بقلم .حازم ناظم فاضل
الإشاعة: نوع من الحرب النفسية، تستخدم في الحروب الباردة ، وتسري سريان الماء في الجدول، وهي وساطة لتنفيذ الأعداء مؤامراتهم. وتتخذ من الأعصاب الضعيفة والعروق الواهية التي لا تقاوم مدخلاً لإثارة الإلحاد والتعصب والطمع وحب الجاه وحرص الانتقام بين الجماعة الواحدة.
وبرزت فن صناعة الإشاعة اليوم كجزءٍ من الحرب النفسية التي تديرها مؤسسات خبيرة ومفرغة لهذا الفن، ولا شك أن أمتنا الإسلامية اليوم تتعرض لهذا الغزو المنظم الذي يهدف إلى تحقيق أهداف العدو المتنوعة في الفرد والأسرة والمجتمع في الرأي والموقف والسلوك وفي الولاء والبراء، وفي السياسة والاقتصاد.
ويكون منشأ هذه الإشاعة خبراً من شخص، أو خبراً من جريدة، أو من مجلة، أو خبراً من إذاعة، أو خبراً من تلفاز، أو خبراً من رسالة خطِّية، أو خبراً مِن شَريط مُسجَّل.
وبثُّ الإشاعة ورَواجها وقَبولها لا يَلتقي مع العِلم والعدل والكرامة والتَّقوى، بل إنَّ ذلكم المسلك صورةٌ من صُور الفشَل والفاشلين، فترى الفاشل يَتلقَّف الإشاعة ثم يزيد عليها؛ سعياً في إبراز نفسِه، وتصدُّراً للمجالِس، وتمدُّحاً بالزُّور والتَّلفيق، بل قد يُبدي تظاهراً بالغَيرة على الأمَّة والرَّغبة في الإصلاح.
وقد أخذت الإشاعة في عصرنا الحاضر صفة ومنحنى مختلف عن الماضي في حدتها وتأثيرها المباشر على الناسبسبب فبركة الأخبار الزائفة ودعمها بحقائق شبه صحيحة ، وإن كانت بعيدة كل البعد عن الواقع ، متخطية كل المزايا في سرعة الانتشار، وترويع الناس وصولاً إلى عمق الهدف المنشود. وذلك عبر استخدام التقنية الحديثة للاتصالات ، المتمثلة في برامج التواصل الاجتماعي المختلفة ، التي اصبحت في متناول يد الكبير والصغير وعلى نطاق واسع لا محدود ، التي اسهمت ايجاباً في ازدياد الاشاعة وتداولها بصورة سريعة.
وتعتبر الإشاعة من أكبر الحملات الترويجية للأخبار الكاذبة والاتهامات الباطلة ضد الأبرياء سواء أفراد أو جماعات، تحمل أخبار زائفة للناس ليس فيها من الواقع شيء ، وهي في الأصل بهتان وكلام في الباطل ، يروجها سفهاء حاقدين بدوافع تحريضية أو عدوانية أو انتقامية، ساعياً بكل جهدهم البائس في تحقيق أهدافهم العدوانية المتمثلة ، في بث الخوف والرهبة ، وزرع روح الكراهية والعداوة ، وإشعال النعرات الطائفية والعرقية ، وتشويه سمعة علماء الأمة الأجلاء ودعاة الحق ، وكبار المسؤولين أصحاب المراكز العليا في الدولة، واتهامهم بالخيانة والتقصير بواجباتهم بهتاناً وزوراً ، لنزع ثقة المجتمع بهم، حتى تحصل الفجوة والهوة بين العلماء وبين الناس، فتهتز الثقة بين الناس والعلماء، فيذهبون يستفتون الجهلة، ويستفتون أولئك الذين يخرجون عبر المحطات الفضائية ممن ليس عندهم علم فيفتونهم، ويتركون علماء الأمة الأجلاء ودعاة الحق ؛ لأن هناك مَن يُشوِّه سمعتهم ويطعن في مِصداقيتهم، ويطعن في علمهم، كل ذلك لتعم الفوضى بين كافة أطياف المجتمع .
