(الزمان التركية) مازالت جريدة الزمان التركية تواصل نشر الحوار المطول الذي أجراه الأستاذ فتح الله كولن مع الأهرام العربي يوم السبت 8 من أكتوبر 2016، وإليكم الجزء الثالث من الحوار:
– ما أسباب اختيارك الولايات المتحدة مقرا للإقامة فيها؟ وما هي طبيعة علاقتكم بالولايات المتحدة؟
لقد قدمت إلى الولايات المتحدة في عام 1999 بسبب ظروف صحية ألـمّت بي، فقد كنت أعاني من مشاكل في القلب، فضلا عن أمراض الضغط والسكر والكوليسترول. وبعد إجراء فحوص دورية في تركيا، قرر الأطباء أنني في حاجة إلى عملية جراحية في القلب، فألح عليّ بعض الأصدقاء بالقدوم إلى هنا لإجراء العملية ومتابعة الفحوص الطبية، ثم قاموا بالحجز لي في مستشفى “مايو كلينيك” الشهير في هذا النوع من الفحوصات. وبالفعل قرر الأطباء هنا إجراء نفس العملية الجراحية، فطلبتُ منهم مهلة للتفكير، ثم بدأوا في إجراء الفحوصات اللازمة لحين اتخاذي القرار.
وفي غضون ذلك بدأت حملة منظمة ضدي في وسائل الإعلام التركية الحكومية والخاصة، حيث اقتطعوا مقاطع مسجلة من بعض دروسي، وصوروني ساعتها على أني أسعى لتقويض النظام العلماني في البلاد. وهو بالمناسبة نفس ما يردده أردوغان وحلفاؤه في تركيا اليوم.
وبدأت هذه الحملة تتضخم يوما بعد يوم إلى أن وصلت إلى أروقة المحاكم، ومع تفاقم هذه الحملة وبالنظر إلى وضعي الصحي الذي شرحتُه لكم نصحني الأطباء والإخوة المرافقون بتجنب العودة إلى البلاد في ظل هذه الأوضاع، إلى أن تهدأ الأمور وحتى لا تزداد حالتي الصحية سوءا. فرأيتها فرصة مناسبة لاستكمال الرعاية الصحية التي كنت قد بدأتها، كما فكرت أن ابتعادي فترة ما عن البلاد في ظل هذه الأوضاع قد يكون عاملا من عوامل تخفيف حدة التوتر وعودة الهدوء. ومن جهة أخرى فقد كانت هناك جهات متحفزة في البلاد للتضحية بكل المكاسب الديمقراطية التي أحرزها الشعب خلال السنوات الماضية، وكانوا يخططون لاستغلال عودتي من الخارج لتنفيذ مخططاتهم تلك، لذلك كله اتخذت قرارا بتأجيل العودة رغم ما كنت أشعر به من حنين جارف للوطن.
ومنذ ذلك الحين وأنا أقبع هنا منزويا في منفاي الاختياري في هذه القرية الصغيرة في ولاية بنسلفانيا لا أغادرها إلا لضرورات العلاج أو إجراء بعض الفحوصات والتحاليل، ومرة أو مرتين ذهبت للإدلاء بإفادتي في التهم التي وجهتها لي المحاكم التركية أمام النائب العام الأمريكي في ولاية نيوجيرسي.
وأصدقكم القول، لقد راودتني أفكار العودة إلى الوطن مرات عديدة، وكادت هذه العواطف تغلبني نوعا ما، لكن الأوضاع في تركيا وازدياد حدة التوتر والانقسام المجتمعي، وبث روح الكراهية بين أفراد الشعب الواحد، كلها كانت عوامل تدمر حالة التوازن والانتظام التي ينبغي أن يكون عليها البلد، والتي من المستحيل أن يؤسس عليها نظام اجتماعي وديمقراطي راسخ. كما كنت أخشى أيضا أن تستغل عودتي في ظل هذا الوضع في إحداث نوع من العمليات الاستفزازية.
لقد تلقيت دعوات متعددة للعودة إلى البلاد من المسئولين على مختلف مستوياتهم، ولا سيما بعد مصادقة المحكمة العليا في البلاد على براءتي من كل التهم المنسوبة إلي، وذلك في العام 2008 بعدما استمرت زهاء الثماني سنوات في أروقة المحاكم، لدرجة أنهم أرسلوا طلبا إلى النيابة العامة هنا في أمريكا للإدلاء بإفادتي أمامها.
