نشرت مجلة الأهرام العربي الأسبوعية يوم 8 من أكتوبر حواراً خاصاً أجرته مع الأستاذ فتح الله كولن حول الأحداث الأخيرة في تركيا، وستقوم جريدة الزمان التركية بنشر الحوار على مراحل: ونقدم لكم بعض الأسئلة وأجوبتها:
– الأستاذ فتح الله جولن.. برز اسمكم وكذا حركة الخدمة التي أسستها إلى سطح الأحداث بقوة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة الأخيرة في تركيا.. كيف بدأت حركة الخدمة؟ وما الأهداف التي تسعى لتحقيقها؟
اسمحو لى أن أقول إنني لم أزل منذ بداية حياتي أنظر إلى نفسي كإنسان عاديٍّ. ورأسمالي الوحيد هو أنني لم أسجد لغير الله تعالى، وأمنيتي الوحيدة هي أن يَقبلني ربي عبدا له، ومع ذلك اعتبرت وجودي كفرد في دائرة هذه المجموعة التي يعبَّر عنها في الغالب بـ “الخدمة” أو “حركة المتطوعين” من ألطاف الله تعالى.
ويمكن القول بأن مقولة الأستاذ النُّورسي هي بمثابة خارطة طريق لرجال الخدمة، حيث يقول “إن عدونا هو الجهل والفقر والتفرقة، وسنواجه هذه الأعداء الثلاثة بسلاح العلم والعمل والاتفاق”.
ستينات القرن الماضي كانت حقبةً عشنا فيها مرارة انفصام الشباب عن القيم الإيمانية. فمن أهم الدوافع التي كانت سببا في نشأة دعوة الخدمة هو الحاجة الملحة إلى تنشئة جيل مجهز بالعلوم الكونية من جانب، ومتمسك بالقيم الإيمانية من جانب آخر، جيل محترم للقيم الإنسانية، ممتلئ بالأمل والعزيمة، متحلٍّ بالفكر الإيجابي مهما اشتدت الظروف، متمتع بقدرات يستطيع من خلالها إيجاد حلول لأزمات الإنسان، بالإضافة إلى سعة أفقه واطلاعه على ما يجري حوله في العالم.
وشاء القدر الإلهي أن أكون ضمن بضعة رجال بادروا ببذل جهود مباركة محتسبين أجرهم عند الله، دون انتظار مقابل من أحد. وكنت أحاول في كل فرصة تسنح لي أن أبين للناس مدى الحاجة إلى مثل هذه الخدمات ومعقوليتها. وذلك من خلال الدروس التي كنت ألقيها في المساجد، أو في قاعات الندوات والمحاضرات التي كنت أُدْعى إليها، بل وحتى في صالات السينما عندما كان يجتمع الناس للاستماع إلى هذا العبد الفقير، وكنت أنبههم في دروسي ومحاضراتي إلى ضرورة رعاية الشباب المهدَّدين بالوقوع في براثن الضياع من أمثال الإدمان والمخدرات والانحلال الخلقي.
- كيف كانت وسائل الحركة لتحقيق تلك الأهداف؟
عددٌ كبيرٌ من الناس رأوا في هذه المبادرات إخلاصا ومعقولية فآمنوا بها وحملوا مسؤوليتها على عواتقهم. كانت البداية توفيرَ مِنَحٍ دراسية للشباب غير القادرين على مواصلة الدراسة بسبب ظروفهم المادية، وتهيئةَ أرضية آمنة لإيوائهم، بالإضافة إلى بعث الثقة في قلوبهم تجاه القيم الإيمانية التي نشأوا عليها. بعد ذلك أسس هؤلاء المخلصون مساكن للطلاب، وصالات للقراءة، ومدارس أهلية، ومعاهد تحضيرية إلى أن جاء يوم بدأوا ينشئون فيه جامعات أهلية.
من ناحية أخرى، تم تفعيل دينامو العقل المشترك والوعي الجمعي في اتجاه معالجة “الفقر” الذي جعل أمتَنا ترزح تحت نيّر الحاجة واضطرها الى تكفف الآخرين، فأجّج هذا في نفوس الناس مقومات العمل المشترك، مما أدى بهم إلى إنشاء شراكات بين رجلين أو ثلاثة أو أربعة، وبدؤوا يبادرون إلى الخروج من قراهم أو من محافظاتهم بل ومن بلدهم منفتحين على آفاق جديدة للعمل والاستثمار. وبمرور الوقت بدأوا ينخرطون في هذه القافلة، وأصبحوا من رجال الهِمَّة الذين لم يقتصروا على أداء زكاة أموالهم فحسب، بل سعوا إلى أن يكسبوا أكثر ليزيدوا من نسبة عطاءاتهم واستثماراتهم في خدمة الإنسان، فمنهم من انبرى لإنشاء مأوى للطلبة، ومنهم من تصدى لبناء جامعة… إلخ. وبفضل هؤلاء فُتحت مدارس في شتى أنحاء العالم، بالإضافة إلى تأسيسهم جمعياتِ إغاثةٍ إنسانية من أمثال “كيمسه يوكمو” (هل من مغيث؟) لتقديم مساعدات إنسانية إلى المحتاجين في كل مناطق العالم، وعلى رأسهم المحتاجون في بلادنا.
