية التركية يتوجسون الخيفة من المواجهة مع تهم التجسس والتخابر.
وعلى سبيل المثال، هناك رئيس جمعية تابعة لمسجد في دولة بلجيكا، لا يكتفي بتنفيذ التعليمات التي تصدر له من جهاز الاستخبارات التركي بتعقب الأتراك المقيمين في بلجيكا من أنصار حركة الخدمة خاصة فقط، وإنما يهددهم أيضا بأنهم لن يتمكنوا من دخول تركيا مرة أخرى. ولكننا لا نتناول هذا الأمر حاليا… وذلك ما عدا الأصوات المتعالية في أمريكا وإنجلترا ضد تركيا.
يبدو أن ألمانيا تقوم بدور “رأس الحربة” في الهجوم على أردوغان. ومن الجلي أن لهذه المبادرة الجديدة سبب مفهوم؛ فالغرب بات يرى أردوغان خطرا أمنيا على نفسه، ويحاول الدفع بألمانيا إلى الواجهة لإيقاف أردوغان عند حدوده، باعتبارها أكبرة قوة غربية زاجرة رادعة لتركيا. أرى أنها استراتيجية منطقية؛ ذلك لأن ألمانيا إذا فعلت ما فعلته روسيا مع تركيا قبل ذلك لمدة شهر واحد فقط، وأغلقت أبوابها في وجه الصادرات التركية، فإنه من الممكن أن ينهار الاقتصاد والصناعة في تركيا.
ونظرا لأن أردوغان يعرف عواقب ذلك جيدا، بادر إلى خفض وتيرة صوته رغم استمرار تعالي وارتفاع صوت ألمانيا تجاهه. ومع أنه من كان يصرخ حتى الأمس في وجهها قائلا: “أنا آت يا أوروبا، وإن لم تستقبلوني سأحرجكم أمام العالم أجمع”، لكن سرعان ما رأينا أن هذا الرجل قد ذهب وحل محله رجل آخر لا يصدر منه حتى همسة في وجه ألمانيا وأوروبا، ولكن لماذا؟
ربما يكون السبب أن جسما غريبا يتجه نحو أردوغان..!
ولكن السؤال المطروح هنا، ما هي خطة أردوغان وماذا يمكن أن تفعل أوروبا؟
يبدو أن أردوغان يعمل حساباته على تحقيق مزيد من القوة والسلطة بحيث يكون الحاكم الأوحد الذي يسيطر على كل شيء في تركيا بعد خروج نتيجة الاستفتاء بـ”نعم”، حتى يتمكن من إجراء مفاوضة ومساومة قوية مع أوروبا يكسر بفضلها التأثير الأوروبي على تركيا.
إلا أن أوروبا بدأت تمل من أردوغان كأستاذ في الابتزاز والانتهازية، وباتت لا تريد مواجهة ابتزازات وسياسات أردوغان الانتهازية في كل مرة. والأهم من ذلك أن أوروبا أصبحت تنظر إلى أردوغان على أنه مصدر خطر على أمنها كخطر داعش على الأقل. وقد عرفت ذلك من قرب، من خلال التجربة المؤلمة التي عاشتها في هولندا خصيصا؛ لذلك فهي تعمل على تنمية وتطوير استراتيجية ذات قناتين: من ناحية تجبر المواطنين الأتراك على الاختيار بين خيارين صعبين، إما تركيا أو أوروبا؛ ومن ناحية أخرى تحاول كسر شوكة أردوغان وتأثيره من خلال قرارات ممنهجة ومدروسة. ولأنها تعلم أنها لن تستطيع تحقيق فعل هذا بدون طرح حل ناجع لمشكلة وخطر أردوغان قررت فتح صفحة جديدة معه وتغيير طريقة تعاملها معه.
[button color=”orange2″ link=”http://www.zamanarabic.com/%D9%81%D8%AA%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D9%83%D9%88%D9%84%D9%86-%D9%8A%D8%B1%D8%AF-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D8%AF%D8%B9%D8%A7%D8%A1%D8%A7%D8%AA-%D8%A3%D8%B1%D8%AF%D9%88%D8%BA%D8%A7%D9%86/” align=”center” target=”_blank”]بالفيديو: فتح الله كولن يرد على ادعاءات أردوغان[/button]
هذا التطور السريع في الأزمة بين تركيا وأوروبا، أعادت إلى شريط الذكريات التاريخية عند الرئيس العراقي صدام حسين. فقد بدأ الغربيون في الأيام الأخيرة لصدام حسين ينظرون إليه على أنه مصدر خطر وتهديد على الأمن الغربي وعلى مصادر الطاقة. كان الغرب عازما ومتفقا على الإطاحة بصدام، ولكنه فضل التباطؤ في خطواته. فحدث ما حدث بصدام حسين، وشهد ما شهد الشعب العراقي. ويبدو أن العناد الأعمى لأردوغان يجر نفسه ومعه تركيا إلى حافة الهاوية نفسها للأسف الشديد.
ردود فعل المجتمعات الغربية ممنهجة ومؤسساتية على النقيض من المجتمعات الشرقية. ولنقل بعبارة أوضح إن ردود فعل أردوغان أو الأتراك، على واقعة ما في أي بقعة من بقاع العالم، تكون سريعة وعاطفية عابرة بحيث يتركون انطباعا مؤقتا لدى المشاهدين أو المراقبين وكأنهم أسود والحقيقة أنهم نعام، تخرج من أفواههم كلمات نارية سرعان ما تخبو جذوتها. أما ردود فعل الغربيين فمثل تروس الماكينة يكمل بعضها البعض، ويعمل ببطء ولكن نتائجها مثمرة. نعم، هكذا يجب قراءة ردود الفعل الألمانية.