والذين يحاولون القدح في علماء الأمة الأجلاء ودعاة الحق ويشيعون عنهم ما لم يفعلوه وما لم يقولوه لأجل نشر الفوضى وملء القلوب حِقداً وبغضاء مُغرِضون مرجفون لا خير فيهم؛ لأنّ المسلم ينصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين، ينصح لعموم المسلمين بالنصيحة الصادقة الهادفة في قنواتها المعتبرة، لا يطلب بها شهرة ولا رياء، ولكن يقصد إصلاح الحق، وإيصال كلمة الحق بأدب واحترام، هكذا المسلم في أخلاقه وتعامله.
وقد انجرف كثير من علماء الأمة بإلصاق التهم والافتراءات إلى الأستاذ فتح الله كولن، ونعته بصفات ما أنزل الله بها من سلطان، منها؛ وصفه بـ(حصان طروادة)، أو بـ (استغلال الدين)، أو ( أنه يتكلم مع الله دون حائل)، أو ( أنه مختار مجتبى من الله)، أو (أنه المسيح عيسى)، أو (أنه المهدي)، أو إتهام حركة الخدمة بـ (الحشاشين) – وهي فرقة باطنية ضالة كان يتزعمها حسن الصباح(ت 518ه)- أو (أن الذين لا يؤمنون بمحمد – صلى الله عليه وسلم- سيدخلون الجنة) أو أن جماعته من (أهل النفاق) أو ( من الفرق الضالة)…إلخ من الافتراءات.
هذا بهتان عظيم.. (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا) .
ولقد نبه القرآن الكريم بعدم نشر أي خبر دون تثبت أو تمحيص في كثير من آياته لئلا نصيب أي قوم بأذى ونحن لا
علم لنا بحالهم .قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَ كُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات:6) .
وكذلك وضح لنا القرآن الكريم قاعدة ذهبية لمكافحة جميع أنواع الإشاعات وإبطال مفعولها بسرعة قبل أن تتمكن في المجتمع وهذه القاعدة هي: التكذيب الفوري للإشاعة اعتماداً على سوء الظن بمصدرها وحسن الظن بالمؤمنين.
وكذلك نبه إلى عدم إذاعة ما تصل من أمر الأمن أو الخوف للتغرير بالمسلمين أو إلقاء الرعب في قلوبهم ، لأن الرأي
النهائي في إفشاء الأخبار وإذاعتها من وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم وولاة الأمور ، فهم الذين يذيعون ما يرون إذاعته . فليس لأحد غيرهم الحق بإذاعة ما تصل إليهم من الأنباء . قال الله تعالى : { وَإِذَا جَاءَ هُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً}(النساء:83).
وفي زمن الفتن والأحداث يروج سوق الشائعات والأخبار، وتكثر الأقاويل، وتزداد شهوة الإشاعات والمبالغات والأباطيل، وتصبح حديث المجالس، وتتعلق بها القلوب بمجرد سماعها وعدم التثبّت منها، وقد يترتّب على ذلك عواقب وخيمة في المجتمع واضطراب للأمن وخلل في الاقتصاد، وهذا أمر مُشاهد معلوم.
والإسلام جعل منهجاً واضحاً عند سماع الأخبار ونقلها، وهو التثبّت والتبيّن منها، بل جعل من يحدّث بكل ما سمع كذّاباً، كما في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع»(رواه مسلم)
وهذا المنهج لا يتغير سواء حال السِّلم أو الحرب، بل إنه ليتأكد حال الحرب والفتن؛ حفاظاً على أمن المجتمع وسلامته.
