بقلم.حازم ناظم فاضل
بدأ رائد حوار الأديان والثقافات الاستاذ فتح الله كولن منذ اواسط التسعينيات من القرن الماضي بعقد صلات مع الأقليات من أهل الأديان الأخرى، مثل الكاثوليك والبروتستانت والأرثودوكس، وطائفة الأرمن وغيرهم. وامتدت علاقته إلى رؤساء الأحزاب السياسية من اليمين إلى اليسار، من خلال حوارات، كان لها أثر كبير في تخفيف الضغط على الدعوة الإسلامية بتركيا، وتيسير أمر الخدمات الإيمانية المنتشرة في كل مكان.
ويؤمن الاستاذ فتح الله كولن بأن “الحوار ليس ترفاً بل ضرورة.. وبأنه واجب من واجبات المسلمين لجعل عالمنا أكثر أمناً وسلاماً “.
يقول الله تعالى :
{اليَومَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُم حِلٌّ لَهُم} (المائدة:5) .
وهنا نطلع على صفحة من صفحات السماحة الإسلامية؛ في التعامل مع غير المسلمين ، ممن يعيشون في المجتمع الإسلامي « في دار الإسلام »، أو تربطهم به روابط الذمة والعهد ، من أهل الكتاب.
إن الإسلام لا يكتفي بأن يترك لهم حريتهم الدينية؛ ثم يعتزلهم ، فيصبحوا في المجتمع الإسلامي مجفوين معزولين – أو منبوذين – إنما يشملهم بجو من المشاركة الاجتماعية ، والمودة ، والمجاملة والخلطة . فيجعل طعامهم حلاً للمسلمين وطعام المسلمين حلاً لهم كذلك. ليتم التزاور والتضايف والمؤاكلة والمشاربة ، وليظل المجتمع كله في ظل المودة والسماحة.
وهكذا يبدو أن الإسلام هو المنهج الوحيد الذي يسمح بقيام مجتمع عالمي، لا عزلة فيه بين المسلمين وأصحاب الديانات الكتابية؛ ولا حواجز بين أصحاب العقائد المختلفة ، التي تظلها راية المجتمع الإسلامي. فيما يختص بالعِشرة والسلوك.
ويقول البروفيسور أكبر أحمد (كرسي بن خلدون للدراسات الإسلامية في الجامعة الامريكية بواشنطن): ” إن كولن يساعدنا في الإجابة على أسئلة الحياة والقيم ومكونات المجتمع الإسلامي العادل، من خلال المصالحة بين الاختلافات الظاهرة بين العلوم الوضعية والدين، فهو يمدنا في كتاباته ومحاضراته بنور هادٍ لمن يريدون حلولاً لمعضلات هذا العصر، إذ يوضح لنا أن عصر تحقيق الأشياء بالقوة الوحشية فقط قد ولى، وأنه بالإقناع والحجة تستطيع جعل الآخرين يقبلون أساليبك. فمن خلال الفهم والإحترام المتبادل فقط تستطيع الأمم أن تتعايش بسلام. وفي عالمنا -الذي يصغر يوما بعد يوم- يجب أن نتعلم هذا الدرس، فاحترام العادات والتقاليد والممارسات الدينية أصبح أمراً إلزامياً، ومن هنا علينا أن نؤسس بكل الطرق عملية من الفهم المتبادل والحوار بين الأديان. وفي عالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول -المليء “بالصراع” الحقيقي والملحوظ- يواصل ملايين المتطوعين في مشروع كولن إمدادنا بالإرشاد الروحي والعملي نحو التسامح والتآلف مع الآخرين. وفي عالم يتحدث فيه الكثيرون عن الصراع والمواجهات، يعطينا كولن “صوتًا جديدًا” ينادي كل الديانات والمعتقدات إلى “المائدة الربانية”، ومن خلال تعاليمه يمكننا أن ننشئ عالماً يكون الحوار فيه هو مسار تحركنا الأول ويتراجع فيه الصِدام ليكون الوسيلة الأخيرة “.(د. جيل كارول، محاورات حضارية)
ففي عام 1994 تأسس «وقف الكتّاب والصحفيين» في اسطنبول تحت شعار «نحو سلام عالمي». والأستاذ «فتح الله كولن» رئيس الشرف منذ تأسيس الوقف. وصار له بذلك فضل عظيم في الجمع بين المختلف، والتقريب بين المتباعد، وتكوين جو من التعايش السلمي بين الأطياف المتناحرة على المستوى السياسي والأيديولوجي والطائفي. فَضلٌ لم يزل الاستاذ«فتح الله» يُذكر به على الصعيد الوطني وفي الأوساط الفكرية والسياسية خاصة.
