امتدت المقابلة التلفزيونية التي أجراها الإعلامي جمال خاشقجي مع الرئيس التركي (47:10) دقيقة وانقسمت إلى ثلاثة أجزاء في (14) سؤال حول كافة القضايا في الشرق الأوسط: (1) زيارة الأمير محمد بن نايف؛ (2) قانون “جاستا”؛ (3) استهداف تركيا والسعودية والدول الإسلامية؛ (4) تزويد المعارضة في سوريا بالأسلحة؛ (5) إمكانية مشاركة السعودية في عملية “درع الفرات”؛ (6) القلق في السعودية من مشروع الهيمنة العثمانية؛ (7) تغيير التحالفات التركية بعد محاولة الانقلاب؛ (8) التدخل الإيراني في سوريا؛ (9) تردي العلاقات المصرية التركية؛ (10) تطور العلاقات التجارية مع مصر؛ (11) التدخل العسكري التركي في سوريا؛ (12) تزايد النشاط العسكري التركي في الخارج بعد محاولة الانقلاب؛ (13) الأوضاع الداخلية بعد مؤامرة الانقلاب؛ (14) التشابه بين تعامل تركيا مع جماعة كولن وتعامل مصر مع جماعة الإخوان. كانت المقابلة تشمل العديد من القضايا التي تهم المتلقي العربي، لكنها أهملت عن قصد العلاقات التركية الإسرائيلية التي تعتبر من أهم تناقضات الرئيس التركي.
تعدد وتنوع الأسئلة الموجهة للرئيس التركي أظهر مزيدا من التناقض الواضح والفاضح للنوايا التركية / العثمانية التي يسعى لها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. يجادل الرئيس التركي بعدد من المثاليات مثل: عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى؛ وحقوق الجار؛ وأن المسلمين إخوة؛ والحذر من الطائفية في سوريا والعراق؛ وأهمية عودة العرب إلى مدنهم وقراهم التي هُجّروا منها. حسناً، لكن الرئيس التركي ذاته يدعم علناً المعارضة المسلحة في سوريا؛ ثم يدخل بقواته العسكرية إلى الشمال السوري والعراقي؛ ثم يرفض خروج قواته العسكرية من العراق؛ كما يصر على أن تركيا وقوات الدول السنية مثل السعودية يجب أن لا تسمح بتحرير الموصل إلا بشروط رغبة في توريط السعودية؛ ويرفض جملة وتفصيلا الحكم في مصر وسوريا والعراق بالتعاون مع قطر. يقبل الرئيس التركي منهج حقوق الجار مع إيران والتفاهم معها، لكنه لا يفعل ذلك مع العرب في العراق وسوريا. [الدقيقة 21:19]؛ يريد الرئيس أردوغان أن يقتطع مساحة (5000) كم مربع من شمال سوريا (تعادل خمسة أضعاف مساحة البحرين: 934,57 كم) بحجج مثالية لكن أردوغان يريد أن تصبح تلك الأرض السورية مقاطعة من تركيا بمنح أهلها الجنسية التركية [الدقيقة 12:17]؛ يتهم أردوغان التدخلات الغربية في كل من تونس وليبيا وافغانستان وباكستان بأنها “وقحة جداً” لكنه لا يرى في تدخل تركيا في الشؤون الداخلية لسوريا والعراق ومصر وقاحة سياسية. الوقاحة الأكثر والأكبر، هي في الإجابة على السؤال الذكي الأخير (14) الذي وجهه جمال خاشقجي للرئيس التركي: بأن ماتفعلونه في تركيا ضد جماعة “قولان” يشبه تماماً ما تفعله مصر ضد جماعة الأخوان. [الدقيقة 40:05]
فضحت المقابلة التلفزيونية توجهات ونوايا ومنطق الرئيس التركي المعتل والمختل. تريد تركيا أن تنسق مع روسيا وإيران وتتعاون مع إسرائيل وأمريكا وأوروبا مستغلة أمرين: (1) الضعف والخوف والثراء والطائفية في الخليج؛ (2) حماية الأمن التركي بطرد وتهميش الأكراد. قطر تريد زعزعة النظام في مصر وسوريا لمصالح سياسية وإقتصادية منذ بداية أحداث الربيع العربي، والسعودية قلقة من تزايد النفوذ الإيراني في المنطقة، فتبرعت تركيا بذلك ليس لتحقيق رغبات دول الخليج بل للتخلص من القلق الكردي المتزايد في الداخل التركي والدول المجاورة. فالرئيس السوري يزداد ثباتاً وثبوتاً في سوريا، والرئيس المصري يزداد قوة وتمكناً في المجتمع المصري الذي إعتاد حكم العسكر، وإيران باتت أكثر نفوذاً في الدول العربية الشرق أوسطية أكثر من أي وقت مضى. ماذا تبقى للسعودية وقطر؟ العداوة والبغضاء من الشعوب العربية وهدر الموارد المالية وربما البشرية في نزاعات وحروب لا طائل منها. ضمنت تركيا مكان ومكانة مع القوى العظمى بإسم الدول السنية والخليجية، وضمنت إيران رقم صعب في المعادلة الشرق أوسطية، أما السعودية وقطر فأمسوا دول هامشية يوكلون أمنهم ويرهنون إستقلالهم بيد القوى الإقليمية والعالمية، حتى ولو وقفوا أمام عدسات الكاميرا في جنيڤ ولندن ونيويورك.المنطق المعوّج الذي صدّرته أمريكا إلى الشرق الأوسط لا يقبله عاقل أو تقبله دولة على نفسها. (1) تم تسمية المتمردين في سوريا بالمعارضة “المعتدلة” والاعتدال هنا مصطلح أمريكي بامتياز ويعني المتوافق مع المصالح الأمريكية، مثل ما تم إطلاق مصطلح دول “الإعتدال” العربي في الماضي على السعودية والأردن ومصر. وإلا هل يجوز أن نسمي مجموعة تحمل كل أنواع السلاح من البندقية حتى صواريخ “غراد” ضد السلطة والحكومة الشرعية بالمعارضة المعتدلة؟ فإذا كانت هذه المعارضة معتدلة فما هي المعارضة المتطرفة؟ (2) تحاول تركيا تسويق منطقة عازلة وآمنه ضمن حدود دول مجاورة (العراق وسوريا) هل لنا أن نتصور أن كل دولة فعلت الشيء ذاته مع الدول المجاورة ألا يصبح العالم فوضى وغير مستقر وتنتهك أراضي وسيادة الدول؟ (3) ترغب تركيا، ومعها بعض الدول في الخليج، تغيير حكام مصر وسوريا، وربما العراق قريباً، لأنهم لا يتوافقون مع منهجهم أو أهوائهم أو يتضادون معهم، فهل نتخيّل عالما تتحكم قوى ودول في من يحكم دول وشعوب أخرى بسبب اختلاف أو عاطفة تحمل الكراهية ضد الحكام وأساليبهم؟ هذا المنطق المعوج الذي يتعارض مع كل مباديئ القانون الدولي، ولا تقبله الدول المجادلة به وأولهم تركيا، صدّرته وسوّقته الولايات المتحدة لتعميم الفوضى الخلاقة وإستمرار الهيمنة وإنتقاص سيادة واستقلال الدول الضعيفة.
أخيراً، بعد قرن من إتفاق سايكس بيكو 1916 – 2016 ها هي تركيا تعاود محاولاتها للهيمنة والسيطرة على الشرق الأوسط بحجج مختلفة، مما يثير الشفقة على دول عربية لم تعرف الاستقلال الحقيقي، وظلت شعوب تلك الدول تراوح بين قطبية ثنائية للقوى العظمى أو المحاور الإقليمية. عندما يفرح حكام الخليج برئيس تركي يدخل بجيوشه إلى سوريا والعراق بكل بجاحة ووقاحة، ويرفض حكام أكبر ثلاث دول عربية: مصر وسوريا والعراق، فهل سيحزنون عندما يطبق الرئيس التركي/ العثماني ذات المبدأ ويدخل إلى دولهم ويرفض حكام الخليج بنفس الحجج؟ وهل يأمن حكام الخليج حاكم تركي/ عثماني يزود معارضة بالمأوى والسلاح اليوم في سوريا والعراق، أن لا يفعل الشيء ذاته مع معارضة ضد دول الخليج؟ وإذا تم غض النظر أو السماح لتركيا بإقتطاع مساحة من أراضي سوريا، فما الذي يمنع إيران من أن تفعل الشيء ذاته مع دول خليجية كالبحرين أو غيرها؟ ختاماً، إن أي دعم خارجي لمعارضة غير مسلحة، أو مسلحة حتى لو سمتها أمريكا “معتدلة” هو تدخل سافر وغير قانوني أو أخلاقي، وسيكون له إرتدادات سلبية، فلا دول الخليج تقبل معارضة أصلاً، ولا تركيا تقبل دعم او تسليح الأكراد المعارضين لها. فالحكمة تقول: كما تُدين تدان. حفظ الله الوطن.
كاتب سعودي
[email protected]
@Saudianalyst
من موقع بوابة مصر 11