وفي شرح الحديث النبوي الشريف : «إن الله حرّم عليكم عُقوقَ الأمهات ووَأْدَ البنات ومَنْعاً وهاتِ وكَرِهَ لكم قيل وقال وكثرةَ السؤال وإضاعة المال.»(رواه البخاري).
يقول الأستاذ فتح الله كولن : رمز (صلى الله عليه وسلم) إلى الشائعات هنا بـ”قيل وقال”. وقيل وقال هو كل كلام لا ينفع لا في الدنيا ولا في الآخرة.. هو الكلام التافه وغير الضروري.. هذا قد يكون كلاماً لا يعنينا في شيء أو بياناً يقترب من حدود الممنوعات، ونشر الشائعات مرض اجتماعي يختلف في شدته باختلاف المستوى الاجتماعي للناشرين وباختلاف واسطة الشائعة -قد تكون جريدة أو مجلة أو إذاعة أو تلفزيونا- ومدى وسعة دائرة انتشارها. وهذا مرض اجتماعي يسري في المجتمعات التي تعطلت فيها مواهب الأفراد وتسطحت فيها مشاعر الجماهير وضاقت آفاق تفكيرهم.
إن كل الآثام القاتلة التي يكون الفم مصدرها والتي حرمها الإسلام تنمو وتنتشر عن هذا الطريق “القيل والقال”. ولهذا أورد الرسول (صلى الله عليه وسلم) قول المعروف أو الصمت من بين أشياء ثلاثة أوصى بها إذ قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جارَه. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكْرِمْ ضيفَه.»(كولن، النور الخالد)
وحكم الإشاعة:
(1) تحرم إشاعة أسرار المسلمين وأمورهم الداخلية مما يمس أمنهم واستقرارهم ، حتى لا يعلم الأعداء مواضع الضعف فيهم ، فيستغلوها أو قوتهم فيتحصنوا منهم.
(2) تحرم إشاعة ما يمس أعراض الناس وأسرارهم الخاصة، قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } (النور :19) وفي حديث أبي الدرداء رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( أيما رجل أشاع على رجل مسلم بكلمة وهو منها بريء، يشينه بها في الدنيا كان حقاً على الله عز وجل أن يذيبه يوم القيامة في نار النار حتى يأتي بنفاذ ما قال ) (الترغيب والترهيب حديث رقم 4191).
ويتفنن أعداء الإسلام في نشر الإشاعة بين الجماعة المسلمة للتهوين من شأنهم وإلقاء الرعب بين صفوفهم باستخدام وسائل خبيثة وطرق ماكرة وذلك مثل:
(1) إشاعة الخوف : والخوف أحد الانفعالات الابتدائية والعنيفة ، يتملك المرء فيشله عادة عن الحركة ويجمد نشاطه ، ويتميز بحدوث تغيرات واسعة المدى في الجسم ، كما يتصف بسلوك لدى الشخص قوامه الهروب والفرار أو الإخفاء ومنه الرعب والفزع والجزع وارتعاد الفرائص والخشية والرهبة .ويستغل الطغاة والظالمون الماكرون هذا الشعور العميق في كيان الإنسان لدى العوام ولاسيما لدى العلماء ، فيلقون في روعهم المخاوف ويثيرون فيهم الأوهام ، مثلهم في هذا كمثل شخص محتال يظهر لأحدهم ما يخافه ـ وهو على سطح دارـ فيثير أوهامه ويدفعه تدريجياً إلى الوراء حتى يقـــربه من الحافة فيرديه على عقبه ، فيهلك . كذلك يثير أهل الضلالة عرق الخوف لدى الناس فيدفعونهم إلى التخلي عن أمور جسام من جراء مخاوف تافهة لا قيمة لها ، حتى يدخل بعضهم فم الثعبان لئلا تلسـعه البعوضة .