وتصدرت شخصية الاستاذ«فتح الله» واجهات الإعلام المختلفة، من خلال الحورات واللقاءات، سواء على الصعيد المحلي بتركيا، أو على الصعيد الدولي والأوروبي خاصة.
وتتلخص أعمال الحوار التي يقوم بها الوقف في ثلاثة مجالات:
الأول: الحوار البيني:
ويمثله منتدى «أبانت».
وقد وفق هذا المنتدى في جمع المثقفين والمفكرين الذين ينتسبون إلى تيارات مختلفة ومتخالفة في تركيا حول طاولة واحدة يناقشون القضايا الجوهرية التي تهم تركيا والعالم. وإذا علمنا أن هؤلاء الذين ينتسبون إلى هذه التيارات المتباينة كانوا يتقاتلون فيما بينهم قبل التسعينات، ولا يمكن أن يجالس أحدهم الآخر ويبادله الرأي أدركنا أهمية هذا الإنجاز.
ففي ظل منتديات «أبانت» وفي مؤتمراتها السنوية التي تجاوزت العشرة يجتمع مفكرون من أطياف مختلفة ويتبادلون الرأي في جو من التسامح والحرية والأخوة. الأمر الذي انعكس إيجابياً على أوساط الشعب والمثقفين.
إلى جانب هذا، بدأ الحاضرون في المآدب من مختلف الاتجاهات والانتماءات بتأسيس صداقات جديدة. ظهر –وللمرة الأولى- أن الفروق والاتجاهات المختلفة تملك جاذبية خاصة وسحراً متميزاً، لأنه سرعان ما أدرك جميع الأطراف كيف أن الفروق والاختلافات ليست سوى وجه من أوجه الغنى والثراء. فأصبح ثمة تلاؤم وانسجام تام بين معتنقي مختلف الأديان. كان هذا أول حوار حار بين هؤلاء، لأنهم لم يروا منذ سنوات عديدة -بل ربما منذ عدة عصور- أرضيةً مشتركة للحوار مثل هذه الأرضية. لذا فقد أيّدوا هذه الحوارات بحرارة. ولعلهم لم يتوقعوا في البداية أن ينشأ جو كمثل هذا الجو الحار، ولم يتوقعوا أيضاً تحول هذه الحوارات التي جرت على موائد الطعام إلى حوارات بين الأديان والحضارات.
لقد مهدت الحياة العصرية للإنسان سبلاً وتسهيلات كثيرة، ولكنها في الوقت نفسه زادت من مشاكله. ولعل من أهم هذه المشاكل هي التحريضات السياسية والإمبريالية التي تثير الخلافات بين الأديان والحضارات. وكانت العلاقات الدولية تتأثر سلبياً بهذه التحريضات. وأصبح السلام العالمي -الذي لم يتحقق أبداً على الرغم من كثرة الحديث حوله- في خطر مستمر. لذا بدا أن الحوار بين الحضارات والأديان هو الأمل الوحيد للإنسانية. (أنس أركنة، فتح الله كولن جذوره الفكرية واستشراقاته الحضارية).
الثاني: حوار الثقافات:
ويمثله منتدى «حوار أوراسيا».
وهو منتدى يدور حول قضايا أوراسيا (روسيا، وبيلوروسيا، وكازاخستان، وقرغيزستان، وطاجيكستان، وأوزبكستان)، ويشارك فيه أبناء هذه البلاد؛ يُسهمون في نزع فتيل الخلاف بين أبناء الأرض الواحدة، والتاريخ الواحد، والحضارة الواحدة؛ لصالح نموهم ورقيهم، ولأجل وضع أكثر سلاماً وأمناً وتقبلاً للآخر.
الثالث: حوار الأديان:
ويمثله منتدى «حوار الأديان».
