حازم ناظم فاضل
أنقرة (الزمان التركية) قبل الولوج في قصر الخدمة الإيمانية الإسلامية للتعرف على ملامح ساكنيه وخدمه، سنلقي ضوءا على قسم من القصور المشهورة عبر التاريخ والتي ظلت صداها تتردد قرونا طويلة.
قصور مزخرفة بأنواع الألوان، وبدائع التصاوير والأصباغ، مما تنفق فيها الأموال بحساب وبغير حساب ولا شيء منها من كد الملك أو الأمير، وإنما هى من أموال الرعية وكسب الحفاة العراة الذين لا يجدون ما به يستترون ويشتهون . فيعود الناس مجرد كوافير في قصور هؤلاء يعملون على التزيين والتحسين. وقد ينشأ المرء وضيعا في كوخ حقير ثم يرتقي سلم العلياء ويسكن القصور العظيمة ولا يلتفت إلى الطبقات الأخرى التي كانت تعاني أمر العيش وأبشعه مذاقا .. فيصلح أحوالها، بل يندفع في سبيل مآربه الدنيوية، فيصبح عاملا أخر في زيادة الفساد والاضطراب، ويتمتع بمباهج الحياة في ظل هذه القصور الفارهة الناعمة. فيستغلظ عنده ” أنا” ويحسب بأنه هو الذي زينها ووشاها، ورفع سمكها وسواها.
ونذكر عددا من القصور المشهورة على سبيل المثال لا الحصر، مثل : قصر غمدان في اليمن، قصر الخورنق في العراق، قصر الحمراء في الأندلس، قصر عابدين في مصر، وقصر دولمة باغجه، ، قصر يلدز، وقصر طوب قابي في تركيا.
ولا تزال آثار تلك القصور ماثلة إلى اليوم، وبعضها قائمة على قدم وساق.
فقصر غمدان : قصر كان موقعه في مدينة صنعاء باليمن، بناه الملك الحميري الشرح يحضب في القرن الأول الميلادي يعتقد بأنه كان من عجائب الهندسة المعمارية ومن أقدم القصور الضخمة في العالم حيث كانت عدد طوابق القصر عشرين طابقا بين الطابق والآخر عشرة أذرع وبنى بالبوفير والجرانيت والمرمر، وكان القصر يستخدم لإقامة الملك وإدارة البلاد بنفس الوقت.
وقصر الخورنق: هو قصر كان جنوب العراق، بناه النعمان بن امرؤ القيس في القرن الرابع الميلادي، فكان القصر بناء عظيما ولزم لبنائه 60 عاما.
وقصر الحمراء : هو قصر أثري وحصن انتهى بناؤه في عصر بني الأحمر حكام غرناطة المسلمين في الأندلس بعد سقوط دولة الموحدين. وهو من أهم المعالم السياحية بأسبانيا . تعود بداية تشييده إلى القرن السابع الهجري، ، وترجع بعض أجزائه إلى القرن الثامن الهجري.
وقصر عابدين: أشهر القصور المصرية وشهد الكثير من الأحداث منذ العهد الملكي وحتى نشأة مصر الحديثة. ويعد من أهم وأشهر القصور التي شيدت خلال حكم أسرة محمد علي باشا لمصر حيث كان مقرا للحكم من عام 1872 حتى عام 1952.
وقصر دولمة باغجه: بني القصر بين السنوات 1843 و 1856 بطلب السلطان عبد المجيد وهو السلطان العثماني ال(31)، بكلفة 5 ملايين باون ذهبي عثماني أي ما يعادل 35 طنا من الذهب. واستخدمت 14 طنا من الذهب ضمن بناء القصر لتذهيب سقوف القصر.
قصر يلدز : يتكون من عدد كبير من الأجنحة والدور، يقع في أسطنبول، بنى القصر في نهاية القرن ال(19) وبداية القرن العشرين، وكان مقرا للسلطان العثماني عبد الحميد الثاني والحكومة العثمانية حتى 1909م.
