بقلم: أحمد فريد- كاتب صحفي مقيم في أوربا
ما يلفت انتباهي في تصريحات القيادة التركية في السنوات الثلاث الأخيرة لدى كل فشل سياسي أو اقتصادي أو عسكري هو التملص من المسؤولية وإلقاء اللوم على جهات أخرى خارجية وداخلية. كأن الحكومة ليست في موقع المسؤولية وكأن تلك النتائج لم تتمخض عن قرارات أو سياسيات اتخذتها بنفسها.
لم تكن الإدارة التركية بقيادة السيد أردوغان هكذا في العشر سنوات الأولى من حكمها، ما الذي أصابها؟ لقد كانت تراجع نفسها بقوة، وتفتح صدرها لجميع الانتقادات، وتسعى إلى الاستفادة من جميع أطياف المجتمع والخبراء، كانت رمزا للحرية والديمقراطية التي يحلم بها كل عربي ومسلم.
تغير الخطاب
لكن في الآونة الأخيرة وقعت الواقعة، وتغير الوضع بالكامل. هناك عنف، هناك كراهية، هناك تصعيد، هناك مظالم، هناك انتهاكات ترتكب تحت أنظار العالم. بقي اسم “العدالة والتنمية”، وضاع المسمَّى بطريقة دراماتيكية. وبات الخطاب الرسمي ثابتا لا يتغير عقب كل سياسة فاشلة أو موقف محرج، وهو أن هناك أعداء في الداخل والخارج ليسوا سعداء بنجاحات تركيا، ومن ثم يتآمرون على إسقاطها وإسقاط المشروع النموذجي الباهر. وهناك من يصفّقون ويهللون لهذا الخطاب ومن يروّجون له بصورة مقرفة.
هذا النوع من الخطاب عرفناه في الأنظمة الشيوعية والفاشية. من يقرأ رواية ١٩٨٤ ورواية مزرعة الحيوانات لجورج اورويل يتعرف على هذا النمط من الخطاب ونموذج الإدارة التي تنتج هذا الخطاب بصورة صارخة. المجرم دائما في الخارج، أما من يشغل كرسي الحكم فهو بريء من كل ذنب براءة الذئب من دم يوسف، بل هو البطل المغوار والعبقري الذي لا يشق له غبار على الدوام.
أين هذا الموقف من السياسة الراشدة بما أن أردوغان يدعي أنه يمثل الخلافة الراشدة؟ أين هذا الموقف من السياسة القائمة على القيم الإسلامية الحكيمة، تلك القيم التي يتباهى جماعة العدالة والتنمية وعلى رأسهم أردوغان بتمثيلها على أحسن صورة. أين ذهبت قيم الفضيلة والإنصاف؟ أين نجدها؟ سؤال ينبغي أن يناقش بجدية، أم ينبغي أن ننحّيه جانبا تجنبا للفتنة (!) كما يقول بعض المشايخ.
مع ذلك الجواب جاهز على ألسنة الجميع: “لا أخلاق في السياسة، فلا تبحث عن الفضيلة”.
إذن قولوا لنا ذلك من البداية، ولا تخدعوا الناس بشعارات الفضيلة وقيم الإسلام؟
أليس هذا ظلما للإسلام نفسه والفضيلة ذاتها؟ أليس هذا تشويها للإسلام نفسه؟
عندما يفقد الناس ثقتهم بالإسلام بسبب جرائم من خَدَعوا الناس بشعارات إسلامية، من سيكون المسؤول وقتها؟
بالتأكيد ليسوا هم كذلك.. بل الجماعة! أيّ جماعة؟ طبعا جماعة “الخدمة”. أليست هي سبب كل خراب يقع في البلد؟ العجيب أنه لم يتركوا جريمة حصلت في تركيا منذ ثلاثين عاما إلا وحمّلوها على جماعة فتح الله كولن. الإنصاف نصف الدين. أين هذا الموقف من قيم الإسلام التي ندافع عنها ونتبناها؟ أحسب أنهم لو علموا أنها ستنطلي على الناس لقالوا “جماعة كولن هي المسؤولة رقم واحد من قتل قابيل لهابيل”.
كمثقف عربي يتابع الحراك الإسلامي في عالمنا الإسلامي يشدني المشهد التركي ويستفزني لدراسته، فهو مختبر مثالي لمراقبة سلوكيات الإسلاميين في الحكم واختبارهم مع السلطة والمال والشهرة والديمقراطية، والتعددية إلخ..
أزمة تقترب
الاقتصاد في تركيا ينذر بأيام صعبة للغاية في القريب العاجل. مؤشرات مؤسسات الاقتصاد المحترمة في العالم لا تبشر بخير. الأرقام تشير إلى أزمة اقتصادية كارثية ستنزل على تركيا. لكن من الآن بدأ المسؤولون في القيادة التركية، أردوغان ومن معه يلعبون لعبة التملص من المسؤولية. إنهم يهيئون المجتمع لهذه الكارثة، دون إهمال المجرم الذي سيحمّلونه فاتورة هذه الكارثة. فالمجرم كالمعتاد الداعية فتح الله كولن وجماعة الخدمة.
منذ اللحظة بدأوا يوجهون أصابع الاتهام إلى جماعة الخدمة، فهي المسؤولة الوحيدة من أي زلزال اقتصادي يضرب تركيا، لأنها حسب زعمهم تتدخل في الحراك الاقتصادي في البلد من خلال خطط ومؤامرات شيطانية (!)، بل هي المسؤولة عن أي زلزال حقيقي يحصل في تركيا على حد قول رئيس بلديتهم في أنقرة.
أصدقكم القول، بت لا أصدق كل ما يقال حتى لو كان القائل إسلاميا أو يحمل مشروعا إسلاميا أو حتى لو كان شيخا. أوازن كل شيء بالعقل والمعطيات السليمة والتجربة الواقعية، وأختبر صحة الأقوال من خلال الأفعال، ألم نشبع كلاما؟
أين المصداقية؟
أبحث عن المصداقية، فمن لا تتوفر لديه معايير المصداقية لا أصدقه مهما كان. ومعياري في المصداقية الثبات والاستقامة على المبادئ التي انطلق منها، ودعا إليها، وطلب دعم الجماهير من أجلها. أنظر إلى سلوكه طيلة السنوات الماضية، فإن وجدته يناقض هذه المبادئ أو يتنازل عنها أو يخونها، لا أصدقه أيا كان.
بعد التقلبات السياسية العديدة التي شهدناها في الآونة الأخيرة من جانب السيد أردوغان وحكومته، والممارسات القمعية التي نراها في تركيا منذ ثلاثة أعوام، والتي ما كنا نتوقع أن نراها حتى في أحلامنا، يصعب علينا أن نصدق كل ما يقال، يصعب علينا أن نثق بهم ثقة عمياء.
وفيما يتعلق بتحميل جماعة الخدمة مسؤولية الكارثة الاقتصادية القادمة، من حقنا، كمتابعين من الخارج، أن نوجه من باب الأمانة والإنصاف مجموعة من الأسئلة للحكومة التركية وعلى رأسها الرئيس أردوغان ونطالب بإجابات مقنعة لها. ولكن دعونا نطرح هذه الأسئلة في مقال لاحق.