وكانت آخر هذه الدعوات من أردوغان شخصيا عندما كان يلقي كلمة في حفل بإسطنبول بأحد أكبر ملاعبها لأحد الأولمبياد العالمية للغات والثقافات التي كانت تنظمها حركة الخدمة، ويشهده أكثر من مائة ألف مواطن تركي. وقد تبين لاحقا أنها كانت مناورة سياسية هدفها إحراجي للعودة إلى تركيا ومن ثم محاكمتي في محاكمهم الخاصة التي كانوا يشكلونها. وهو ما أفصح عنه قبل مدة نائب برلماني حاليا ومستشار سابق لأردوغان في أحد أعمدته التي يكتبها، لقد صرح قائلا: ” الذين اطلعوا على الحملة التي قادها أردوغان ضد الخدمة منذ العام ٢٠١٠ يعلمون جيدا أن هذه الدعوة لم تكن تحمل أدنى ذرة من ودّ أو محبة، وإنما استهدفت إحراج فتح الله كولن، وكذلك زادت من تأجيج نار النزاع، ويعلمون أنها كانت مناورة من “عبقري سياسي” فريد”.
لقد كانت لديّ خيارات متعددة للإقامة فيها بجانب أمريكا، بعضها في البلاد العربية وأخرى في أمريكا اللاتينية، وبعض البلاد في روسيا وآسيا الوسطى، لكن العوامل الصحية والإجراءات العلاجية التي كنت قد بدأتها جعلت هذه الخيارات تتراجع. كما لفت نظري هنا شيء مهم جدا، وهو طبيعة النظام القضائي في الولايات المتحدة؛ فقد كنت أحصل على الإقامة هنا بموجب ظروفي الصحية، وفي أحد هذه المرات التي كنت أجدد فيها الإقامة تم رفض هذا الطلب، فرفعتُ دعوى قضائية في أحد المحاكم أتظلم فيها من هذا الرفض، وفي نهاية المطاف حكموا لي بحقي في تمديد الإقامة.
لذا وبعد اطلاعي على المنظومة القضائية العادلة واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون التي لا تتبدل بتبدل الحكومات والأشخاص، فضلا عن مستوى الرعاية الصحية المتطور في البلاد وجدت أنه من المناسب البقاء هنا.
إنني الآن في السابعة والسبعين من العمر، ليس لي أي هدف في هذه الحياة الدنيا سوى العمل على مرضاة ربي والاستعداد إلى لقائه، أعاني من أمراض الشيخوخة، فضلا عن الأمراض التي ذكرتها، لذلك يلازمني بعض الأطباء من أصدقائي، ولديّ هنا عدد من الطلاب الذين يواصلون الدراسات العليا في الماجستير والدكتوراه في الجامعات الأمريكية، نتجمع كل يوم ثلاث ساعات صباحا أو مساء على حسب الظروف، نتدارس معا كتب التفسير وأصول الفقه والحديث، وغيرها من كتب العلم. لذلك فإن انتقالي إلى بلد آخر يعني اضطرار عدد كبير من هؤلاء المحبين إلى تغيير أماكنهم، وتلك مشقة لا أريد أن أكون سببا فيها.
إن وطني حاضر على الدوام في خاطري، ولم يغب يوما واحدا عنه، لقد طلبتُ من بعض أصدقائي المقربين أن يحملوا لي بعضا من تراب الوطن إلى هنا، فجمعوا لي ترابا من أكثر من مائة منطقة في تركيا، وعبئوها في زجاجات -بوسعكم أن تروها لو أردتم-. وكلما هاج في صدري الحنين إلى الوطن قرّبت هذه الزجاجات من أنفي وبدأت أشمها لأتسلى بها. أنا ابن قرية صغيرة في محافظة أرضروم شرقي الأناضول تدعى كوروجك، فلو قايضوني على قريتي الصغيرة هذه التي تحيط بها الجبال من كل جانب بالولايات المتحدة كلها ما قبلتُ ذلك. هذه هي مشاعري وتلك هي أفكاري.
