تقرير: يافوز أجار
أقام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أول من أمس الأحد تجمعا جماهيرياً تحت مسمى “الديمقراطية والشهداء” أراد به أن يكون ختاما لتجمعات “حراسة الديمقراطية” وحرص فيه على أن يقدم “صورة” تضمّ “فسيفساء تركيا” جميعاً، بدءاً من الجماهير العريضة والجماعات الدينية المختلفة، وانتهاءً بزعماء الأحزاب المعارضة ورئيس أركان الجيش، الأمر الذي أزاح الستار عن حاجته الملحة لرسم هذه الصورة في أذهان الرأي العام الداخلي والدولي.
بعد أن ظهر أن أردوغان اتخذ كل تدابيره، وأعدّ كل ذخائره، وكأنه على علم مسبق بالمحاولة الانقلابية في منتصف الشهر الماضي، كما هو ظاهرٌ من خطته الجاهزة المدروسة جيداً للتعامل معها، وبعد أن ظهرت علامات استفهام عملاقة حول حقيقة هذه المحاولة رصدتها وسائل إعلام حرة ودولية، أحسّ أردوغان بضرورة إسدال ستار على هذه الشكوك، بل الحقائق، من خلال اتباع أساليب حربية وطرق خرق العقول والسيطرة عليها. لذلك رأينا أنه طالب المسؤولين ببذل جهود جبارة حتى يتمكنوا من إشراك أكبر عدد ممكن من الجماهير والزعماء السياسيين في هذا اللقاء.
كيف تشكّلت هذه الصورة
إذا أردنا إلقاء نظرة سريعة على عناصر الصورة التي حاول أردوغان أن يخلقها في الأذهان، نرى في الصفّ الأول أنصار حزب العدالة والتنمية الحاكم المسيّر من طرف وسائل الإعلام المبايعة لأردوغان رغبة في الحصول على “غنائمه” والبالغ عددها نحو 20 قناة تلفزيونية، ومن قبل تلك المضطرة إلى الخضوع له خشية من “غراماته”.. هذه القاعدة الشعبية التي يمكن أن نشبّهها – بواقع سيكولوجية الجماهير – بنفسية المشجعين الرياضيين الذين يستسلمون لعواطفهم ومشاعرهم بدلاً عن عقولهم وضمائرهم، فيجيزون لفريقهم كلّ أنواع التلاعب، بما فيها شراء الحكم، في سبيل الفوز وسحق الخصم.. أو بنفسيةِ مَن يشاهدون فيلماً من أفلام السرقة والذين يتقمّصون شخصية السارق، فيدافعون عنه وكأنهم يدافعون عن أنفسهم ويسوّغون كل أشكال الانتهاكات والعنف والظلم حتى نهاية الفيلم..
والأمر الآخر الذي يجب التنبه إليه هو أن أردوغان طالب السلطة الحاكمة التابعة له مباشرة بتسخير كل إمكانية الدولة من الأموال والسيارات والحافلات العامة لنقل الحشود من جميع أنحاء تركيا، ومن بعض الدول العربية أيضاً، إلى هذا اللقاء لدعم هذه الصورة المراد تشكيلها، تماماً كما حدث في اللقاءات الجماهيرية المقامة في إطار الاستعداد للانتخابات التشريعية.
في الصف الثاني كان المواطنون المؤيدون لأحزاب سياسية أخرى، وعلى رأسها حزب الحركة القومية الذي فرض أردوغان سيطرته وإرادته عليه تماماً بحيث منعه بأساليب شتى حتى من إقامة مؤتمر عام لاختيار زعيم أكثر فاعلية من زعيمه الحالي دولت بهشلي، إضافة إلى عدد محدود من أنصار حزب الشعب الجمهوري برئاسة كمال كليتشدار أوغلو الذي لم يبرز أي أداء يذكر خلال الفترة الماضية باعتباره لاعباً معارضاً رئيسياً أمام الحزب الحاكم.
وفي الصفّ الثالث جاءت الشخصية المعنوية للجيش التركي التي تمثلت في رئيس هيئة الأركان العامة خلوصي أكار، وذلك في أعقاب إقدام أردوغان على تجديد تصميم الجيش بالركوب على مطية المحاولة الانقلابية التي حفّها بالفخاخ حتى تبوء بالفشل لكي يتمكن من الحصول على ذريعة “شرعية” للإطاحة بعناصر الجيش “غير المرغوبة فيها” والإتيان بالكوادر الجديدة من أنصاره وحلفائه. وبذلك اكتملت عناصر الصورة التي أراد أردوغان تقديمها للعالم.
