قصة قصيرة بقلم: زياد السراج
على موقِفِ الأوتوبيسِ يلتقي أناسٌ منْ مختَـلِفِ الأَعْمارِ والكُلُّ يتَطَلَّعونَ شوقًا لـمَجيءِ الأوتوبيسِ. ففي لحظَةٍ تَنْسِجُ امرأةٌ أوَّلَ قُطْبَةٍ في بِناءِ حِوارٍ حينَ تَتَوَجَّهُ بسؤالِها إلى امرأةٍ أُخْرى بِجانِبِها عـن موعِدِ قُدومِ الأوتوبيسِ أو مُغادَرَته، فما يلْبَث حِوارُهُما أنْ يتشَعَّبَ ويمتَدَّ أثَـرُهُ إلى باقي الواقِفيـنَ فتَتَخَلَّلُهُ ابتساماتٌ أو قلبُ الشَّفَتيْــنِ امْتِعاضًا، بينما يقِـفُ شـابٌ يدُيـمُ النَّظَرَ إلى طالِبَتَيْنِ فـي ربيعِ عُمُرِهِما تتبـادَلانِ حديثًا حولَ الدِّراسَةِ وربَّما غيرِ الدِّراسَةِ حينَ تَميلُ إحداهُما على رأسِ الأُخْرى وتَهْمِسُ لها بكلماتٍ تدْفَعُ بالدِّماءِ إلى وجْنَتَيْهِما وتَرْسُمُ البسْمَةَ على ثَغْرَيْهِما. وتُرْوى حِكاياتٌ ويَنْشَأُ تعارُفٌ ومواقفٌ آنِيّـَةٌ ثـمَّ يُطِـلُّ الأوتوبيسُ فيصْعَدُ إليه بعضُ مَـنْ كانـوا فـي انتِظارِهِ ويبقـى الآخَرونَ ليتابِــعوا سَيْرَ الحِوار، ولِتعودَ الحياةُ إلى المَوْقِفِ منْ جديدٍ..
الشَّمْـسُ فـي رأْدِ الضُّحى.. وقَفْـتُ فـي مكانٍ ظليـلٍ تحتَ شجرةٍ باسقَةِ الأغصانِ ممتَــدَّةِ الفروعِ أسْتَرْوِحُ عَليـلَ النَّسائِـمِ بانتظـارِ أنْ يأتِـيَ الأوتوبيسُ الـذي أستَقِلُّـهُ فـي ذَهابـي إلـى السُّـوقِ لقضاءِ بعــضِ الأعمالِ حيـثُ يَسْتَغْرِقُ زمَـنُ الوُصول إلـى السوقِ ساعـةً أو بَعْضَـها فأَسْتَكينُ إلى الاسْتِرْخاءِ في المَقعَدِ أسْتَمْتِعُ خِلالَها بِمُشاهَدَةِ المَناظِــرِ الطَّبيعِيَّةِ الخَلاَّبَةِ على جانبي الطَّريقِ فـلا يَتَطِرَّقُ المَلَـلُ إلـى نفســي خِلالَ ذلكَ الوقتِ.
رَنَّ هاتِفي المحمول.. رفعْتُهُ إلى أُذُني.. استَمَعْتُ إلى صديقـي بضْعَ دقائِـقَ ثُـمَّ انْتَهَتِ المكالَمَةُ وعُـدْتُ اشْرَئِبُّ بجسمـي إلـى نهايـةِ الطريقِ اسْتَطْلِعُ قُدومَ الأوتوبيسِ، فلمَّا لمْ أجِـدْ لهُ أثَرًا اسْتَدَرْتُ إلـى الوَراءِ أبْتَغي الجلوسَ على حافَّة سورِ الحديقةِ وإذْ واجَهَني وجْهُ فتىً فـي الخامِسةَ أو السادسةَ عشْرةَ مـن عُمُرِهِ.. عينـاهُ الواسِعَتانِ تألَّقـَـــتـا سَعادَةً وفَرَحًا وانْطَلَقَتا للتَّرحيبِ بي.. ابتِسامَتُهُ الكبيرةُ تَرْجَمَتْ تَحِيَّتَهُ لي.. بادَلْتُهُ ابْتِسامَتَهُ بابتسامتي الهاشَّةِ بلِقائِهِ ثـمَّ قُلْتُ لـهُ بالتركيَّة التي تعلَّمْتُها في الـمَعْهَدِ: (أظُنُكَ عبْدَ اللطيفِ، تمام؟) لَمَعَتْ عيْناهُ حُبُورًا، وَحاوَلَ أنْ يُجيبـَني بفَكِّـهِ السفليِّ الـمُتَدَلّـِي إلى اليسارِ فخَرَجَـتْ كلِماتُـهُ غيْـرَ مفْهـومَـةٍ لكِنِّي فهِمـْتُ مـنْ نَظـراتِـهِ أنّـَهُ يريد أن يقول لي (نعم) فَأسْعَفْتْه أُمُّــهُ الواقِـفَـةُ إلـى جانِبـِهِ: (تمـامْ، هــذا ابني عبـدُ اللطيف أَصْغَرُ أوْلادي الخمسةَ).
