دعا الأستاذ فتح الله كولن محبيه من أبناء حركة الخدمة إلى التزام الصبر والهدوء، وغضّ الطرف عن التصرفات غير الإنسانية التي يتعرضون لها على أيدي أصحاب السلطة الحاكمة في تركيا، بل لفت إلى فضيلة العفو والمسامحة والمعاملة معهم بما يليق بنبل أخلاقهم رغم كل شيء، مؤكداً أنه سيأتي يوم يندم فيه البعض على ما ارتكبوه من ذنوبٍ وجرائمِ ويستعطفوا من ظلموهم ويلتمسون منهم الرحمة.
ننشر اليوم الجزء الثالث والأخير من الدرس الأخير للأستاذ كولن:
“سيأتي يوم يلتمس فيه الظالمون الرحمة من المظلومين”
هناك فريقان قال تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ۞ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ۞وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ ۞تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) الزموا الفريق الأول. أما الفريق الثاني فهم -واحسرتاه- حين يتدحرجون في أودية الغيّ بوجوههم الباسرة تمامًا، السوداء كما الزفت، سوف يتلوون من الألم ثم يعودون، يستعطفونكم ويلتمسون منكم الرحمة. وإني أرجو منكم، أن تمدوا إليهم أيديكم إن استطعتم، مدوا أيديكم إليهم جميعا، بدءًا من أعلاهم مرتبة إلى أدناهم. أرجوكم عاملوا هؤلاء الآمرين والمأمورين، والمتغلبين والمتسلطين والمتحكمين والغاصبين الناهبين، عاملوهم بما يليق بنبل أخلاقكم، حين ينظرون إلى وجوهكم ذليلين منحنين كالعِصِيّ. لا تعاملوهم كما يعاملونكم اليوم. تصرفوا مثل سيد الأنام، الحبيب المصطفى، واحتضنوهم، وقولوا: “اللهم إننا نسامح في حقوقنا، لكن لا حيلة لنا في حقك وحقوق العباد؛ فالتدخل في ذلك سوء أدب معك! وليس لنا أن نقول شيئًا في ذلك”.
“لا رجاء لي إلا أن أكون بينكم”
لي رجاء آخر، في يوم الحشر إن كان لي نصيب أن أكون بينكم في حضرة رب العالمين، فأرجوكم: قولوا: “كان هذا أيضًا منَّا!”.. لقد علقتُ أملي على هذا الرجاء، دعكم من قيل وقال، دعكم من الآخرين وشائعاتهم… لا تأبهوا بمن لا يفقهون الإسلام ولا الكتاب والسُّنة، ولا أصول الدين وفلسفة السيرة ولم يعرفوا سيد الأنام، أولئك الذين يستغلون القيم الدينية لمنافعهم الدنيوية. إنهم يظنون أن ما تحقق على أيديكم هو بجهدكم أنتم، وبهذا يقعون في دائرة محرمة من الشرك، يظنون أنكم الفاعلون، ولذلك تتسلط عليهم مشاعر الغيرة والحسد الآثمة.
“كل إنجازات الخدمة فضل ومنة من الله تعالى”
إخواني شهود على ما سأقول، لقد تحدثت قبل ذلك: لا يمكن أن ننسب ما أُنجز إلى أنفسنا، فلولا منة الله علينا ما كان ليتحقق أبدا، “مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ”. كان هذا وِردَ رسول الله صباحًا ومساءً، ونحن أيضًا نردده. الذين لم يرددوه قط لا يستطيعون أن يفهموا حقيقته. أسأل الله أن ينزه خواطركم عن كل ما يوحي بالشرك من قبيل “نحن الفاعلون نحن المنجزون”. فإن خطر في بالكم مثل هذا الخاطر، بادروا بالتوبة والاستغفار. قولوا “اللهم إن هذا من فضلك ومَنِّكَ، كل شيء منك، كل شيء منك” كما قال المولى عز وجل مخاطبًا رسوله: ﴿قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾.