ولقد خاطب مفكر القرن العشرين الأستاذ النورسي السلطان عبدالحميد الثاني بلسان الجريدة، قائلا :
“فاجعل قصر يلدز المكروه لدى الناس محبوبا إليهم، وذلك بتنويره بملائكة الرحمة، العلماء العاملين، بدلا من الزبانية السابقين. وحوله إلى جامعة إسلامية تحيا فيها العلوم الإسلامية. وارفع من مستوى المشيخة الإسلامية والخلافة إلى ما يليق بهما. وداو – بقدراتك وثرواتك – ضعف الدين الذي أصيبت به الأمة في قلبها والجهل الذي أصيبت به في رأسها. وبذلك ترفعون قصر يلدز إلى أعلى مقام، إلى الثريا.. لتظل الأسرة العثمانية متربعة على برج الخلافة ناشرة العدالة إلى الأرجاء. وحيث أنك إمام الأمة، اقتصد في الحاجيات الضرورية لتقتدي بك الأمة المسكينة التي عودت على الإسراف”. ( سيرة بديع الزمان ص78)
أما أمير الشعراء أحمد شوقي فقد بدأ قصيدته (سل يلدزا ذات القصور) كما يبتديء قصائد الرثاء والتأبين، فهو يسأل يلدز عن نيراتها الثواقب، ويعلن عجزها عن الإجابة المقنعة، فقد أناخ عليها الدهر كما أناخ – في البعيد الغابر – على قصور النعمان بالحيرة، فأصبح الخورنق والسدير أطلالا دارسة، وروح الشاعر في مطلع قصيدته هامسة كئيبة تعلن عن ذاتها إذ تقول:
سل يلدزا ذات القصور … هل جاءها نبأ البدور
لو تستطيع إجابة … لبكتك بالدمع الغزير
أخفى عليها ما أنا … خ على الخورنق والسدير
ذهب الجميع فلا القصور … ترى ولا أهل القصور
فلك يدور سعوده … ونحوسه بيد المدير!!
قصر طوب قابي: من أهم أماكن إسطنبول التاريخية. أنشأ القصر السلطان محمد الفاتح عام 1478، كان القصر المركز الأساسي الذي حكمت منه البلاد على مدى 400 عام وسكنه السلاطين العثمانيون.
يقول الأستاذ فتح الله كولن عن هذا القصر:
“ولأخذ العبرة من التاريخ؛ فقصر “طوب قابي” حمل أمة إلى سيادة عالمية، فكان هذا المكان انعكاسا لعالَمنا الروحي على الخارج؛ فهناك تتجسد الفكرة المثالية التي حملها كل من “محمد الفاتح” و”بايزيد الثاني” و”ياووز سليم” و”سليمان القانوني”؛ فقد سلكوا سبيلَهم، وسافروا إلى ديار قاصية بعيدة لإعلاء كلمة الله، وفعلوا ما يجب فعلُه من أجل تحقيق التوازن في العالم؛ فأطاحوا بالظالمين، وجعلوا المظلومين يتنفسون الصعداء، وعندما رجعوا إلى ديارهم واصلوا القيام بأعمالهم وواجباتهم في قصر “طوب قابي” ذلك القصر المتواضع البسيط، أما القصور الفاخرة المبهرجة مثل “دولمه باغجه” و”يِلدز” فإنها أطفأَت نجمنا برغم كل وميضها وبريقها، فهذه وإن أظْهرت لنا الدنيا وكأنها جنة، إلا أنها أنستنا الله والجنة الحقيقية “(كولن، عقبات في الطريق ص68)
فالدنيا دار ابتلاء وامتحان، فمن الناس من يعيش عيش الكفاف، ومنهم من يعيش في القصور المحاطة بالأسوار العالية، تضم جدرانها العدد الوفير من الخدم والأتباع والأنصار، وهؤلاء قوم ينعمون بالأموال الطائلة والعمارات الشاهقة وأسهم الشركات الرابحة والسيارات الفخمة.
وكم من إنسان يعيش في قصور فخمة ولكنه لم يعرف الحرية الحقيقية ولم يذق طعمها في أعماق نفسه.(كولن ، الموازين)
وثمة قصة معبرة تحكى فيما يتعلق بهذا الموضوع ؛ إذ حكي أن زوجةَ أحد عباد الله الصالحين اشتكت إلى زوجها صلَف العيش وضيقه، وطلبت إليه أن يدعو الله كي يخلصهم من هذا الحال؛ فلم يكسر الرجل الصالح بخاطر زوجه وراح يدعو الله؛ فاستجاب الله دعاءه؛ فما برحا مكانهما إلا وقد ظهرت إلى جوارهما لبنة من الذهب؛ فقال الرجل الصالح لزوجه: “ها هو ذا! إنها إحدى لبنات قصرنا في الآخرة”، فقالت المرأة المباركة نادمة على أن طلبت من زوجها ما طلبت: “رغم أنَنا محتاجون حقا؛ لكنه وكيلا تضيع في هذه الدنيا الفانية جائزة واحدة سنحصل عليها بإذن الله في الآخرة عالم البقاء، وكيلا تنقص لبنة من لبنات قصرنا في الجنة؛ أسألك أن تدعو الله تعالى ثانية – كما دعوته أولا- أن يرد هذه اللبنة إلى مكانها”؛ فدعا الرجل الصالح ربه ثانية نزولا منه على رغبة زوجته الصادقة هذه، فاختفت تلك اللبنة فجأةً عن الأنظار، وعادت من حيث أَتت. (كولن ، عقبات في الطريق ، ص154)
ولما كانت الدنيا دار امتحان فطبيعي أننا سنرى أشياء مغرية ومفتنة، ولو أن الله ما أودع فينا رغبة وشهوة لما أصبح لأحد منا ميزة عن الآخر .ولما برزت رجال يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة . وقيامهم بشتى أنواع الظلم الشائعة الذائعة من أكل أموال الناس بالباطل، وذلك عن طريق الجحود والمماطلة، أو الغش والمخادعة، أو عن طريق الرشوة، أو الربا، أو عن طريق التدليس والتلبيس، كمن يأخذ أرض غيره أو بعضها بأدنى الحيل وبمستندات واهية، أو بينات مختلقة مزورة. أو المساس بقصر الخدمة الإيمانية الإسلامية ليجتثوه من أصله ويقتلعوه من أساسه؛ فأنى لهم ذلك، فهو قصر كان أساسه من أول يوم بنائه على التقوى. ورجاله :
يبنون دنيا جديدة ..