إعادة تصميم الزعماء والعسكريين بالجزرة والعصا
وإذا علمنا أن أردوغان يعيد تشكيل الحياة المدنية والسياسية والعسكرية من خلال فزاعة وجود “محاولات انقلابية” طيلة الفترة الثانية والثالثة من حكمه في تركيا.. ويلصق بجميع من اعتبرههم معارضين وصمة “الانقلابيين” و”أعداء الوطن” و”الموازيين”، لإقصائهم وشيطنتهم في نظر العامة الذين يكتفون بالظاهر دون خوض أعماق وأغوار الأحداث، من جانب، ورصّ صفوف مؤيديه من جانب آخر.. ويستطيع بهذه الطريقة تهميش معارضيه واستنفاد قوتهم وطاقتهم وتجريدهم من وزنهم وثقلهم.. من السهل أن نذهب إلى أن أردوغان أعاد ترتيب الزعماء السياسيين والعسكريين من خلال سياسة الجزرة أو العصا أيضاً.
بل ليس من المستبعد أن يكون أردوغان أو فريقه الخاص هو من أعدّ نصوص الخطابات التي ألقاها الزعماء السياسيون والعسكريون على الجماهير العريضة في هذا اللقاء، بعد أن مارس عليهم شتى الضغوط وبأساليب مختلفة.
صورة ناجحة أم فاشلة
حسناً، فهل نجح أردوغان من خلال هذه الصورة في إزالة السحب السوداء التي تحوم حول حقيقة “المحاولة الانقلابية” وتبرير “الانقلاب المضاد” الذي أطلقه خلال ليلة وضحاها، وفي ترك انطباع في الأذهان وكأن الداعية فتح الله كولن هو المسؤول عن هذه المحاولة الخائنة؟
يمكن لأردوغان أن يخدع الشعب التركي لمدة وجيزة في ظلّ تحويله البلد إلى “سجن مفتوح” لا يسمع فيه أي صوت سوى صوت الآلة الإعلامية “العملاقة” التي تخضع له ولا تحترم أي مبدأ إسلامي أو إنساني في اختلاق أكاذيب، بحيث تحولت إلى منصات لإطلاق الاتهامات والافتراءات وإجراء المحاكمات وإصدار أحكام البراءة أو الإعدام. وعلى الرغم من أن أردوغان يعلم جيّداً أن عمر هذه الأكاذيب والتلفيقات محدود جداً، حتى لا تتجاوز أحياناً عدةَ دقائق، إلا أنه ينطلق في ذلك من مقولة “العيار الذى لا يصيب فإنه يدوِّى ويفزع”، بمعنى أن أي طلق نارى إذا لم يصب هدفه فإنه يحدث دوياً ويروع الطرف المستهدف.
لكن الإعلام الدولي لا يزال يسخر من مزاعم أردوغان الخاصة بالأستاذ كولن ويراها تافهة بعد أن تحداه بتشكيل لجنة تحقيق دولية للتحقيق في هذه التهم، وبعد أن طالبته واشنطن مراراً وتكراراً بتزويدها بأدلة مادية لا مجرد ادعاءات، بل إن أردوغان هو من يتهرب من مثل هذه اللجنة وأدلة الإدانة الحقيقية. ورغبته في استعادة العلاقات مع روسيا ليست إلا سعيا منه للحصول على حليف يسانده في مزاعمه وخروجِه من العزلة الدولية المفروضة عليه، لكن هل ستؤمن روسيا بمزاعم أردوغان بعد أن بات رجلاً “غير موثوق فيه” بسبب كثرة تذبذباته السياسية في الداخل والخارج، هذا أمر مشكوك فيه.
الحقيقة تأبى إلا الظهور
أجل، في خضمّ حرب المعلومات الهائلة هذه التي يديرها أردوغان وفريقه الخاص قد يتعذر للبعض، بل يستحيل أحياناً، الوصولُ إلى الحقائق. إذ تمكّنوا من ابتداع أساليبَ وطرقٍ كفيلةٍ بتشويه الحقائق وقلبها، ليس عن طريق كتمانها وإخفائها عن الناس، بل عبر عرضها أمام أعينهم عرضاً مباشراً، لكن مع تغليفها بكمية كبيرة من المعلومات الصحيحة، وتوزيعِ المعلومات النوعية المراد إيصالها إلى المخاطبين فيها بمهارة فذّة. وإلا فالأكاذيب لا قوام ولا دوام لها لو لم تستند ولو إلى جزء من أجزاء الحقيقة. لكن قد تكبر الأكاذيب والخزعبلات بعد اختلاقها مع مرور الأيام والشهور والسنوات، مثل كرة الثلج التي تنحدر من أعلى الجبل صغيرةً ثم تكبر شيئاً فشيئاً، فتبدو وكأنها لن ينالها الفناء والزوال أبداً، لكنها إذا ما تعرّضت لأشعة شمس الحقيقة أو اصطدمت بجدارها الراسخ فإنها ستتحطّم وتتلاشى بلا شكّ، حيث إن طبيعة الحقيقة تأبى إلا الظهور بجلاء ولو كره الكارهون!
وإن دلت هذه الصورة “الكبيرة” في تجمعات “حراسة الديمقراطية” على شيء فإنها تدل على ضخامة الخوف بل الرعب الذي يسيطر على أردوغان.. الخوف والرعب من انجلاء الغبار والضباب وانكشاف الحقائق والأكاذيب.