“نسب الإنجازات إلى أنفسنا نوع من الشرك”
قد يكون البعض منهم انزلقت قدمه في هذا الشرك، حيث اعتبروكم فاعلين لكل هذه المشاريع، ولم ينسبوها إلى الله عز وجل، رأوكم تقومون بهذا الأعمال، فظنوا أنكم أربابها. لقد وقعوا في الشرك بهذا التصور، كما سنقع نحن في مثل هذا الشرك الخفي إن نسبنا الإنجازات إلى أنفسنا. هؤلاء ظنوا أن التوفيق الذي منَّ الله به عليكم أنتم سببه، لقد كانت تلك خطيئتهم الأولى، أما الثانية فقد ظنوا أن منافستكم في فتح المؤسسات ستقضي عليكم، ففتحوا أماكن في مواضع شتى باسم مؤسسات “يونس أمره”، فتحوا مراكز لغات. توسعت هذه المؤسسات حتى وصلت إلى 20 مؤسسة تقريبًا، بفضل واحد من الإخوة. لم يتحملوا أن يتم هذا العمل على يديه، فأقصوه عن العمل، لن أذكر اسمه. بعد إقصائه تراجع العدد إلى 9 تقريبًا. ماذا كان يفعل؟ كان يعلم اللغة لبضعة أشخاص، حتى هذا لم يستسيغوه. إن المسائل لا تجري على هذا النحو. ليست المسألة مسألة مباني، إنها رسالة محبة، تحبون الناس فيحبونكم، يتعلمون لغتكم، ويتعلمون لغاتهم ولغات أخرى عالمية كالألمانية والإنجليزية والفرنسية، فيصير كل واحد منهم “إنسانًا عالميًا”. كل هذا بفضلٍ منَ الله وعنايته. يثق بكم الناس، ويأتمنونكم على فلذات أكبادهم. لا يجد رجال الدولة مكانًا أفضل لأبنائهم من مدارسكم، يسجلون أبناءهم في تلك المؤسسات التعليمية الناجحة. كل ذلك بفضل من الله وعنايته.
“سيروا كما سار سيدنا حمزة دون تردد ولو مثقال ذرة”
لقد بلغ بأحد هؤلاء الحاسدين الحاقدين أنه كان يقول: “إنهم يَستقبلون أبناء رجال الدولة والوزراء ويدرسونهم، كي ينقلب هؤلاء الأولاد على آبائهم في المستقبل!”. ما هذا المنطق؟ ينبغي البحث عن القيمة الحقيقية لرأيٍ كهذا في الكتب التي دُوّنت حول الحمقى. يستحيل أن تجدوا شيئًا كهذا في المعاجم والموسوعات.. أن يسجل الناس أولادهم في إحدى المدارس حتى ينقلبوا عليهم في المستقبل!… إن كان هذا هو منطقهم الذي يخاطبون به الناس، فهذا يعني أنهم مفلسون. ليس عليكم أمام هذا الإفلاس سوى مواصلة السير بكل شجاعة وإقدام، سيروا كما سار سيدنا حمزة دون تردد ولو مثقال ذرة… فسبيلكم هو سبيل الله! يَسَّرَ الله لكم طريقكم! سيروا بلا توقف ولا توانٍ ولا استراحة. ففي النهاية ستصلون إلى الحبيب المصطفى، مفخرة الإنسانية بسُلّم “الإخلاص”، وبسُلّم “الرضا”، وستحظون بمشاهدة جمال الحق تعالى وإحسانه عليكم فيقول لكم “إني راضٍ عنكم!” لا تأبهوا بما تلاقونه من أذى وما يرمونكم به من افتراءات، اعتنوا بطريقكم، اهتموا باتباع القرآن والسُّنة، تعمقوا في فلسفة السيرة وجوهر الدين.
نعم، القطمير يُهديكم سلامًا كثيرًا، فيقول لكم مرة أخرى: لا تنسوا القطمير في الآخرة! أتعلمون كيف أرى نفسي غالبًا؟ أرى أنني لا أتجاسر على الذهاب إلى جوار سيدنا رسول الله، فأهُزُّ ذيلي بجوار ساداتنا الصحب الكرام أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وأتجول بين أقدامهم، رجاء أن يقولوا يومًا: “يا ربنا، هذا القطمير، ما كان يفارقنا أبدًا! كان يتحدث عنا على المنابر، يحكي للناس عن حياة الصحابة ويقص عليهم سيرة سيد المرسلين. لا يمكننا التبيّنُ من صدق سريرته، لكن لسان حاله كان هكذا، تلك كانت تصرفاته، تلك كانت دموع عينيه. ماذا لو عفوت يا رب عن هذا أيضًا؟”
“أخاف أن أكون من الذين أمِنوا عاقبتهم”
أنا أتصور نفسي هكذا، وأراها على هذا النحو دائمًا، وسأظل أنظر إليها هكذا. إن هذه الرؤية تنمو وتتضاعف في حياتي كل يوم. لقد أعدتُ الصلاة التي صليتها كلها والصيام الذي صمته قبل العشرين من عمري. ما فعلتُ ذلك إلا مخافة ألا يكونا تامين، لم أطعم حرامًا ولو لقمة، لا ملك لي في هذه الدنيا ولو حجرًا. وعندما اقترح عليّ أقرب المقربين مني بعض العروض الدنيوية المباحة كالزواج، قلت لهم: أرتاب في دينكم، فكيف أقبل بمتاعٍ من متع الدنيا، وأنا أرى إيمان أمتي يضيع وأبناء وطني يتدحرجون نحو النار؟ عشت هكذا دائمًا، مقتديًا بالأسود بن يزيد النخعي، كنت أخاف على إيماني، أخاف أن أكون من الذين أمِنوا عاقبتهم، كنت أتضرع إلى الله أن يحسن عاقبتي في كل الأمور.