للتسامح .. للوئام.
للسعادة .. للسلام
للفرح والحب
للرحمة والعدل
لمـستقبلنا.. للطفل
لدنيا جديدة..
بلا حسد .. ولا غل
ولا دمع .. ولا خصام .. ولا حرب..
مستقبل من نور ..
هادئة كل الأرجاء .. تنهمر عليها الأضواء
تدب كالساعة كاتساق الأنغام
تذوب وترحل الليالي الظلماء
براقة كل الأنحاء .. كصفحة السماء
ما أحلاها من وجوه .. بلون الغربة
علمت أن هناكَ مثل هؤلاء الأطهار الغرباء
سائحون يدا بيد.. يجوبون بالشكران
ثم اكتشفوا الدرب.. ساروا في الدرب
يبنون دنيا جديدة.
ويصف رائد هذا القصر الإيماني المنيف وحاديهم قسما من ملامح هؤلاء وصفاتهم، فيقول :
* هؤلاء الأبطال مستعدون في سبيل عقيدتهم المقدسة لاقتحام خطوط النار، والكفاح ضد أكبر البلايا والنضال ضد أشرس الأعداء، لكي يكملوا ما بدأوا من الأعمال ويحققوا الوعود التي قطعوها لأمتهم. وهم في أثناء قطعهم لطريقهم الصعب المملوء بالمهالك لا يلتفتون بتوجه الناس ولا بالمخاطر التي تنتظرهم في كل منعطف من منعطفات طريقهم. لا يعيرون بالا بالتصفيق ولا يلقون سمعا للنقد، بل يواصلون طريقهم لا يلوون على شيء حتى يصلوا إلى أهدافهم السامية.
*هؤلاء.. تراهم صلبين ضد أهوائهم تمام الصلابة، ولينين ومتسامحين مع أخطاء أصدقائهم وهفواتهم.. لا ينتقدون أحدا.. ولا يعبأون بأي نقد.. يعملون بصمت ودون أي مظاهر كاذبة.. يراعون عدم إثارة الغيرة لا عند الأصدقاء ولا عند الأعداء مراعاة شديدة.
*هؤلاء.. يمتزجون في المجتمع الذي يعيشون فيه لكي ينيروا طريقه ويرفعوه إلى المستوى الإنساني اللائق… يشاطرونه آلامه وأفراحه، ويبحثون على الدوام عن السبل الكفيلة بإفراغ إلهام أرواحهم في صدره، حتى تذهب أنفسهم حسرات لدى البحث عنها.
*هؤلاء.. يدركون تماما ماهية نضالهم ويصبرون عليه، يبحثون بكل عزم عن منابع ماء الحياة. وعقيدتهم من القوة والثبات بحيث لا يغيرون منهجهم ولا ينحرفون عن طريقهم تحت أي نوع من أنواع إغراءات الدنيا وزينتها وزخرفها.
*إن أهم جانب لدى هؤلاء وأهم مصدر من مصادر قوتهم هو أنهم لا يبتغون ولا ينتظرون أي أجر مادي أو معنوي. ولن تجد في خططهم وحساباتهم أنهم يعيرون أي أهمية للأمور التي يسعى طلاب الدنيا للحصول عليها كالأموال والأرباح والثروة والرفاهية .. هذه الأمور لا تشكل عندهم أي قيمة، ولا يقبلون أن تشكل عندهم أي مقياس.