وقبْـلَ أنْ أسْتَغْـرِقَ فـي حديثي أرى لِزامًا عليَّ التَّعْريفَ بالحِكايَةِ مِـنْ أوَّلِهـا وهِـي: أنني كان لِقائي الأوَّلُ بعبـدِ اللَّطيفِ.. الفتى الباسِمِ الـمُعاقِ جَسَدِيَّا قبْلَ شهرٍ مِنَ الزَّمَنِ عندَ موقِفِ الأوتوبيسِ نفسِهِ ولكِنْ في موعِدٍ مخْتَلِفٍ.. ابْتَسَمَ لي أوَّلَ مرَّةٍ عِنْدَما أدَمْتُ النَّظَرَ إليْهِ ثُمَّ مَـدَّ يـدَهُ لـمُصافَحَتي.. فمَدَدْتُ يـدي لـمُصَافَحَتِـهِ فيمـا كانَتْ يـدي الأُخْرى تلْتَقِطُ بعضَ القِطَعِ النَّقْديةِ من جيْبي وتودِعُها في يدِهِ وتَضْغَطُ عليــها بِرِفْقٍ.. فَرِحَ بالنُّقودِ.. امْتَـدَّتْ ابتِسامَتُهُ ونَفَحَتْنـي بِكَلِمَـةِ شُكْـرٍ ظَلَّـتْ قابِعَـةً في ذاكِرَتي حتى لِقائِي الثَّاني.. هـذا الَّـذي أُحَدِّثُكُمْ عنْهُ الآنَ.. مدَدْتُ يدي إلى جيْبي وأخْرَجْتُ إحْدى قِطْعَتَيْنِ مِنَ التِّينِ المـُجَفَّفِ بعْـدَ أنْ كنْتُ الْتَهَمْتُ القِطْعَةَ الأُولى، فَقَدَّمْتُها لـهُ فتَنَاوَلَها وأَخَذَ يُقَلِّبُها بيـنَ يَدَيْهِ ثُـمَّ دفَعَهَا في فَمِهِ وأَخَـذَ يلُوكُها بِلَـذَّةٍ حتَّى انْتَهَتْ فيما كانَ لُعَابُــهُ يسيلُ على جانِبَيْ فَمِهِ.. تناوَلْتُ مِـنْ جيبي مِنْديلًا مَسَحْتُ بِـهِ فَمَـهُ.. لكِنَّ عيْنَيْهِ الفيَّاضَتَينِ بالفَرَحِ وابْتِسامَتُهُ العَريضَةُ لَمْ تُفَارِقْهُ.. خَطَرَ لَـهُ أنْ يُقَبِّلَني فَعَبَّرَ عنْ ذلكَ بأنِ اقْترَبَ بِرأْسِهِ منِّي فقَدَّمْتُ لهُ خَدي حيـثُ ضَغَطَ عليهِ بِفَمِهِ، فَقَبَّلْتُهُ بدَوْري بِضْعَ قبُلاتٍ، وعاجَلْتُهُ خِفْيَـةً بِقِطْعـةٍ منَ النُّقودِ في يدِهِ فَشَدَّ عليْها بِأصابِعِهِ رُبَّما تَعْبيرًا عنِ امْتِنَانِهِ.
قُلْتُ لهُ بالتُّرْكِيَّةِ البَسيطَةِ التي تَعَلَّمْتُها في المَعْهَدِ: (أنا أُحِبُّـكَ يا عَبْدَ اللَّطيفَ، فَهَلْ أنتَ تُحِبُّني؟) ابْتَسَمَ لي وحَاوَلَ أنْ يَقولَ (أوَتْ) أيْ نَعَمْ بالتُّرْكِيَّةِ فَلَمْ يُسْعِفْهُ وَضْعُهُ.. غامَتْ عَيْنا أُمِّهِ بِالدَّمْعِ وهيَ تَرى ابنَها ينْضَحُ سعَـادَةً وسُرورًا فَشَكَـرَتْ لي صَنيعي. وإنَّنا لَفـي غَمْرَةِ سَعادَتِنـا إذْ أقْبَـلَ الأوتوبيسُ فَأفْسَحْـتُ المَجـالَ لأُمِّـهِ كَـي تَصْعَـدَ قَبْلي احْتِـرامـًا لهـا.. لكِــنَّ عبدَاللطيـفِ.. ذلِـكَ الفَتى الـمُعـاقَ أدْرَكَ مَـدى احتِرامي لأُمِّه وَحُبِّي لهُ في أعْمـاقِهِ.. فَلَمْ يَقْبَـلِ الصُّعُودَ قَبْـلي فَنَزَلْـتُ عِنْـدَ رغْبَتِـهِ ثُمَّ ساعَدْتُـهُ علـى الصُّعودِ بَعْـدي حَيْـثُ اتَّخَذْتُ لـي مَقْعَدًا مُزْدَوِجًا سَمَحَ لي بِمُتابَعَةِ الحَديثِ معَهُ حينَ جَلَسَ إلى جانِبِ أُمِّـهِ فــي الـمَقْعَدِ أَمامي.
