بقلم: جعفر گوانی
كانت تركيا تلعب دورا محوريا يحرّك عدّة اتّجاهات سياسيّة في المنطقة وفي غيرها أحيانا، وذلك بسبب موقعها الجغرافي، إذ هي بمثابة حلقة الوصل بين قارات العالم القديم (آسيا- أوروبا- إفريقيا)، ولاسيّما في العقد الأخير من السّنوات الماضية، كما أنّ أوضاعها الداخلية سلما أو حربا تنعكس بشكل مباشر أو غير مباشر على الدول الأخرى والدّول المجاورة لها على وجه الخصوص.
لذا فإن الانقلاب الفاشل الأخير تسبّب بقلق شديد في كثير من دول العالم ومن بين مواطنيها، ولكن كيف حدث الانقلاب؟ ومن هو المدبّر والواقف وراءه؟ وغيرهما من الأسئلة المتعلّقة بهذا المشهد المأساوي ليست من موضوعنا، ونحيل توضيحها إلى السياسيين والمختصين في التّحقيق.
ونريد هنا تسليط الضّوء على قضيّة فرض الضّغوطات على المعلّمين والمدّرسين والتجار الأتراك الذين اشتغلوا بالتّدريس والتّجارة في دول خارج تركيا وتسليمهم إليها، وليس لهم علاقة بالانقلاب لا من قريب ولا من بعيد، ولكن الحكومة التركية مصمّمة على المطالبة بتسليمهم، وذنبهم الوحيد هو أنّهم يخدمون في مدارس الخدمة ومراكزها تدريسا وتجارة.
ولا أريد الخوض في الحديث عن تركيا، فهو شأن داخلي، ومن حقّها مطالبة تسليم من ثبت تورّطه في الانقلاب بأدلّة قاطعة عن طريق محكمة مستقلّة، لكن لا يمكن أن يتحوّل مجرّد العمل في مؤسّسات الخدمة جرما يعاقب عليه النّاس، والأهمّ هنا هو السؤال عن طبيعة المبادئ والقيم الّتي يعتمد عليها لتسليم هؤلاء المعلّمين والأساتذة؟ وأي شرع سماويّ أو قانون وضعي يعتقد أنّه يسمح بذلك؟.
ولكن قبل الإجابة عن ذلك، أودّ أن نقف بصورة عابرة عند توضيح مواقف الدّول حول هذه المطالبة التّركية والرّدّ عليها، حيث انقسمت دول العالم بصورة عامّة على ثلاثة أقسام:
فالولايات المتّحدة الأمريكية والدّول الأوربيّة وبعض الدّول الإسلاميّة لم يستسلموا للضغوطات، ورفضوا بشدّة هذا المطلب التركي، وامتنعوا عن تسليم فرد واحدٍ، بل ولم يسلّموا السياسيين المعارضين أيضا، فألمانيا مثلا رغم وجود مصالح مشتركة وعلاقتها الوطيدة مع تركيا لكنّها رفضت تسليم السياسيين من حزب العمّال الكوردستاني وحزب الشعوب الدّيمقراطي، وذهبت إلى أبعد من ذلك بفتحها الباب أمام عدد من الجنود المشاركين في الانقلاب. وقامت تركيا بالمعاملة نفسها بعد الاطاحة بحكم الإخوان، واحتضنت عددا من قادة الإخوان المسلمين، وضحّت بجميع علاقاتها، ولم تسلمهم إلى مصر رغم إصرار الأخيرة على المطالبة، ووصل الأمر إلى أسوأ الأحوال وانسدّت الأبواب كلّها أمام العلاقة التّركية – المصريّة. وأرى هذا موقفاً طبيعيا مناسبا لجميع الدّول الّتي تريد الاحتفاظ بسيادتها، وتسعى لتوفير أجواء إيجابيّة يشعر المواطنون من خلالها بالأمن والاستقرار، وإبقائها ملاذا آمنا لكلّ من يلتجئ إليها ويفضّل العيش في ظلالها.
أمّا بعض الدّول الإسلامية كالكويت فهي ضمن القسم الثّاني، ولبّت طلب تركيا تسليمها بعض الأساتذة الذين كانوا يعملون في مركز لتعليم اللغة في الكويت، لكن مع انتشار الخبر قامت القيامة، وتشكّلت حملات رافضة لهذه الخطوة السّلبيّة والعمل البشع من قبل مثقفين وصحفيّين وقانونيين وغيرهم من روّاد حقوق الإنسان، وناشدوا أمير البلد تحقيق طلبهم بسحب هذا القرار، وأرادوا بذلك أن تبقى الكويت دولة ذات سيادة غير خاضعة لغيرها من الدّول، ومن أجل الاحتفاظ بسمعة البلد وحسن الضّيافة الّذي هو من شيمة العرب واحترام حقوق الإنسان، وأخيرا انصاعت الدّولة لرأي شعبها وامتنعت عن تسليمهم، واختارت إعطاء الضيوف فرصة اختيار دولة ثالثة.