*إن قلب كل منهم قد تعرض لتحول جذري من كل ما هو زائل وفان إلى الباقي أبدا، لذا فلا يمكن أبدا أن يتغير إلى شيء آخر، ولا أن يصعد إلى مستوى أعلى، لأنه يعلم يقينا أنه لا يوجد مستوى أعلى من دعواه ومن فكرته.. فهو قد نذر نفسه لإرشاد الناس إلى الحق تعالى وتحبيبه إليهم، لتحقيق الحصول على محبته تعالى، وربط حياته لإحياء نفوس الآخرين، ونأى بنفسه عن أي هدف عرضي وزائل، أي قلص هدفه رافعا من قيمته، ومخلصا له من التشتت وموحدا قبلته.
*هؤلاء .. يحاولون أن يبتعدوا عن المصالح الشخصية والمنافع ويهربوا منها مثلما يهربون من الأفاعي والعقارب. وهم يتصرفون هكذا كتحصيل حاصل لعمق غناهم النفسي الذين ينأ بهم عن كل نوع من أنواع الدعاية والضجيج وحب المظاهر ويملكون من القوة ما يعصمهم عن هذه السفاسف. كما أن تصرفاتهم وسلوكهم النزيه والجميل الذي يعكس صدى أرواحهم يكون له من قوة الجاذبية والتأثير ما يسخر به كل من يعقل ما حوله فيجعله يسير وراءهم مسرعا.
*هؤلاء.. لا يدور بخلد أي واحد منهم أن يتكلم عن نفسه أو يتوسل إلى الدعاية لرفع شأنه ولا يظهر أي رغبة أو شهوة في نشر صيته. وعوضا عن هذا نراه يحاول بكل جهده ليبلغ مستوى حياة القلب والروح، رابطا كل فعالياته هذه بالإخلاص ولا يبتغي غير وجه الله تعالى. وبتعبير أخر يهدف كل واحد منهم إلى رضاء الله وحده ويسعى إلى هذا الهدف السامي بكل حوله وقوته، ولا يلوث أي منهم عزمه الصارم – القريب من عزم الأنبياء – بالأغراض الدنيوية ولا بمحاولة الحصول على الصيت والشهرة بين الناس أو نيل إعجابهم.
*لم يتعثر هؤلاء لطبع أنفسهم ولم يستسلموا أمام العراقيل. الحب الوحيد الذي لم يبهت في أفئدتهم كان حب الله ومحاولة كسب رضاه، والوصول إلى الحق تعالى. لذا شدوا رحالهم إلى أبعد زوايا العالم. ساروا في هذا الطريق… فافتخر بهم الطريق، وسعد بهم الربانيون، وشقى بهم الشياطين… ساروا دون خيل ولا عربة… لا سلاح لهم ولا ذخيرة… الإيمان العميق الذي كان يعمر قلوبهم ويتفجر فيها كالحمم كان منبع قوتهم وقدرتهم… وهدفهم المرسوم في آفاقهم سعادة الإنسانية ورضوان الله تعالى… حظوظهم كحظوظ الحواريين والصحابة… وصلوا في عفتهم وطهرهم إلى عفة الملائكة الأطهار، وسجلوا ذكريات ملاحم لا تنسى ولا تمحى. وأسالوا في كل مكان وصلوا إليه نورا دفاقا من الأزل.. أشعلوا المواقد في كل جانب في لهيبها وجمرتها ودخانها الأمن والطمأنينة.. تهاوى سحر الظلم والظلام.. طار نوم خفافيش الإلحاد.. تعالت شكايات واحتجاجات الظلام كله.. تصاعدت موجات الكذب والإفتراء والزور.. وارتفع ضجيج الفكر الفج والتعصب.. توجهت السهام نحو الفكر الحر، ووضعت المصائد المميتة للإيمان. ولكن جميع هذه المحاولات اليائسة كانت سدى، فقد انتشر النور في كل الأرجاء، ولف النور الآتي من الأزل بأكملها. لقد أصبح العهد عهد الأرواح النيرة والزمان زمانهم.. صحيح كان هناك بعض آثار من الغبار ومن الدخان، وكان الأفق مضببا، ولكن كان سحر الظلام والفكر الفج قد زال وانقضى.
*هؤلاء.. جيل المستقبل وأَبناءه أيا كان تقييم الناس إياهم، فالمستقبل المنور حامل بأسرارهم. كل فرد من هؤلاء السعداء حواري الإحياء والإنقاذ ضمن طاقته.. في أيديهم باقات من ورود الصداقة… وعلى شفاههم أناشيد الإخوة والصداقة… أقوالهم الفاصلة – كالفيصل المهند- تغذى من شلال القرآن.. أحاديثهم ذات أبعاد أخروية. كلماتهم وأحاديثهم كانت تبيد الظلام وتزيله دون أن تجرح أحدا.. ومع أنها كانت تطبع صوت خرير ماء الكوثر في الآذان، دون أن تترك أثر حسرة عند أحد.
