حازم ناظم فاضل
(الزمان التركية)- كان الأستاذ فتح الله كولن، منذ ريعان شبابه يحمل بين جوانحه نفساً صادقة وقلباً حاراً يحترق على واقع أمته ويتألم لحال الشباب، ولديه طموح صادق ونفس أبية متطلعة للإصلاح والتغيير، فهو يحترق ليحيى الناس بالسعادة، وهذا ديدنه ليجعل الدعوة همَّه بالليل والنهار وفكره في النوم واليقظة وشغله بالسر والعلن، مرتبط بدعوته، حتى قال قولته المشهورة : (يا أماه.. أنا مربوط القدمين بدعوة الإيمان وخدمة الإسلام).
ويعرض الأستاذ فتح الله كولن نموذجين اثنين ممن ضحوا بآخرتهم من أجل إسعاد الآخرين:
الأول : سيدنا أبو بكر الصديق(رضي الله عنه) الذي قال: ” ليكبر جسدي بكبر جهنم لئلا يدخلها عبد من عباد الله”.
الثاني: بديع الزمان سعيد النورسي الذي قال: “لقد ضحيتُ حتى بآخرتي في سبيل تحقيق سلامة إيمان المجتمع، فليس في قلبي رغَبٌ في الجنة ولا رهَبٌ من جهنم، فليكن سعيد بل ألف سعيد قرباناً ليس في سبيل إيمان المجتمع التركي البالغ عشرون مليونا فقط بل في سبيل إيمان المجتمع الإسلامي البالغ مئات الملايين، ولئن ظل قرآننا دون جماعة تحمل رايته على سطح الأرض فلا أرغب حتى في الجنة، إذ ستكون هي أيضاً سجناً لي، وإن رأيت إيمان امتنا في خير وسلام فإنني أرضى أن اُحرق في لهيب جهنم؛ إذ بينما يحترق جسدي يرفل قلبي في سعادة وسرور”.( سيرة ذاتية لبديع الزمان النورسي ص457)
ويقرر الأستاذ كولن : “إن هذه الوظيفة السامية وظيفة منوطة تماماً بفدائيي المحبة والشفقة … وظيفة الذين يرغبون عن أذواق عيشهم ليتنعم الآخرون، إنها وظيفة من لا يتنعم حتى في الجنة إن لم يرشد أفراد مجتمعه إلى طريق الجنة”.
إن تحويل هذه الأقوال إلى أفعال عسير جداً، ولكنها جديرة لإفهام مدى الشفقة الواسعة سعة البحار الزاخرة.. لحالة جيشان الروح ولو آناً من الزمان.
كان قلب الأستاذ كولن يحترق وجسده يتوق للمشاركة في إنقاذ أناس غرقوا في حمأة الجهل والظلام، فدعا المحسنين من تجار وأغنياء إلى البذل والإنفاق وليذكروا دائماً قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(البقرة:261).
وألقى درسه التاريخي بمسجد السليمانية في إسطنبول، وذلك في شهر نوفمبر 1989، حيث شجع رجال الدعوة الأتراك ورجال الأعمال المساندين على نقل خدماتهم الإيمانية إلى جمهوريات آسيا الوسطى، والهجرة إلى دولها المختلفة، مثل كَازَاخِستَان، وأَذَربَيجَان، وتَتَارِستَان، ونحوها، خاصة وأنها دول كانت لها صلة بالدولة العثمانية من قبل، وفي زمن وجيز كانت المدارس والشركات التركية، قد تأسست وانتشرت في كثير من دول المنطقة، بل تأسست مدارس في أنحاء العالم علاوة على انتشار المدارس الخضراء في جميع بلاد الأناضول، فكانت فسائلَ حب ورسائل تبشير، احتضنها طلاب الأستاذ فتح الله، وموَّلها مُحِبُّوه من رجال الأعمال، الذين تنافسوا في البناء والشراء والكراء، حتى أشرفت عمارات المدارس على كل المدائن.
وكانت أنقرة وهي المدينة الصعبة، من أوائل المدن التي تأسست فيها مدارس فتح الله، بعد إزمير، وهناك إلى جانب غابات الجحيم، كانت شلالات السلام تتدفق على المدينة، ببحار الروح التي لا تنفد أبدًا.
وتحولت أنقرة من مدينة مفزعة مخيفة، إلى مدينة تصدر شعاعات الروح، وترسل حمائم الحب والسلام، وما هي إلا سنوات حتى تفتحت الورود في جميع بلاد الأناضول.(د.فريد الانصاري، عودة الفرسان،ص268)
لقد وضع الأستاذ فتح الله ” مخطَّطا للتربية والتعليم”، ثم “عمل على إقناع الناس به”، وبدأ بأقرب الناس إليه، وهو قد استلهم المخطَّط من سيرة المصطفى – عليه السلام – ، وقد آتى المخطَّط أكله، وصار ظاهرة عالمية، وانتشر خارج تركيا عبر العالم اليوم أكثر من 1200 مدرسة، من الطراز الرفيع، دع عنك المدارس وبيوت الطلبة والمشاريع التربوية داخل تركيا، من شرقها إلى غربها، من شمالها إلى جنوبها، وهكذا فقد انتشرت المدارس، وتعددت الجامعات.