“كان الأسود بن يزيد يخشى الموت على غير الإيمان”
كان الأسود بن يزيد يخشى الموت على غير الإيمان، كان هذا هو الهاجس الذي يشغله.
الأسود بين يزيد تعرفونه: إنه من أسرة النخعي.. أساتذة مدرسة أبي حنيفة، كان من بينهم علقمة وإبراهيم النخعي أيضًا، هم الذين ربوا أبا حنيفة، كانوا من التابعين ومن تابعي التابعين، لم أجد رجلا ذكي الفؤاد في حياتي كالأسود، ولم أر من يشكك فيه ولا في صحة الأحاديث الشريفة التي يرويها. إنَّ مَنْ يعرفون علم الرجال يفهمون ما أقول، وفي حلقاتنا الدراسية هنا في علم الحديث تعرضنا لهذا. عندما حضرته الوفاة جاءه قريبه علقمة فوجده عابسَ الوجه حزينًا يعتصره الألم والقلق، فقال له: ما هذا يا أسود؟ أتقلق من ذنوبك؟ تبسم بمرارةٍ وقال: “أي ذنب؟ يا علقمة إنني أخاف أن أموت كافرًا”، دائمًا أتوجس خيفة من هذا. ورد أنهم رأوا الأسود بن يزيد النخعي في الرؤيا بعد أن توفيَ؛ فسألوه: “ماذا فعل الله بك؟” فقال: “والله، لقد صُفَّ الأنبياء العظام، فنظرت فإذا بيننا قدر أربعةِ أصابع!” ذلكم هو الأسود، هذا هو، هذا هو من يخاف من عاقبته.
“لا تبالوا بما يرميكم به الطيالسة اليومَ ويفترونه عليكم”
لا تبالوا بما يرميكم به الطيالسة اليومَ ويفترونه عليكم! اهتموا بطريقكم ومنهجكم! اهتموا بالقرآن والسُّنة! اهتموا بفلسفة السيرة! بأصول الفقه، راجعوا أكثر من مصدر في الحديث عندما تتدارسون واحدا منها، قارنوا بين أقوال المفسرين وأنتم تقرأون أحد كتب التفسير، لا تقتصروا على مصدر واحد عند مدارستكم لأصول الفقه، دققوا النظر والمدارسة تحريًا للصواب وتجنبًا للوقوع في الخطأ.
“من كانت الدنيا همَّه كانت غمومه بعدد الدنيا”
كونوا على حذر، لا تحيدوا عن طريق السلف الصالح، ولا المجتهدين العظام من أمثال أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد بن حنبل، لا تحيدوا عن طريق الأولياء الكبار كالشيخ الجيلاني، والنقشبندي، ونجم الدين كبرا، ومولانا جلال الدين الرومي، والجنيد، والسلطان ولد، وعلاء الدين العطار، ومصطفى بكري صِدّيقي، والإمام جعفر الصادق. لازموا طريق جامعِ كل الفضائل والخصال الحسنة سيد الأنام عليه الصلاة والسلام. اللهم لا تزغ قلوبنا عن ذلك السبيل ولو قيد ذرة، اللهم لا تشغلنا بقيل وقال، ولا تحرمنا لذة الشعور والتفكر الذي يحثنا على تبليغ الرسالة المحمدية ونشرها في كل مكان تشرق عليه الشمس أو تغرب.
ذروهم وما يتقوّلون، لقد ذكرتُ ذلك من قبل، وتلقفته وسائل الإعلام: “من كانت الدنيا همَّه كانت غمومه بعدد الدنيا”. دعوا هؤلاء المهمومين بالدنيا، لا تعيروهم انتباهكم، فسبيل الطمأنينة والرضى يمر عبر الارتباط بالمولى عز وجل، والسلام.