*إن شلالا من الحب بدأ يهدر فعلا بين الناس في كل مكان وصل إليه هؤلاء المهاجرون في سبيل غايتهم. ففي كل مكان، وفي كل موضع يهب نسيم من الطمأنينة والسكينة يشعر به الجميع. والأكثر من هذا فقد تكونت في كل ناحية وجانب ما نطلق عليه وصف جزر السلام والمحبة على أسس مستقرة ومتينة. من يدري فقد يتحقق في المستقبل القريب بفضل هؤلاء المخلصين الناذرين أنفسهم لفكر البعث والإحياء تأسيس الصلح بين العقل والقلب مرة أخرى. فيكون كل من الوجدان والمنطق أحدهما بعدا مختلفا للآخر، وتوضع نهاية للنزاع بين ما هو مادي وما هو ميتافيزيقي، حيث ينسحب كل منهما لساحته ويجري كل شيء في طبيعته وماهيته، ويجد إمكانية التعبير عن نفسه وعن صور جماله بلسانه. ويتم اكتشاف التداخل الموجود بين الأوامر التشريعية والأسس التكوينية من جديد، ويشعر الناس بالندم على ما جرى بينهم من خصام وعداء لا موجب له، وسيسود جو من السكينة والهدوء – الذي لم يتحقق تماما حتى الآن – في الشارع وفي السوق وفي المدرسة وفي البيت، وتهب نسائمه على الجميع. لن ينتهك عرض، ولن يداس على شرف، بل سيسود الاحترام القلوب، فلا يطمع إنسان في مال إنسان آخر، ولا ينظر نظرة خيانة إلى شرف آخر… سيكون الأقوياء عادلين… وسيجد الضعفاء والعاجزون فرصة في حياة كريمة… لن يعتقل أحد لمجرد الظن… لن يتعرض مسكن أحد ولا محل عمله لهجوم… لن تراق دم أي برئ… لن يبكي أي مظلوم… سيبجل الجميع الله تعالى وسيحب الناس… حينذاك فقط ستكون هذه الدنيا التي هى معبر للجنة فردوسا لا يمل العيش فيه.
*لا يهم بمن نشبه أصحاب هذه الأرواح النيرة، فقد قامت الأنوار التي نشروها بتحويل الصحاري القاحلة إلى جنات عدن، وتحول كثير من أصحاب الأرواح المظلمة كالفحم إلى أرواح شفافة ومضيئة كالألماس، والجبلات والأمزجة والطبائع الخشنة والغليظة والهابطة ارتفعت وسمت. لذا فقد كان من الطبيعي أن يتحدث الجميع عنهم الآن، وينتظروا ويترقبوا تحقق الإخوة والمسامحة التي وعدوا بها وسعوا من أجلها. ولا يوجد من يعاديهم ويثيروا الأقاويل والشبهات حولهم سوى الذين لا يميزون بين الظلام والنور من الذين قضوا كل حياتهم في سجن الجسد ومطالبه… الخفافيش منزعجة منهم… الذئاب والوحوش تكشر لهم عن أنيابها… الذين فقدوا رشدهم وصوابهم في ضيق وانزعاج منهم. وأنا أرى – من جهة – هذا أمرا طبيعيا، وأقول: {كل يعمل على شاكلته} (الإسراء: 84). ومهما كان من أمر قيام بعضهم بإطفاء الشموع هنا أو هناك، فهم ينيرون القلوب الظامئة إلى النور أينما حلوا أو ارتحلوا، وينبهون الفطر السليمة والطاهرة إلى ما وراء أستار الأشياء والحوادث، ويسقون السجايا السليمة القيم الإنسانية.
*لا يفكر هؤلاء في راحة أنفسهم. فألسنتهم رطبة بكلمة “الله” و “الفضيلة” على شفاههم على الدوام. يهرعون إلى القيم الإنسانية. ويفتحون صدورهم للجميع متبعين سنة الأنبياء في هذا، ويعيشون على الدوام من أجل الآخرين. وبسبب مدى إخلاصهم يمد الله تعالى يد العون والمساعدة لرجال القلب والمشاعر هؤلاء أجنحة كأجنحة الملائكة في وقت عصيب شديد لا تنفع فيه الأيدي والأرجل، فيشرفهم في الدنيا بتوفيق مفاجئ ونجاح غير متوقع، وفي الآخرة يسعدهم بظلال الوصال والقرب، ويجعلهم ضمن الربانيين ويغدق عليهم النعم الخاصة بضيوفه المميزين، ثم يتوج هذه كلها برضوانه سبحانه وتعالى.