وخلال عملي طوال حياتي مع زملائي في تفعيل هذه الأطر كنت أؤكد دائما على أهمية قيمة التسامح والحوار، وتقبُّلِ الآخرين في مواقعهم، وانطلقتُ في ذلك من قاعدةِ: “سامح الآخرين.. أو على الأقل تغاضَى عن هفواتهم.. وإن كان لا بد، فلا تُرَوِّجْها..”، وشجعت الناس على أن يفتحوا قلوبهم للجميع، ونبّهتُهم إلى الحاجة الماسّة إلى الحوار، وبذل الجهود في سبيل تحقيق ذلك في الداخل التركي للقضاء على ما تعانيه بلادنا من انقسامات إلى معسكرات، بين علويين وسنيين، وبين علمانيين ومُتدينين، وغيرها من أشكال الانقسامات.
بالطبع هذه المشاكل ليست قاصرة على بلادنا فحسب، إذ جلّ بلدان العالم تعاني من نفس الداء.. أي تأجيج الخلافات وإثارة التصادم بين الناس.
- وكيف توسعت الحركة وانطلقت من تركيا إلى العالم؟
الواقع أن الإنسان هو من يصنع هذه المشاكل، فحيثما وُجد الإنسان فإن المشاكل تتشابه.. والحلول أيضا لا تختلف.. فكل من كانوا يتجرعون مرارة هذا الداء عندما اطلعوا على هذه الرؤية التي لمسوا آثارها الإيجابية في تركيا، فهموا أن الاختلافات ليست بالضرورة سببا للنزاعات، بل إذا قوبلت برحابة صدر فإنها تتحول إلى ثراء في المجتمع.. مع العلم بأن هذا انعكاس لما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، وطبَّقه بالأخص في وثيقة المدينة المنورة مع الذين كانوا يحملون أفكارا مختلفة..
فالذين مارسوا هذه التجربة في تركيا، وعاشوا معها، وخبروا نتائجها الطيبة، توجهوا بمشاريع متواضعة تعبر عن هذه الروح إلى أغلب دول العالم، وبسبب سلوكهم الإنساني هذا لاقوا ترحيبا في كل بلد حلوا فيه، وإلى اليوم لا يزالون يواصلون أنشطتهم في المؤسسات التربوية التي تم إنشاؤها في تلك البلدان بنفس الترحاب.
- الآن ألا يؤثر خلافكم مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على حركة الخدمة ومؤسساتها في أنحاء العالم.
هناك سعي حثيث للقيادة التركية الحالية لإغلاق تلك المؤسسات حتى لو كانت مدرسة صغيرة في منطقة نائية. إنهم لا يدَّخرونجهدا في سبيل التخريب، بل يقدمون وعودا شتى مغرية للمسئولين في بعض البلدان للقضاء على هذه المؤسسات، ولكن العالَم لم يتخل عن رعايتها بعدما عاين بنفسه معقوليتها وأهميتها ونافعيتها.
والحاصل أن “الخدمة” ليست تنظيما بالمعنى الذي يقصدونه، بل هي مشروع تطوعي بالمنطق القرآني مرتبط بالمعقولية الإنسانية. فالذين تعلقت قلوبهم بهذه الفكرة يقومون بتضحيات في خدمة الإنسانية، ليس لأنهم منتمون إلى هذه الفئة أو تلك، بل لأنهم يؤمنون بأن هذه الحركة تقوم بأعمال تتوافق مع المنطق القرآني وتتسم بالمعقولية. ومن ثم يسارعون لتلبية النداءاتِ التي وُجهت إليهم من أجل القضاء على الجهل والفقر والتفرقة.
- لماذا تفجرت الخلاف بينكم وبين حزب العدالة والتنمية، وقد كان البعض ينظر إليكم باعتبار أن الحزب هو الغطاء السياسي لحركة الخدمة، والحركة تمثل الجناح الدعوي له؟
نحن الذين تعلقت قلوبنا بالخدمة، لم نكن يوما ما على نفس الخط مع أية حركة سياسية، لا مع حزب العدالة والتنمية ولا مع سائر الأحزاب التي سبقته. ففي سبعينيات القرن الماضي تقدَّمتْ إليَّ بعض الجهات (نجم الدين أربكان) بمقترحات للانخراط في العمل السياسي، ولكني لم أستجب لأي منها،
لأنني – بحسب وجهة نظري – أرى أن العمل السياسي والتنافس على السلطة منهجا غيرَ مناسبٍ لتحقيق الغايات الكبرى التي تتوخاها الخدمة، المتمثلةِ في محاربة ثلاثة أعداء عالميين، هم الفقر والجهل والصراع بمختلف أشكاله، عن طريق التربية والتعليم ودعم الأنشطة الاقتصادية والإغاثية والتركيز على برامج الحوار في كل مكان من العالم، على النحو الذي وضحناه آنفا.