إذا قدر الله لتركيا أن يزول عنها الطغيان يوما، فلن يكون ساعتها أحب إلى قلبي أكثر من العودة إلى موطني، أعود إليها عودة مواطن بسيط، بعيد عن الصخب والضوضاء، أو أيّ لون من ألوان الظهور والرياء.
– مؤخرا نشر منسوبًا لكم رسالة وفاء لفضيلة الأستاذ الدكتور علي جمعة مفتي البلاد السابق إثر تعرضه لمحاولة اغتيال أثناء توجهه لأداء صلاة الجمعة فما مدى علاقتكم بفضيلته؟ وهل لكم علاقة بشخصيات عربية أخرى؟
فضيلة الأستاذ الدكتور علي جمعة مفتي مصر السابق عالم كبير له وزنه بين علماء الأمة الإسلامية
تعرف عليه إخواننا، وتشرفنا بدعوته إلى تركيا في المؤتمرات التي كانت تعقدها مجلة حراء الناطقة بالعربية بالتعاون مع شقيقتها مجلة ” يني أوميت” التركية، وقد كان حضوره العلمي والرسمي مثريا لهذه المؤتمرات، لما يتمتع به من سعة أفق واطلاع، وإلمام بما يجري في العالم من أحداث، وقدرته على قراءتها بشكل صحيح وتنزيل النصوص الدينية على الواقع بما يلائم العصر، هذا فضلا عن نبل أخلاقه وشهامته التي تليق بأمثاله من العلماء. فقد اعتبر المدارس التي فتحت في مصر قيمة مضافة في مجال التربية والتعليم في مصر، ودعا إلى الإكثار منها، ومن ثم أشاد بها دائما ووقف إلى جانبها في كل أزمة. وحسب علمي فهو رئيس مجلس أمناء هذه المدارس منذ تأسيسها في مصر.
لذلك فإنني أعتبره – إن قبل- أخا وفيا وصديقا عزيزا. وعندما تلقيت نبأ محاولة اغتياله الغادرة أثناء خروجه لأداء صلاة الجمعة أعربت عن استيائي منها وإدانتي لها فورا، كما أعربت أيضا عن كل محاولات الاغتيال المعنوي التي يتعرض لها، علما بأن كل استهداف لأمثال فضيلته من أهل العلم والحكمة والرشد إنما هو استهداف للإسلام ذاته، وطعن للأمة الإسلامية في قلبها، لذلك أدعو الله من صميم قلبي أن يحفظه من كل مكروه وسوء، وأن ينعم عليه بموفور الصحة وتمام العافية.
أما عن العلاقة مع الشخصيات العربية فقد حملت مجلة حراء على عاتقها استكتاب أقطاب الفكر والأدب ورواد الإصلاح الروحي في العالم العربي بغية تشكيل رؤية حكيمة معتدلة تربط الإنسان بخالقه، وتعزز الشعور لديه بقيمة الانتماء إلى هذه الأمة، وتعيد تشكيل صرح روحه على سَنن الرعيل الأول من الصحابة والتابعين، فكانت حراء بذلك وسيلة مهمة في التعرف على مجموعة كبيرة من علماء هذه الأمة المخلصين العاملين، الذين هم تاج رؤوسنا، قرأنا إبداعاتهم الفكرية، وقرأوا ما كتبه العبد الفقير، وتبادلنا رسائل الود والإخاء، وأثروا ندواتنا ومؤتمراتنا وفعاليتنا بحضورهم القوي، ونهل أبناؤنا من معين علمهم. ولو كان المقام يتسع لذكر أسمائهم لذكرتهم واحدا واحدا وأثنيت على كل واحد منهم بما هو أهله، فلهم مني جميعا كل محبة وإعزاز وتقدير.
كولن للأهرام العربي: الخدمة مشروع تطوعي بالمنطق القرآني (1)
كولن للأهرام العربي: أردوغان يتهم الخدمة دون أي دليل (2)
كولن للأهرام العربي: إذا قدر الله لتركيا أن يزول عنها الطغيان سأعود إليها (3)
كولن للأهرام العربي: نحتاج إلى الأزهر كحاجتنا إلى الخبز والماء (4)
https://youtu.be/VUtfMvlkhL0