*هؤلاء ..لو لم يبق فوق سطح هذه الأرض إنسان حقيقي، ولو غطت السحب والدخان الآفاق من جهاتها الأربعة، ولو غرقت الطرق والأزقة بسيول من الأوحال، ولو حاصرت الأشواك كل مكان، واستولت أشجار الزقوم على أماكن الورود والزهور، ولو استولت الغربان ونعيقها على الميادين والساحات، وطغت على تغريد البلابل، وتزاحمت الزنابير حول أقداح العسل، وسادت وحشة الغابات المرعبة طرقنا وأزقتنا، ولم تبق للعلم حرمة ولا توقير، وطردت المعرفة من كل الديار، وأصبحت الإنسانية ضحية للغدر وقلة الوفاء، وزالت الصداقات وانقلب الأصدقاء إلى أعداء… لو حدث كل هذا لثبت هؤلاء في مكانهم بكل رسوخ دون أن تزل أقدامهم وكل منهم يقول: “يجوز أن ينقلب كل شيء رأسا على عقب، ولكن المهم أنني واقف على قدمي بثبات… قد تتحول كل ناحية إلى صحراء جرداء، ولكن المهم أنني أملك نبعا من الدموع… لقد وهبني الله زوجا من الأقدام لكي أمشي، وقبضتين لكي أعمل، وأملك إيمانا هو رأسمالي وقلبا حصينا لا يخترقه العدو.. هناك فرص تكفي لإعمار العوالم تنتظر استثمارها، وأنا أستطيع – استنادا إلى عون من ربي – أن أقلب العالم بهذه الملكات إلى جنان وارفة الظلال… وما دامت كل بذرة تنبت سنابل عدة فلم اليأس من المستقبل، ولم هذا الغم والهم؟!. ولا سيما إن كان الله تعالى يعد بمضاعفة كل خير آلاف الأضعاف في العالم الآخر..” يقولون هذا وهم يسيرون في طريقهم نحو أهدافهم على الرغم من الطرق الخربة والجسور المتهدمة. يسيرون وهم ينشرون الحياة لحواليهم كالنهر المتدفق، ويطفئون حرقة وغليل وظمأ كل واحد.. وهم كالنار تضطرم للحفاظ على الآخرين من البرد والقر، وكالشمعة تحترق وتذوب بعد أن يسيل النور إلى آلاف العيون.. أحيانا يترصدون في الكمائن كأرباب الليل ويفتحون صدورهم لاستقبال نسائم الرحمة.
*لا يحب هؤلاء أبدا البقاء دون عمل جاد، ولا صرف أعمارهم فيما لا ينفع ولا يجدي، بل هم في حركة دائبة يسعون لإعمار دينهم ودنياهم: فإن كانوا يعرفون القراءة والكتابة حاولوا كتابة بعض الصفحات، وإلا أهدوا قلما لمن يعرفها باذليه ما بوسعهم لإدامة مشاركتهم في قافلة الخدمة. يحبون العلم على الدوام، ويوقرون العلماء، ويجالسون أصحاب القلوب اليقظة والعقول النيرة فيتنفسون بذكر المحبوب تعالى ومعرفته.
*يعرف هؤلاء جيدا أين يستثمرون رأسمال حياتهم وكيف يشرون بكل مهارة الحقائق الباقية والخالدة بالأشياء الفانية والزائلة. لا يصرفون أوقاتهم هباء وفي أمور لا تنفع، ولا يستسيغون أبدا التأخر عن أداء الخدمات الإيمانية. همتهم عالية، إرادتهم صلبة، عزمهم مستمر. الإيمان والحركة والنشاط من أهم مميزات قلوبهم ومزايا سلوكهم. لا يخافون أحدا إلا الله، ولا يخشون غيره، يقفون أبدا منتصبي القامة، مرفوعي الرأس، ويمضون مرفوعي الهامة لتنوير العالم بكل تواضع. تراهم على الدوام متواضعين قد خفضوا أنظارهم إلى الأرض. يهبون أحيانا كالريح بأفكارهم السماوية لينثروا بذور الخير في كل مكان، وأحيانا ليهطلوا كالغيث على كل موضع ليكونوا رسل حياة على سطح الأرض… لا يزلزلهم سوء أحوالهم المعيشية، ولا كساد تجارتهم، ولا الأزمات والمشاكل الحادة المتتابعة التي تعصف بآمالهم. كثيرا ما يجددون عهدهم وموثقهم.. يستخدمون كل نعمة من نعم الله المعنوية والمادية الموهوبة لهم في إقامة صروح أرواحهم لإحياء شعائر الإسلام. فأينما كان الدين ورضا الله كانوا هناك ويسعون لتحقيق أوامره تعالى. وعندما يقومون بكل هذا يبذلون عناية خاصة في أن يكونوا ناجحين في أعمالهم الدنيوية إلى درجة أن الذين يرون هذا النجاح ولا يعرفون هؤلاء الرجال الشهمين بهذا الجانب لا يتصورون أن لهم أي علاقة مع الدين والحياة الآخرة. وعندما يشاهدون ارتباطهم الوثيق برضا الله تعالى ينذهلون من عشقهم هؤلاء ويهتزون ويحسبون كأنهم بين صفوف الرعيل الأول.