وأما ما تطرقتم إليه في سؤالكم، فإن غاية ما قمنا به هو تشجيع السياسات الواعدة بسلامة البلاد ورخاء مستقبلِها.. ففي سنوات حكم حزب العدالة والتنمية الأولى كانت سياساته تهدف إلى تنمية البلاد، وإعطاء الأولوية لقيم من أمثال الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان واحترام الآخرين وسيادة القانون، ونحن بدورنا اقتنعنا بذلك وأيدناه.. لكن البعض قرأ موقفنا هذا وكأننا نؤيد الحزب على الإطلاق، إضافة إلى أنني لم أدع في أي فترة من الفترات إلى تأييد أي حزب من الأحزاب ولم أمل على أحد التصويت لحزب بعينه، لأنني أعتبر تصرفا كهذا تعديا على حريات الآخرين وعدم تقدير لذكائهم واستهانة بإرادتهم المستقلة.
- ألم تدعموا الجزب وتوجهاته؟
والمرة الوحيدة التي دعوت فيها الناخبين إلى التصويت بالموافقة على التعديلات الدستورية كانت بمناسبة الاستفتاء العام على حزمة التعديلات الدستورية في العام 2010 والتي كانت تهدف إلى توسيع نطاق الحقوق والحريات الديمقراطية.
ولعل هذا هو ما جعل بعض الناس يعدوننا من داعمي حزب العدالة والتنمية، إن كل ما فعلناه هو تبني القيم العالمية التي كان الحزب أيضا يدافع عنها آنذاك.. ولكن تبين لاحقا أنه لم يكن مخلصا في نواياه، فصرنا مثل الآخرين ضحايا حسن ظننا، حيث تعلقنا بالظاهر وتم خداعنا، ومن الممكن أن يتعرض المؤمن للخداع لكنه لا يمكن أن يكون أبدا مخادعا.
- ألم يكن حزب العدالة والتنمية داعما قويا لكم؟
فيما يتعلق بدعم الحزب للخدمة، فالسلطة ليست مقام منة وتفضل، بل هي وسيلة للقيام على خدمة الناس ورعاية شئونهم، ومن مسؤليات كل حاكم أن يلبي مطالب مواطنيه بقدر الإمكان بشرط ألا تكون مخالفة للقوانين وألا تخل بمبدأ المساواة بين المواطنين. ولم يصدر من رجال الخدمة يوما ما مطالب أو خدمات تخالف هذه المبادئ الرئيسية. ومن ثم فلم تحصل الخدمة على أي امتيازات أو استثناءات بل لم تقبل بذلك أصلا، ولعل هذا هو الذي زاد وتيرة الحنق والغيظ على أبناء الخدمة إذ لم يستطيعوا أن يكمموا أفواههم بأي امتيازات أو استثناءات كما فعلوا مع آخرين.
حزب العدالة بما يمارسه الآن من أفعال يسعى جاهدا لإثبات أنه لم يكن بالأمس أيضا بجانب الخدمة.
- وماذا بعد الخلاف بينكما؟ والحرب الشعواء التي يشنها أردوغان عليك وعلى حركتك وأتباعك داخل تركيا وخارجها؟
نحن نعتبر أن ما يحدث معنا الآن فرصة منحها الله لنا ليغربل صفوفنا وهي سنة الله مع كل من يتصدى للنفع العام ولنا في الأنبياء العظام وعلى رأسهم فخر الكائنات أسوة حسنة. كما أنها فرصة أيضا ليطلع العالم على حقيقة هؤلاء المخلصين الذين تتشكل على أيديهم هذه الخدمات المنتشرة في كل مكان فمع حجم المحنة التي يعيشونها، يقدمون أروع النماذج في التسامح والسلام وعدم الانجرار إلى ردود الأفعال ومواصلة العمل الإيجابي البناء.
كولن للأهرام العربي: الخدمة مشروع تطوعي بالمنطق القرآني (1)
كولن للأهرام العربي: أردوغان يتهم الخدمة دون أي دليل (2)
كولن للأهرام العربي: إذا قدر الله لتركيا أن يزول عنها الطغيان سأعود إليها (3)
كولن للأهرام العربي: نحتاج إلى الأزهر كحاجتنا إلى الخبز والماء (4)