وفي مقابل هذين الصّنفين فضّل الصّنف الثّالث من بعض الدّول الإسلاميّة تسليم المعلّمين والتّجار الأتراك فورًا بعد طلب تركيا دون أيّ تحقيق ومحاكمة، منها السّعوديّة فسلّمت خمسة عشر شخصا ما بين معلّمين وأساتذة وتجّار مع عائلاتهم، والغريب أنّ هؤلاء عاشوا في السّعوديّة وقدّموا مافي وسعهم من الخدمات فيها قرابة خمسة وثلاثين عاما، وكانوا موضع القبول لدى السلطات هناك وشعبها. أمّا ماليزيا فقد أقدمت على اعتقال معلّم تركي في موقف سيارات مغلق تّابع لأحد المراكز، وبعد إيقاف السيارة، وترحيله قسرا إلى تركيا، وتعدّ هذه الخطوة الثانية بعد اعتقال تاجر هناك قبل ذلك.
والأغرب من ذلك كلّه تلبية بورما لهذا الطّلب التّركي، ولا يخفى على أحد مدى سوء أحوال المسلمين في هذا البلد الآسيوي ومآسيهم المتتالية، لكنّها لم تتردّد في ترحيل مدير مدرسة تابعة للخدمة في ميانمار إلى تركيا وتسليمه للحكومة. وبعدما بدت عملية التّسليم تشبه ظاهرة يوميّة أصدرت الأمم المتّحدّة بيانا طالبت فيه وقف هذه التّصرّفات والحملات التعسّفيّة من ترحيل الأتراك وتسليمهم إلى تركيا. ودولة مثل قطر، في حين أنّها توجّه اللّوم إلى السّعوديّة ومصر في مطالبة تسليم سياسيين لجؤوا إليها، فهي توقف عائلة تركية في المطار وكانت في طريقها للسّفر إلى جنوب أفريقيا بغية تسليم أفرادها إلى تركيا.
ويزداد تأسّفنا حينما نقارن موقف بعض الدّول الإسلاميّة مع موقف الدّول الغربيّة وغير الإسلاميّة.
كان من المفروض أن تكون الدّول المسلمة في مقدّمة دول العالم في إيواء المستضعفين وملاذا اكثر أمنًا، وحريّ بأصحابها أن يكونوا قدوةّ يقتدى بها، لأنّ الغرب إذا تسلّح في الدّفاع عن هؤلاء بالديمقراطية وحقوق الانسان، فإنّ للدّول الاسلامية فضلا عن ذلك، دينَهم الّذي لا يسمح بذلك، كما أنّ في هذه الخطوات إساءة إلى سمعتهم وتشويها لها. وفيما يلي نستعرض نصوصا من القرآن والسّنّة تتضّح القضيّة من خلالها:
أوّلاً: قال تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ)… فتوضّح الآية الكريمة وجوب إعطاء الأمان للمشركين إذا طلبوا ذلك، وذلك بعد أن لا يبقى بينهم عقد ولا ذمّة، حتّى يرى المشركون رسالة الإسلام السّمحة، ويسمع إنسانيّة الإسلام ورحمته، ثمّ يجب على المسلمين أن يبلغوهم مكانا يأمنون فيه على أرواحهم وأموالهم ودينهم.
الآية واضحة في وجوب الأمان مهما كان طالبه مختلفا، وبهذا الأمان يظهرون أنموذجا من عظمة الإسلام، ومتى أراد المستأمن الخروج فلا يجوز لأحد أن يتعرّض له أو أن يسلّمه لمخالفيه، بل لابدّ أن يبلغ مكانا يأمن فيه على نفسه وأهله.
ثانياً: لابدّ أن يكون المسلمون أوفياء بعيدين كلّ البعد عن سمات كفر النّعمة واللئامة، بل ينبغي أن يكونوا من أوفى الأوفياء، ولاسيّما مع أناس يعرفونهم منذ سنوات طويلة، ولم يروا منهم إلاّ الخير، فليس من المعقول شرعا وعرفا أن يصيروا وقود نار لا علاقة لهم بها. فالوفاء شيمة المسلمين، ومن الأمثلة الجليّة على ذلك ما ورد في شأن أمّ هانئ بنت أبي طالب، وقصّتها: لمّا أنعم الله سبحانه بفتح مكّة المكرّمة على النّبيّ والمؤمنين في رمضان السنة الثامنة من الهجرة، وهو الفتح الأعظم، فرَّ بعض المشركين إلى بيتها ـ رضي الله عنها ـ، وكانوا ممن آذوا المسلمين في السّابق، ولذا فرّوا ولحقهم علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ ليقتلهم، لكنّهم طلبوا الجوار من أمّ هانئ ففعلت، وذهبت إلى النّبيّ ـ صلّى الله عليه وسلم ـ لتخبره بما حدث بينها وبين عليّ ـ رضي الله عنهما ـ، وتروي ذلك كما جاء في صحيح مسلم وتَقُولُ: ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ، وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ بِثَوْبٍ، قَالَتْ: فَسَلَّمْتُ، فَقَالَ: «مَنْ هَذِهِ؟» قُلْتُ: أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: «مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ»، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ، قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ زَعَمَ ابْنُ أُمِّي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلًا أَجَرْتُهُ، فُلَانُ ابْنُ هُبَيْرَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ قَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ.