*هؤلاء.. يعيشون على الدوام على أمل أن يكونوا نافعين للناس جميعا، ويحسون في أعماق أرواحهم بآلام الإنسانية جراء مشاكلها المختلفة وأزماتها المعنوية. يفتحون صدورهم لكل من يقترب منهم.. يستمعون للشكاوى.. ويئنون لها.. ويبحثون عن أصحاب القلوب المكلومة ويضعون أيديهم بأيديهم لكي يعالجوا آلام البائسين، ويمسحوا الدموع عن أعينهم. وعندما يأتي الوقت المناسب يتصدون لإخماد نيران الفتن وشرارات الفساد، ولا يزرعون غير الأزهار والورود حتى بين الأشواك وعلى شفاهم أناشيدها وبهجتها.
*هؤلاء الرجال الشهمون مدركون بأن قلوبهم متعلقة بأجل مهمة وأنبلها تلك هى رضا الله تعالى، وهم عازمون على التصدي لأي شيء للوصول إلى غايتهم. عندما تنظر إليهم كأشخاص تراهم في منتهى التواضع، يحترقون كالشموع لينيروا ما حواليهم، ومع أنهم يظهرون عدم المباهاة مستعدون في كل آن للتحليق كالطيور في السماء والتسابق مع الربانيين. وحتى عندما يبدون دون حراك في الظاهر، إلا أنهم بفعاليتهم الداخلية في حيوية مستمرة، وعزم راسخ وفي حمى من الحركة الدائبة. هم كالبحار تسقي سواحلها بأمواجها، وأحيانا تخفف بأمطارها حرارة أماكن بعيدة عنها. ومهم يقدمون ماء الحياة للجميع.. إلى القريب والبعيد، وينفخون روح الحياة في الأجساد التي فقدت معنى الحياة وأصبحت ميتة قبل سنين وأعوام. يقصون لمن حولهم على الدوام بلسان الروح قصص القلب، ولا يشاركون في أي إشاعة أو نقاش يؤدي إلى زرع أي نوع من أنواع الكره والحقد في المجتمع.
*هؤلاء.. تراهم في حركاتهم وسكناتهم كالساعة نظاما ودقة، وتستشف في أحاديثهم وكلامهم استقامة وعواطف جياشة ونضرة. لا تجد اضطرابا في حركاتهم، ولا مرارة في أقوالهم. قلوبهم طاهرة كقلوب الملائكة ونقية، وألسنتهم ترجمان صادق لأعماق قلوبهم. لذا غدوا بسلوكهم وتصرفاتهم محط غبطة وبكلامهم وأحاديثهم مثار عواطف جياشة، لا تجد في عوالم قلوبهم سوى رغبة الحصول على رضا الله تعالى، وفي كلامهم سوى عشقا عميقا لله تعالى، وحبا للوجود، ومحبة للإنسان إشفاقا عليه وأخذه بالمسامحة والعفو. الحصول على رضا الله تعالى هدفهم الوحيد الذي صوبوا له أنظارهم، والتفسير الصحيح للأشياء وللحوادث وتحليلها وتقييمها بصواب هوايتهم التي لا يستطيعون التخلي عنها، وحب الناس وفتح صدورهم لهم جزء لا يتجزأ من طبيعتهم ومزاجهم.
*هؤلاء .. يعلمون أن الطريق سيتحول في يوم من الأيام إلى طريق وعر وشائك، ويعلمون أن جميع الجسور ستتهدم. لقد أخذوا هذا في حسبانهم منذ البداية، وأدركوا منذ اليوم الأول بأن العفاريت والأبالسة ستظهر أمامهم ليقطعوا الطريق عليهم، وأن أعاصير من العداء والكراهية والحقد ستثار من حولهم. أجل!.. هم على يقين بأن طريقهم طريق الحق، ولكنهم لم يسقطوا من حسابهم أن عراقيل كبيرة لا تخطر على البال ستظهر أمامهم، وتراهم يعدون كل ما ظهر وكل ما سيظهر من مشقات ضريبة طريق الحق تعالى. لذا لا يفقدون من حماسهم شيئا ويستمرون في طريقهم مسرعين لا يلوون على شيء. ويلوذون بالله تعالى مما يقلقهم من المخاطر ويلتجئون إلى الحصن الحصين للإيمان، ويحاولون قراءة العصر الذي يعيشون فيه وحوادثه قراءة جيدة وصائبة، ويسعون اليوم وغدا للحصول على رضا الله تعالى واثقين بنصره.