تعود أهمية هذا المنتدى إلى عقده مؤتمرات وندوات وأنشطة بين رجال الأديان السماوية الثلاثة حول قضايا الإنسانية عامة. إذ يؤمن المنتدى بأن الدين، أي دين كان، هو مصدر السعادة للإنسان وليس مصدر شقاء، إلا أنه استغل طوال فترات من التاريخ من قبل أصحاب المصالح. واليوم يستطيع الدين بما يملكه من قوة كبيرة أن يعمل من أجل السلام العالمي ومصلحة الإنسانية.
وجدير بالذكر بأن الوقف اليوم يعدّ من أهم المؤسسات المدنية المؤثرة في المجتمع التركي، حيث يشارك في مؤتمراته وأنشطته معظم رموز المجتمع التركي سياسيين ومفكرين وفنانين وصحفيين.. وهو كذلك من المؤسسات النادرة التي استطاعت أن تجمع كل ألوان الطيف.
ولعل ذلك يعود إلى شخصية الأستاذ «فتح الله» والمنهج الذي رسمه لمحبيه في التحاور ومد جسور التواصل مع الآخر.
والجدير بالذكر هو أن هناك منتديات اخرى تعنى بالحوار منها:
(1)منتدى الفنِّ والثقافة: يشارك فيه أكبر المثقفين والفنانين، والشخصيات الشهيرة، من أمثال لاعبي كرة القدم، والمغنين… أي كلُّ من له شعبية في مجال الإعلام، ويناقشون قضايا التسامح، والحوار، وغرس قيم الحبِّ، والصداقة، والمعاشرة الحسنة، ونبذ سلوك العنف والإقصاء والتصادم… الذي يؤدي بالبلد إلى المهالك لا محالة.
(2)منتدى المرأة: للحوار بين النساء، من مختلف المشارب والمضارب، حول اهتماماتهنَّ، بعيداً عن الادعاءات، والحسابات الضيقة، وبذلك يمنعن توظيف المرأة كشعارات ذات حساسية مرهفة وبالغة، من قبِل المغرضين والفتانين.
(3)منتدى البحث العلمي: وهو منتدى للبحث العلمي، والطروحات النظرية والفكرية والعلمية العميقة، وهنا تتمُّ مناقشتها بدون خلفيات إيديولوجية أو حسابات لا أخلاقية.
حوار تاريخي
وعندما التقى الاستاذ «فتح الله» ببابا الفاتيكان السابق يوحنا بولس في حوار تاريخي مثمر، كفّروه… واتهموه بالدعوة إلى التنصير، كما اتهموه من قبل بمصالحة العلمانية، والركون إلى الذين ظلموا. أما لقاؤه العلني مع البابا فقد كان مفتاح خير لخدماته الإيمانية، في كثير من دول أوروبا، وأمريكا.
فهذا اللقاء الذي تم للمرة الأولى بعد عصور عدة في جو بسيط ودافئ ودون ضجة، بين شخصيتين دينيتين مختلفتين كان ميلاداً للقاء وجهاً لوجه. لم يكن الاستاذ فتح الله كولن – طبعاً- ممثلاً رسمياً لا للعالم الإسلامي ولا لتركيا، إلا أن الجو الذي صنعه والتأثير الذي أحدثه في العالم الكاثوليكي أضفى على هذا اللقاء طابعاً تاريخياً عند العديد من الأوساط.
لقد آمن بأن العالم أصبح بعد تقدم وسائل الاتصالات قرية عالمية. لذا فان أي حركة قائمة على الخصومة والعداء لن تؤدي إلى أي نتيجة إيجابية، ويجب الانفتاح على العالم بأسره، وإبلاغ العالم كله بان الإسلام ليس قائماً على الإرهاب ـ كما يصوره أعداؤه ـ وان هناك مجالات واسعة للتعاون بين الإسلام وبين الأديان الأخرى.
يقول علامة المغرب الدكتور فريد الانصاري : وفتح الله رجل مظلوم مرتين، ظلمه الطغاة من جهة، وظلمه إخوانه العاملون للإسلام في التنظيمات الأخرى. لكن أشد الظلم على نفسه الجريحة، كان هو ظلم إخوانه!
ولم تزل مواجعه تنطق بحكمة الشاعر العربي القديم:
وَظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً علَى النَّفْسِ مِنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ! (عودة الفرسان)
في خارج البلاد
استغلّ الأستاذ «فتح الله» مرضه بشرايين القلب للسفر إلى أمريكا قصد العلاج فخرج من البلد في شهر مارس/ آذار 1997، وبقي هناك لمدة سبعة أشهر، ثم عاد إلى وطنه.