ولصد هذا الهجوم علينا الاحتماء بالقرآن العظيم ، لان الله سبحانه وتعالى قد منحنا الشعور بالخوف لنحفظ به الحياة ، لا لهدم الحياة وتخريبها ، ولم يمنحنا هذا الشعور لنجعل الحياة أليمة ومعضلة ومرهقة . فإن كان الخوف ناشئاً من احتمالين أو ثلاثة بل حتى من خمسة أو ستة احتمالات فلا بأس به ، فلربما يعد ذلك خوفاً من باب الحيطة والحذر . أما إن كان الخوف ناشئاً من احتمال واحد من بين عشرين أو أربعين احتمالاً فليس هذا خوفاً ، وانما وهم يستولي على الإنسان ويجعل حياته عذاباً وشقاءً .
ومن المعلوم : ان اكثر من يجرح ويصاب في الحرب هم الذين يهربون من خنادقهم ومواضعهم ، وأن أقل الجنود إصابة هم أولئك الثابتــــون في مواضعهم . فالآية الكريمة : { قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ}(الجمعة: 8) تشير بمعناها الإشاري إلى إن الفارين من الموت يقابلونه بفرارهم اكثر من غيرهم.
(2)إشاعة الحقد : وذلك بإثارة الخلافات الداخلية بين المســـــلمين . ولصد هذا الهجوم علينا الدخول في القلعة الحصينة المقدسة : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}(الحجرات:10) .لان زعزعة قلعة الإسلام الحصينة بحجج تافهة واسباب واهية خلاف للوجدان الحي وأي خلاف وهو مناف لمصلحة الإسلام كلياً.
(3) إشاعة حب الطمع : إن منافقي أهل الضلال يقتنصون الكثيرين بفخ الطمع وعرقه الضعيف المغروز في الإنسان. ولصد هذا الهجوم علينا بالآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} ( الذاريات:58).
لأن الرزق مقدّر بالقدر الإلهي، وأنه يُنعَم به انعاماً، والمنعم المقدّر هو الله سبحانه، وهو رحيم وكريم، فليفكر مَن يقبل مالاً حراماً ممحوقاً رشوة لوجدانه بل أحياناً لمقدساته، مريقاً ماء وجهه إراقة غير مشروعة بدرجة اتهام رحمته تعالى واستخفاف كرمه سبحانه.. أقول؛ فليفكر مثل هذا في مدى بلاهة وجنون تصرفه. نعم! إن أهل الدنيا ولاسيما أهل الضلالة، لا يعطون نقودهم رخيصة، بل يعطونها بأثمان باهظة، فإن مالاً قد يعين على إدامة حياة دنيوية لسنة واحدة، إلاّ أنه يكون أحياناً وسيلة لإبادة خزينة حياة أبدية خالدة. فيجلب بذلك الحرص الفاسد الغضب الإلهي عليه ويحاول جلب رضى أهل الضلالة(النورسي).
(4)إشاعة التعصب : إن إشاعة التعصب، رغبة من منافقي أهل الضلال في تفجير الوضع وقيام الحرب الأهلية بين أبناء الوطن الواحد. ولعل أكبر الجهات جرماً وأعظمها تسبباً في ذلك الإعلام الكاذب الذي تأثر به الكثيرون ممن ضعف وعيه، وغاب لديه أثناء تبنيه المواقف وحكمه على الآخرين الانطلاق من نصوص الشرع وجعلها دليلاً وحاكماً في ذلك ، أو ممن ليس بضعيف الإيمان ولكن قلت معرفته بالمقاصد وضعفت نظرته إلى المرامي والغايات التي يطمح إلى تحقيقها من يقف خلف تلك الوسائل الإعلامية المختلفة.
وجناحا التعصب هما : ضعف النفس وجهل العقل. وعلاجه: نشر السلام والمحبة والوئام والوعي، وبث العلم، وتربية الناس على فن الحوار مع الغير، واحترام النظام، وأدب الكلام، وإعطاء كل ذي حق حقه، ورفع الظلم.