*إن أبطال النور هؤلاء وفرسانه اضطروا في بداية الأمر إلى تنوير محيطهم القريب منهم، أما الآن فقد ظهروا بمظهرهم الحقيقي من العمق وقوة الروح وانقلبوا إلى سحابة غيث، وإلى أنشودة فرح، وإلى بسمة أمل انهمرت على كل طرف وجانب لتشفي غليل الأرواح الظامئة للمحبة والقلوب المشتاقة للود والمسامحة وتحيلها إلى جنان ضاحكة مزهرة. يصح القول بأن الأرض اليوم تتهيأ من أقصاها لأقصاها لربيع جديد ولولادة جديدة نتيجة للبذور التي بذرها هؤلاء في كل مكان، وأن الإنسانية بكاملها – بشعور من حدس مسبق – مقبلة على فرحة تلقي نسائم بشارات هذه الولادة وهذا التحول الجديد. ومهما اختلفت الأصوات والأنغام فإن المعنى الذي ينعكس في القلوب ويستقر في الصدور هو المعنى نفسه… أما النسائم التي تهب في أوقات السحر فصوت رقراق من جدول ماء الحياة الموهوب إلى أيوب عليه السلام، وعطر إبراهيمي من عطر يوسف ليعقوب عليهم السلام.
*هؤلاء .. بعيدون كل البعد عن أي رغبة في الشهرة والصيت، لا يهتمون بالمظاهر الكاذبة، اتخذوا التواضع خلة، والإخلاص خصلة، والوفاء شيمة.. أقوياء أمام إغراءات النفس وشهواتها.. انقلبوا – بحس التاريخ الذي ورثوه عن أجدادهم – إلى حواريين مبشرين بقيمنا الملية والدينية للدنيا كلها.. اختاروا ركوب الصعاب على الدعة والراحة قائلين “فقد ولجنا طريق الحب فنحن والهون”، فحققوا أجل حادثة لهذا العصر.
*هؤلاء.. الأبطال الذين يجيدون تلقيح أنفسهم بأمصال الوقاية المستخرجة من ذات أرواحهم… الأبطال المنشدون القادرون اليوم على أداء الكلمات لأناشيد ماضينا من غير تعثر بشيء أو بعائق، وعلى استشعار توقد الحماس في قلوبنا المتجددة كل مرة بتلون آخر.
*هؤلاء.. أبطال الإدراك والبصيرة واللدنيات الفاهمين للعصر والعاشقين للحقيقة بشبوب اشتياقهم للعلم، والمحدودبة ظهورهم تحت ثقل المعضلات الحقيقية الحاضرة والقلق المتصور في المستقبل، والمنعكسة دواخلهم على سلوكهم وتصرفاتهم، والمتنفسين هواء قلوبهم، والمتطلعين دائما إلى ما خلف الآفاق… أبطال اللدنيات الذين يئنون بآلام الأجيال إذ يسعون للنهوض بها إلى درجة معينة، ويحولون مستقبلها الكدر إلى دموع في أرواحهم فينوحون نواح أيوب عليه السلام، ويتقاسمون معها أوجاع يومهم وغدهم، ويشبون إلى العلى بالشكر باحتساب لذائذها أنعما من الحق تعالى.
*هؤلاء الأبطال أعدوا أنفسهم منذ البداية عبيدا للحقيقة في رق يأبى الانعتاق، فهم لا يكونون أسارى وخدما للمطالب المشتتة في المجتمع بتاتا، بل يحسون دائما بنير العبودية للحق تعالى في أعناقهم، فيقومون ويقعدون بملاحظة اللانهاية باستمرار، ويقضون أعمارهم تحت زخات الإلهام، ويلحون في توسيع وليجة الباب مع كل إلهام جديد من أجل واردات أخرى، وفي جهد من أجل إبلاغ الآحاد إلى الآلاف بحظوة امتيازهم عن الآخرين، فيتجرعون أذواق ولذائذ وحظوظ البقاء في الفناء، في كل لحظة، وفي كل مرة.
*سير حياة هؤلاء الأبطال يتجدد باستمرار في إطار الإيمان والعرفان والمحبة والعشق والذوق الروحاني، وتخفق أجنحة فكرهم الواسع كالآفاق سابحة في الرحاب المميزة بين الفانين واللانهائي. رأس مالهم العلم والإيمان، ومنهلهم القدير المطلق، وطريقهم السبيل الأعظم الذي سلكه كل من جاء وراح من صلحاء عباد الحق تعالى. ماضون إلى الأبد، واثقين بقوة الدين القاهرة، وبعنايات الله تعالى المتجلية فجاءة، ومرشدهم صلى الله عليه و سلم… وهكذا تختنق مرحلة أخرى من الإلحاد ومدة “الفترة”، وتتهاوى في مهاوي مخالفتها الذاتية للطبع والفطرة.