بدأ رد الفعل الغربي باستقبال الصحفي المعارض رئيس تحرير صحيفة جمهوريت سابقا “جان دوندار” وغيره من الأقلام الصحفية المعارضة في عدد من الدول الأوروبية، لبعث رسالة إلى أردوغان. ولم يكن على أردوغان إلا أنه قرر إلقاء القبض على مراسل كبرى الصحف الألمانية “دنيز يوجال” في إسطنبول. لم يكتف بذلك، بل أعلن علنا أنه إرهابي أمام الرأي العام التركي والعالمي، ليقطع بذلك الطريق أمام إمكانية إخلاء سبيله بالطرق القانونية بعد محاكمته، فأصبح قرار إطلاق سراح دنيز يوجال ييد أردوغان وحده، وهو يرى أنه ورقة ضغط جديدة يمكن استخدامها في الابتزاز.
لم تقف ألمانيا مكتوفة الأيدي، بل قررت شد أذن أردوغان، من خلال تفجير رئيس الاستخبارات مفاجأة حول ليلة الانقلاب، معلنا أن حركة الخدمة لا علاقة لها بالانقلاب، ليضع بذلك نقطة النهاية على جميع الأساطير التي يروجها أردوغان أمام الرأي العام العالمي. قد لا تستطيعون إحاطة دلالات هذه التصريحات في تركيا، ولكن يمكنكم أن تدركوها وتلاحظوا ثقلها ووزنها إذا ما سافرتم إلى أي دولة من الدولة النامية.
أردوغان يطوف ويجول دول العالم المختلفة من أجل إقناعها بإغلاق المدارس والمؤسسات التعليمية التابعة لحركة الخدمة، بدعوى أنها قامت بالانقلاب عليه. ولكنه ماذا سيفعل بعد فضح رئيس الاستخبارات الألمانية ولجنة العلاقات الخارجية في البرلمان البريطاني ورئيس لجنة الاستخبارات في الإدارة الأمريكية أكاذيبه وادعاءاته قائلين أمام الجميع: “حركة الخدمة لا علاقة لها بالانقلاب”؟ في رأيكم هل سينصت العالم لهؤلاء الدول الكبرى أم للرئيس أردوغان؟ أجل هناك جسم يقترب من أردوغان!
بعد هاتين الحملتين الأوروبية والأمريكية نزلت فجأة السكتة والجمود على لسان أردوغان، ولم يتفوه بكلمة عن أوروبا. وكأن الغرب عامله وكأنه طفل شقي وعاقبه بالفلفل الحار على طرف لسانه فسكت وعاد إلى رشده!
ولكن أوروبا لم تغلق صفحات حملاتها ضد أردوغان، بالرغم من انصياعه ورجوعه إلى صوابه، بل شرعت في حماية المنتسبين لحركة الخدمة من ممارسات جهاز الاستخبارات التركية، وأعلنت صراحة دعمها للتصويت بـ”لا” في الاستفتاء على تعديلات النظام الرئاسي.
ومن السهولة بمكان أن نستنتج أن دعم أوروبا للحملات الرافضة للنظام الرئاسي في تركيا سيمتد تأثيره إلى ما بعد الاستفتاء أيضا. كان الموقف السابق للاتحاد الأوروبي هو عدم التدخل السلبي أو الإيجابي في الانتخابات التي تجرى في تركيا، وبناء العلاقات مع أي مجموعة تخرج منها فائزة. ولكنه بإعلان دعمه الصريح لحملات التصويت بـ”لا” يبعث لأردوغان رسالة مفاداها: “إننا لا نريد العمل معك في حال خروج الاستفتاء بنعم”. أجل إن جسما غريبا انطلق من أوروبا ويقترب من أردوغان!
وأقدم لكم المختصر المفيد لكل هذا: إن أردوغان يصر على خروج نتائج الاستفتاء بنعم لإجبار أوروبا على التعاون معه، إلا أن أوروبا باتت في حالة من الملل والضجر من ابتزازات أردوغان وضغوطاته، لذلك فهي تبحث عن حل ناجع لمشكلة وخطر أردوغان دون أن تخسر تركيا.
حسابات أردوغان قد لا تجدي نفعا حتى ولو خرجت نتائج الاستفتاء بـ”نعم”؛ لأن أوروبا تقود بشكل صارخ دعاية لصالح “لا” لأردوغان. فأوروبا تعلم جيدا أنها إذا خسرت رهانها مع أردوغان وقالت له “عفوا أخطأنا” وجلس معه على طاولة التفاوض والتساوم ذاتها، فإنها ستفقد عندها الكثير الكثير وستضعف يدها. لذلك فإن أوروبا ستواصل قول “لا” لأردوغان حتى لو خرج من الاستفتاء فائزا عن طريق التلاعب في النتائج أو من خلال إدخال الفيروس “الروسي” إلى الحواسيب الإلكترونية التي ستعلن النتائج.
أجل.. جسم غريب اندفع من أوروبا ويتجه نحو أردوغان، لذلك أنصح بالاستعداد واتخاذ التدابير اللازمة!.