الْتَفَـتَ إلى الـوراءِ حيثُ أجْلِـسُ وابْتِسامَتُـهُ تُجَمِّـلُ ثَغْـــرَهُ وعَيْنــاهُ الـمُثْبَّتَتانِ عَلَيَّ لم تُفارِقاني.. راحَ يَتَأمَّلُني طَويلًا ولَمْ يُشِحْ بِوجْهِهِ عنِّي قِيْدَ أُنْمُلَةٍ وأَنا أُبادِلُهُ الابْتِسـامَ وأُحـاوِلُ أنْ أتَحَـدَّثَ إلَيْـهِ بِلُغتـي التُّرْكِيَّـةَ الرَّكيكَةِ فكـانَ يَضْحَـكُ أحْيانـًا ويَنْظُـرُ إلـى أُمِّـهِ التي تُشارِكُنا الابْتِسـامَ وتُحَدِّثُني مُسْتَخْدِمَةً أبْسَطَ الكلماتِ قائِلَةً: (لَقَدْ أَحَبَّكَ كَثيرًا مُنْذُ أنْ رآكَ أوَّلَ مَـرَّةٍ حتَّى أنَّـهُ راحَ يُحَـدِّثُ إخْـوَتَهُ فـي البيتِ عنْـكَ وعـنْ سُرورِهِ بِلِقائِكَ) فَيُنْصِتُ عبدُ اللطيفِ إلى حديثِ أُمِّـهِ مُسْتوعِبًا كَلِماتِها وعيْنـاهُ وتَقاسيمُهُ الحُلْوةُ ما زالَتْ مُثْبَتَةً على وجْهي.
تَساءَلْتُ: ماذا تُراهُ يَـدورُ في خَلَـدِهِ..أتُراهُ يَـرى فـي وَجْهي شَبَهًا بيني وبينَ أَبيهِ الحَيِّ أوِ الْمُتوفَّى..أمْ تُراهُ وَجَدَ فيَّ صَديقًا يُبادِلُهُ الـوُدَّ والصَّداقَةَ فاستكانَ إلَيَّ.. أمْ تُراهُ اسْتاءَ مِنْ نَظَرِ النَّــاسِ إليـهِ حيــنَ كانوا يُشيحونَ بِوُجوهِهِمْ عَنْهُ ازْدِراءً، فارْتاحَ لـي عندما قبَّــلْتُهُ ؟!
كنْتُ أُقَلِّبُ الأُمورَ على وجْهِها وأنا أُديمُ النَّظَرَ إلى وَجْهِهِ لا أَريمُ وابْتسامَتي تُحاكي سَعادَتَهُ، لماذا هَفا قلبي لَـهُ..لماذا شَعَرْتُ بالحَنانِ والإشْفاقِ نَحْـوهُ حتى تَمَنَّيْتُ مِـنْ أعْماقي أَنْ أُلازِمَهُ كُلَّ يومٍ. أسْئِلَـةٌ لَـمْ أَجِـدْ لَها جَوابـًا.. فَلَمْ أشْعُرْ إلاّ وعينـايَ تَسْبَحانِ بِالـدَّمْعِ فَتَنَاولْتُ مِنْديلي وجَفَّـفْتُهُما.. غـارَتِ الابْتِسامَةُ مِنْ على وَجْهِهِ.. زَوَى بيـْـنَ حاجِبَيْهِ..كَسا مُحَيَّاهُ الاسْتِغْرابُ والدَّهْشَةُ فَراحَ يَتأمَّلُني على وَضْعـي هذا حَتَّى ابْتَسَمْتُ لَـهُ وقُلْتُ: (لا شيْءَ هُناكَ.. فَقَـطْ أنـا سَعيدٌ جِــدًَّا أن أَراكَ دائِمًا.. فَهَـلْ يَسُرُّكَ أنْ نَكـونَ صَديقَيْنِ.. تُحِبُّني وأُحِبُّكَ.. تَمامْ ؟).. تَهلَّلَــتْ أساريرُهُ مـن جـديـدٍ وعادتِ البَسْمِـةُ إليهِ.. فَهَــزَّ رأْسَهُ إيجابًا.
وحينَ وصَلْتُ إلى الـمَحَطَّةِ التي أُريدُها نَهَضْتُ مـِنْ مَكـاني فَمِـلْتُ على جَبينِـهِ مُقبِّلًا فَأَحاطَ عُنُقي بِيَدِهِ وشَدَّني إليْهِ ليُقَبِّلَنـي بِـدَوْرِهِ فَقَدَّمْتُ لهُ خَدِّي.. ثُـمَّ وَدَّعْتُـهُ وَنَزَلْـتُ مِـنَ الأوتوبيسِ وعيْنايَ تُلاحِقانِ ذلِـكَ الصَّديقَ الصَّغيرَ عبْـدَ اللطيفِ الـذي أَحْبَبـْتُهُ، حتَّى غابَ عَنْ ناظِري.
غازي عنتاب: حزيران 2016