حقا إنَّ البراديم كولن، ليس فكراً مجرداً حبيس النظر والنظريات، ولا ممارسةً فجة وليدة التهور والمحاولات؛ لكنه جمع بين التخطيط والتنفيذ، وقدرة على وضع مخطَّطات للمستقبل، باعتبار ظروف العصر، وبالحفاظ على الثوابت والمنطلقات، والليونة والمرونة في الوسائل والآليات.(د. محمد باباعمي، البراديم كولن،ص131)
وقد تميز التعليم في هذه المدارس الاهتمام بالآداب الاجتماعية حيث يقوم المعلم بتأديب الأطفال، وتربيتهم التربية الصالحة، وتعويدهم العادات الحسنة، وتعليمهم كيفية احترام الناس، ومراعاة الذوق والأدب طبقاً للعرف الجاري، ويأمرهم ببر الوالدين، والانقياد لأمرهما بالسمع والطاعة، والسلام عليهما، وتقبيل أياديهما عند الدخول إليهما، وتجنب الفحش من الكلام، وكذلك تعتمد البحث والاستنتاج والمقارنة في ضوء متغيرات الحياة الجديدة.
ومعلمي هذه المدارس من أكفأ المعلمين ومخرجات هذه المدارس خير دليل.. وهم الشباب الذين سيدخلون معترك الحياة بشخصية تتسم بالفضيلة وأيضاً بمستوى مرتفع من التدريب الأكاديمي كلٌّ في مهنته. وبعض هؤلاء الشباب سيبلغون مستويات استثنائية من النجاح والحكمة وسيُطلَب منهم العمل كمستشارين، وبذلك يكونون هم جيل “الأفراد المثاليين” الذين يبشرون بواقع اجتماعي جديد يُصلِح حالة الخصام المصطَنَع بين العلم والدين، ويجمع ما بين الشرق والغرب ويقدِّم منهجَ حياةٍ جديدًا للعالم. (د. جيل كارول، محاورات حضارية ، ص 123)
لقد بقيت طرائق التعليم وأساليبه ومعلوماته في القرون السابقة تدور في هوامش عقل المؤلف أو الشيخ، ونظراته الفقهية ومذهبه، أي أن الحركة التعليمية كل مدارها عقل آخر لا يجوز أن يُخرج عنه، لذلك فهي في أحسن الأحوال تنتج نسخاً مكررة مقلدة يمكن أن تغني عنها النسخ الأصلية.. وغالباً ما يسود العملية التعليمية في معاهد التعليم الشرعي الاستغراق في الفروع والمسائل الجزئية، بعيداً عن تكوين المنهج وتشكيل النظرة الكلية وبناء الملكة الفقهية القادرة على النظر، على الرغم من أن بعض أسماء هذه المعاهد: (كليات)، لكنها تفتقر إلى النظرة الكلية والرؤية المنهجية.
إضافة إلى أن بعض الدارسين في هذه المعاهد يعاني من غربة المكان، فأقل ما يمكن أن يقال: إنه لم يؤهل لعصره، ولم يسلم مفاتيح التعامل مع الواقع من الناحية الشرعية.. فقد يحمل الفقه المكتوب ويحفظ متونه، لكنه لا يفقه شيئًا عن الواقع، فهو خارج المجتمع الذي يعيش فيه.. وجهله لمشكلاته وقضاياه ومداخله وثقافته قد يجعل مداخلته ساذجة وسطحية في كثير من الأحيان، ويجعل خطابه (صيحة في واد).. حتى العلوم الاجتماعية والإنسانية التي تشكل الرؤية المطلوبة ودليل العمل للوصول إلى الأمة وتوصيل رسالة الإسلام لها، قد لا تشعر بعض المعاهد بأهميتها! ذلك أن أمر استيعابها وتدريسها قد يحتاج إلى جهود، وترافقه احتمالات الخطأ، وهذه مشكلات لا تحتاجها عمليات التعليم القائمة على الشحن من كتب السابقين والتفريغ على رؤوس المعاصرين.
لقد فتح الأستاذ كولن طريق التعليم المستمر للناس من جميع طبقات المجتمع فالتعليم المستمر ليست بالضرورة في فصل دراسي، وليست من خلال برامج تدريبية؛ إذ من الممكن أن تتم حتى من خلال السفر والسياحة.
ويؤكد ابن خلدون في مقدمته (ص84) أن الطريقة الصحيحة في التعليم هي التي تهتم بالفهم والوعي والمناقشة لا الحفظ الأعمى عن ظهر قلب، ويشير إلى أن الملكة العلمية والحذق في العلوم إنما تحصل بالمحاورة والمناظرة والمفاوضة في مواضيع العلم، ويعيب طريقة الحفظ عن ظهر قلب ويعتبرها مسؤولة عن تكوين أفراد ضيقي الأفق عقيمي التفكير لا يفقهون شيئاً ذي بال في العلم.