ثالثاً: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حديث رواه البخاري ومسلم: (ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلاَ عَدْلًا).
ويشرح ابن بطال هذا الحديث في (شرح صحيح البخاري 5/351) ويقول: “إنّ كلّ من أمن أحدًا من الحربيّين جاز أمانه على جميع المسلمين دنيّا كان أو شريفًا، حرّا كان أو عبدًا، رجلا أو امرأة، فدخل فى ذلك الصبى وغيره، وإنما الأمان مما اختص به من له حرمة الإسلام، فجعل لأدناهم كما جعل لأعلاهم، وليس لهم أن يخفروه، ومن أخفر مسلمًا فيمن أجاره فعليه لعنة الله والملائكة”، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: (ولا يقبل منه صرف ولا عدل) أي “توبة ولا فدية أو نافلة ولا فريضة” كما قال مصطفى البغا.
كما علّق عليه الإمام النّووي في (شرحه على مسلم 9/ 144): “المراد بالذمة هنا الأمان معناه أن أمان المسلمين للكافر صحيح فإذا أمنه به أحد المسلمين حرم على غيره التعرض له ما دام في أمان المسلم”.
رابعاً: كان الأمان أو الجوار جزءا أصيلا عند العرب قبل الإسلام، وكانوا يتفاخرون بالتّمسّك به كحبل متين من شيمة الأصالة والعروبة، ومن أجلى الأمثلة على ذلك، ما قام به النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد هجرته إلى الطّائف، حيث قوبل بالرّفض والضّرب والإهانة، وقد بذلت قريش جميع الجهود ونسجوا شتّى الحيل كي يصدّوه عن العودة إلى مكّة، فيبقى بلا مأوى وبدون سند وحماية، ومن ثَمَّ لا يجد ملاذا آمنا، وكان النّبي على علم فيما يواجهه في مكّة وينتظره هناك، إذ كانت قريش عازمة على منعه، لذا ولأنّ أهل الطّائف أعرضوا عن دعوته وألحقوا به أذى شديدا، رجع من الطائف حزينًا مهمومًا، ولم يشأ أن يدخل مكة كما غادرها، إنما فضل أن يدخلها في جوار بعض رجالها.
يذكر ابن القيّم رحمه الله هذه الحادثة في كتابه (زاد المعاد 3/30)، ويقول: “أقام بنخلة أياما، فقال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ يعني قريشا، فقال يا زيد: إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه. ثم انتهى إلى مكة فأرسل رجلا من خزاعة إلى مطعم بن عدي: أدخل في جوارك؟ فقال: نعم، ودعا بنيه وقومه فقال: البسوا السلاح، وكونوا عند أركان البيت فإني قد أجرت محمدا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام المطعم بن عدي على راحلته فنادى: يا معشر قريش إني قد أجرت محمدا، فلا يهجه أحد منكم، فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الركن فاستلمه، وصلى ركعتين، وانصرف إلى بيته، والمطعم بن عدي وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته”.
ولم ينس الرّسول الأكرم هذه الفضيلة، ولمّا كان يوم بدر، قال -صلَّى الله عليه وسلم- قال لأُسارى بدر: “لَو كان مُطعِمُ بنُ عَدِيّ حيّاً ثم كلَّمني في هؤلاءِ النَّتنَى لأطلقتُهم له”.رواه أبوداود.
إذا كان إعطاء الأمان أمارة من أمارات الوقار حتّى لدى عرب الجاهليّة، وكانوا على استعداد أن يضحّوا بأنفسهم وأموالهم وأهليهم دفاعا عمّن أعطوه الأمان والجوار.
استنادا على ما سبق من الأدلّة وغيرها من النّصوص في القرآن والسّنّة، كان على الدّول الإسلاميّة أن تقدّم أجمل صورة من الوفاء والأمان، وأن لا تبقى كما هي الحال دائماً في المقطورة الأخيرة للحضارة الإنسانيّة وحقوق الإنسان، ولاسيّما أنّ هؤلاء لم يكونوا جنودا ولم يشاركوا في الانقلاب، كما أنّهم كانوا معروفين لدى هذه الدّول، وخدموا بعض هذه الدّول في أصعب الأيّام وأحلك الأحوال، وبهذه الخطوة أضرّت هذه الدّول بسمعتها قبل الإضرار بضيوفها، وربّما يفقد مواطنوها الثّقة، لأنّ من يبيع ضيفه اليوم فهو على استعداد أن يضحّي بأبناء بلده غدا.
وأخيرا فإنّ هذه المقالة لا تتعلّق بأناس تفرّقوا في الدّول بقدر ما هي متعلّقة بتخلّف الدّول المسلمة في مجالات الفكر وحقوق الإنسان ورعاية المبادئ الدّينيّة والاتّفاقات الدّوليّة، وأمّا الدّول المتقدّمة فتضحّي بمصالحها من أجل الدّفاع عن مبادئها وتقديم صورة أجمل… فتتقوّى ثقة المواطنين بها.