ومن ثم قرر الأستاذ «فتح الله» الرحيل إلى منفاه بأمريكا مرة أخرى، فخرج من البلد تحت ذريعة السفر للعلاج، في 21 من شهر مارس/آذار من سنة 1999، لكنه هذه المرة خرج ولم يعد..! .
يقول الاستاذ عثمان شمشك :
«نعم .. انه في هذا البيت.. غريب العصر.. وفي هذه الغرفة .. هذا البيت وراء المحيطات، ولكن غرفته؛ واللهِ في أرضروم .. بالله في أدرنة .. تالله في إزمير .. هذا البيت في امريكا ولكن تلك الغرفة في تركيا ».( M .Fethullah Gülen, İkindi Yağmurları, S.15)
وارتقت علاقات الاستاذ «فتح الله» لتمتد إلى المؤسسات العلمية، والجامعات الأمريكية، فصارت له لقاءات وحوارات مع الباحثين الأكاديميين، والأساتذة الجامعيين هناك.
ولم يزل الأستاذ «فتح الله» بمنفاه الصغير -الذي لا يغادره إلا إلى المستشفى لفحص صمامة القلب- يلتقي الوفود من الأكاديميين الكبار، وبعض رجال الدين المسيحيين، الذين أعجبوا بشخصيته، ذات العمق الفكري والسمو الروحي العظيم.
في البدء لم يكن مُقام الأستاذ «فتح الله» بأمريكا بالأمر اليسير، كلا! بل كان الرجل شخصاً غير مرغوب فيه، ولم تكن السلطات تقبل عذر حاجته المستمرة للعلاج؛ لتسلمه تصريحاً رسمياً بالإقامة، فكانت تماطله وتمانعه، وكان هو يضغط بوسائله البسيطة يومئذ، فيجددون له الإقامة لفترة وجيزة، حتى يضطر لمغادرة البلاد.
لكن الداعية المحنك لم يلبث أن بدأ يلتقي بمن جاء إلى الولايات المتحدة من الأتراك للتجارة أو الدراسة، وكذا محبيه من رجال الأعمال المهاجرين. ثم صار يحثّهم على فتح المدارس في كل مكان من ربوع أمريكا، وإلى عقد الصلات مع المؤسسات العلمية، والأكاديمية، ورجال الثقافة والفكر، وكذا رجال الدين، وسائر شخصيات المجتمع المدني المعتبرة في أمريكا؛ لكسر حاجز العزلة عن الجالية المسلمة من الأتراك، وعن الفكر الدعوي الحضاري المسالم، الذي يتبناه (الأستاذ الداعية محمد فتح الله كولن). وعُقدت هناك ندوات لدراسة فكر الرجل، وبيان منهاجه في الفهم للدين والحوار مع الآخر، شارك فيها باحثون أتراك وأكاديميون أمريكيون.
لذا نرى أن الاستاذ فتح الله كولن لم يكتف بفتح المؤسسات التعليمية والمدارس، بل نراه يتحدث عن أهم مشروع اجتماعي وثقافي للمجتمعات الإنسانية المعاصرة، وهو إنشاء حوار بين الحضارات. وهذا مشروع كبير جداً، لأنه يتوجه إلى تعريف جديد ونظرة جديدة لجميع المفاهيم الفكرية والفلسفية والسياسية والدينية، التي تركت بصماتها في القرن الحادي والعشرين. ولو اكتفى الاستاذ فتح الله كولن بالتأكيد على الهوية الإسلامية الفقهية فقط، لما كانت هناك حاجة لمثل هذا المشروع الكبير الشامل. وأهمية هذا الأمر تأتي من كونه يجدد ناحية الهوية الإسلامية ويعرِّفها من جديد. ويجدد الحركة الإسلامية ويعطيها مفهوماً جديداً. فهو يجدد الهوية الإسلامية الاجتماعية والثقافية على أسس من العمق الروحي، ويخرج بها خارج حدود جغرافية البلدان الإسلامية. أي إن الإسلام كدين وكثقافة وحضارة، بدأ يخرج بحركة فتح الله كولن خارج الحدود التي عاش فيها منذ عصور. (أنس أركنة، فتح الله كولن جذوره الفكرية واستشراقاته الحضارية).