فالمهندس عندما ينتقل في بلدان العالم المتقدم المتطور، وينظر حوله، ويبحث فيما يراه، ويتبصر في آيات الله في الكون والحياة، سوف يتعلم ويستفيد، وتزداد الاستفادة إذا تابع ذلك بالقراءة المتصلة في مجال تخصصه، فالقراءة وسيلة مهمة جداً في قضية التعليم المستمر.
لقد قام الأستاذ كولن بحركة عالمية للتعليم بشحنه للهمَّة وتقويته للعزيمة ودفعه للذاتيَّة، وتعدى التركيز على مجموعة محددة من القيم أو المعايير الثقافية، فالمدارس التي تنتشر في جميع أنحاء العالم، تدرس للأطفال والشباب جميع المجالات والتخصصات الدراسية، من العلوم والرياضيات والتاريخ واللغة والأدب والدراسات الاجتماعية أو الثقافية والفنون والموسيقى وغيرها.
وأنه لأمر طبيعي ومحتوم، أن يمتد هذه الحركة العالمية للتعليم لتشمل العالم برمته، لأن هذه المدارس تتبنى نفس الاتجاه التربوي الأساسي الذي تتبناه المدارس في تركيا، ولكن بدرجة أكبر من التفاعل مع الثقافة والقيم الوطنية لتلك البلدان.
حتى إن كولن نفسه لديه اتصال بسيط للغاية -إن وجد- مع هذه المدارس، بل ولا يَعرف بدقة عددَ هذه المدارس أو حتى أسماءها، فقد حفَّز مثالُه الرائد كتربوي -وكذلك أفكاره عن التعليم والمجتمع العالمي والتقدم الإنساني وغير ذلك- جيلاً كاملاً لإنشاء المدارس في جميع أنحاء تركيا ووسط آسيا وأوروبا وإفريقيا وغيرها من المناطق لمحاربة المشاكل الناجمة عن الجهل والفقر والشقاق. (د. جيل كارول، محاورات حضارية ، ص 117)
واليوم تنكشف الهجمة العدائية ضد التعليم بشكل مكثف وواضح في دعايات جوفاء مفادها أن التعليم يفرّخ الإرهاب بمفاهيمه المختلة المخلوطة الجائرة، التي لا تزن الأمور بميزان عدل.
إن حقيقة الهجمة على التعليم هي مسخ للهوية وإضعاف لوحدة الأمة، وأكثرها تأثيراً في مستقبلها، وتكريس لتبعيتها لأعدائها، فهي قضية خطيرة وأهدافه عظيمة الضرر كبيرة الأثر، خاصة وأنها تتعلق بالأجيال المستقبلية؛ فإننا نعلم أن التعليم يضم اليوم سائر الأبناء والصغار في المجتمعات كلها؛ فإن هذه الأجيال إذا مسخت في فكرها وروحها وفي تاريخها وهويتها ؛ فإن ذلك يجعلها لقمة سائغة لأعدائها.
فالقدح في الجهات التعليمية والتربوية لا يقوم به إلا من تدرب إنسانها على مزيد من الأنانية، والمزيد من التنافس، والغرق في الشهوات، أن مثل هؤلاء يعتمدون في منهجهم على شن الهجوم على رموز الخدمة واتهامهم بالإرهاب والتطرف وبأنهم يوظفون المؤسسات التعليمية لتحقيق مكاسب سياسية.
فالهجوم الشديد على المؤسسات التعليمية والأنشطة التربوية والأشرطة والكتب النافعة، هو سماتهم الفكرية العامّة التي ظهرت من خلال كتاباتهم المعلنة، وهو لبّ مشروعهم الذين يدعون إليه.
أما المصيبة الكبرى فتكمن فيما تصدره بعض الهيئات الحكومية في بلاد المسلمين، وتحمل هجوماً شرساً على المؤسسات التعليمية للخدمة، فما أقبح أن تكون يد الهجوم على هذه المؤسسات -التي تخرج أناساً فضلاء- من بلاد المسلمين ومن وسائل إعلام ليست غربية وأجنبية، وملاحقة كل من يتمسك بهذه المؤسسات واعتبارها مؤسسات يحض على العنف والانتقام، لإشاعة ثقافة الجهل بين المجتمع.
ولقد تعرضت مؤسسات الخدمة في قضية التعليم إلى هجوم سافر، وإلى مسخ وتشويه عظيم، حتى أن بعض كبريات الجامعات قد تعرضت إلى هذا المسخ فحرفت المناهج وطورت والحقيقة إنها دمرت.
إنّ الهجوم على المؤسسات التعليمية للخدمة هو في الحقيقة -من حيث يدري المهاجمون أو لا يدرون- هو انقضاض على المؤسسات التعليمية جميعاً في البلاد.
وتبريراً لهذا الهجوم قامت مجموعة من علماء الأمة بتوقيع بيان يدمغون فيه الهجوم على رجالات الخدمة ومؤسساتها التعليمية ما يندى لها الجبين خزياً ويقشعر منها قلب كل مؤمن. فقاتل الله الحزبية التي تعمي وتصم وتجعل الحسن قبيحاً والقبيح حسناً.