د. عبد المجيد بوشبكة
خلصنا في الحلقة الماضية إلى أن كثيرا من الناس لم يستوعبوا معنى وحقيقة الرؤية السياسية عند الداعية فتح الله كولن. ذلك أنه وعلى غرار كبار العلماء، يقوم بدورة في الأمانة التي ورثوها عن النبي صلى الله عليه وسلم. هذه الأمانة التي لا تحدها إلا حدود الشريعة الغراء، ومقاصدها العظمى، الرامية إلى تحقيق مصالح العباد في العاجل و الآجل. أما غير ذلك فليس سوى عارضا من عوارض هذا الطريق.
نعم، لقد اختلف العلماء قديما وحديثا حول حدود وصلاحية كل من العلماء والحكام، لكن كثيرا منهم يرون أن (أولي الأمر) الواردة في قول الله تعالى:﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ هم العلماء والفقهاء. ومنها قول ابن عباس رضي الله عنه: “هم أهل الفقه والدين”.وقول.مجاهد:”هم.أهل.الفقه.والعلم”.
وعليه فسيرة العلماء وواجبهم في هذا الدرب طويل، لا يهمهم فيه رضا السلاطين أو غضبهم، بقدر ما يعنيهم رضا الله تعالى أوسخطه. بناء على ما سلف فإن المصدر الحقيقي والمرجع الأول لكل من يؤمن بالله ربا وبمحمد نبيا وبالقرآن دستورا، هو مصدر واحد. وأما الخلاف السياسي فليس إلا شكلا من أشكال التدبير ليس إلا.
ومن ثمة فالعلماء، وإن كانوا جميعا تلاميذ المدرسة المحمدية، فقد دفعهم الزمان والمكان إلى إنشاء مدارس جديدة، تستجيب لحاجة كل عصر وتجيب على تساؤلات أهله، وما يعترضهم من تحديات. وبذلك كانت الكلمة والرأي وسيلة مشتركة بين الجميع. كلمة ورأي يختلف من عالم لآخر وفق قدرة كل عالم ورؤيته للأمور، و مدى استعداده للذهاب فيها إلى أبعد الحدود التي يرى في النصوص الشرعية ما يسعفه إلى بلوغها. إنها الكلمة، إنها الشهادة إنها الواجب، إنها الأمر بمعروف والنهي عن المنكر، ليس على العلم فقط، بل على كل مسلم مكلف، حاكما كان أم محكوما. لكن: هل كل الناس فضلا عن الحكام، مستعدون لهذه الشهادة، المُرة في بعض الأحيان؟
ليس كل الناس مؤهلون لهذه المهمة، و ليس رجال السياسة إلا جزءا من الناس الذين ضاقوا ذرعا بحرية الكلمة وحرية الرأي، فعملوا على منعها ولو بحد السيف. وقضية حرية الرأي ليست خاصة بالمسلمين فقط، بل هي قيمة بشرية عانت من أجلها كل الأمم والشعوب. وقد كانت قضية الحق في التعبير من الحقوق التي تجاوزت كل القضايا بما فيها القضايا السياسية.
والأستاذ كولن، ووعيا منه بأهمية هذه القيمة، لم يكتف بالتنظير لها، بل عاشها وعايشها بكل آلام المخاض الذي عاشه كثير من العلماء. فاستمع إليه حين قال: “وجود أفكار مختلفة وآراء مختلفة من صفات الناضجين، ولكن هذا لا يعني تقسيم الأمة إلى معسكرات فكرية متناحرة، إذ لا يمكن لأحد أن يتسامح في هذا الأمر، ولا يحق له هذا. ذلك لأن السماح بتفرق وتشتت الأمة إنما هو سماح بانقراض الأمة وتهدمها.”
فالرجل على وعي تام بالتبعات الخطيرة لقضية الاختلاف في الرأي، بالقدر الذي يعي الأبعاد المصيرية لحرية الرأي والصدع بالحق. بل و هو يسطر هذه الكلمات الشاهدة، لا يزيد على كونه يطبق بأسلوبه الرقيق ومنطقه الدقيق، ما جاءت به الشريعة الإسلامية السمحة كما سيأتي بيانه. بل وفي ظل ما يعيشه الأستاذ كولن من ظلم و مضايقات، بسبب آرائه الجريئة، فكأني به في قومه يردد قولة المصلح الاجتماعي الفرنسي”فولتير” الشهيرة في عصر النهضة الأوروبية: (أنا مستعد لأن أدفع حياتي ثمنا للدفاع عن رأيي، ولكني مستعد أيضا آن أدفع حياتي ثمنا لتمكينك من الدفاع عن رأيك المخالف لرأيي).
ولأن فتح الله كولن يعتبر السياسة بمفهومها المتداول اليوم تشويها للحقائق وضحك على الناس، وخيانة للأمة، فإن السياسة الحقة في نظره، موجودة في كل أمر. بل هي سياسة “الذين يهيئون لإيقاظ الأمة وبعثها من جديد، وهي إيثار أمور الأمة على كل شيء وتقديمها على كل شيء وعدم التفكير في أي مصلحة شخصية و استفراغ الجهد في مصالح الأمة”.
فالسياسة بمفهوم كولن إذن: هي “إيقاظ الأمة وبعثها من جديد، وهي- وخلافا لما يدعيه خصومه- إيثار لأمور الأمة على كل مصلحة شخصية، بل هي أكبر من كل ذاك: إنها استفراغ الوسع الصادق في سبيل مصلحة الأمة”.
وانسجاما مع المنهج الرياضي الذي طالما ذكر به هذا الرجل، فإن النتيجة الطبيعية والمنطقية هي أن عدم الدفاع عن ما يرى فيه مصلحة الأمة يعد تشويها للحقيقة، بل تزويرا للشهادة و ضحك على الناس، بل هو خيانة للأمة.
فأي منطق أوضح من هذا المنطق؟ وأي حجة أبلغ من هذه الحجج يا ترى؟ بهذا المنهج يمارس الأستاذ كولن دوره الريادي في الصدع بكلمة الحق والتعبير عن رأيه في كل المواطن والمجالات، التربوية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فتأمل قوله: “إذا كان كل بيت مدرسة تعليم وتربية لأفراده، وكانت كل مدرسة معسكراً صغيراً يبث الروح العسكرية، وكل معسكر مجلسا يتم فيه بحث شروط بقاء الأمة وأمنها، وكل مجلس مختبرا اجتماعيا يقوم حسب وظيفته وصلاحيته بفحص وتقييم كل مسألة ترد إليه في ضوء فكر الأمة وروحها.. مثل هذه الأمة تملك أفضل كادر سياسي وإداري”.
فالأستاذ كولن وهو يعد هذه الأجيال وفي كل مجال، بهذه المواصفات المثلى، لا يُخفي آراءه حين التعبير عنها ولا فقهه حين تطبيقه، بل يدافع عن كل ذلك ويفتخر به، وحق له أن يفتخر بهذا المنهج العبقري. وإن الذين يضايقون الأستاذ كولن في تطبيقه لهذه الرؤية فضلا عن منعه، إنما هم في الحقيقة يقفون ضد مصلحة الأمة وضد تنشئة جيل نموذجي من أبنائها.
إن حرية التعبير عن الرأي أمر محسوم عند علماء المسلمين، ولنرجع إلى الشيخ الريسوني في حديث قيم حول هذه القضية، إذ نقل لنا كلاما مهما عن الشيخ الطاهر بن عاشور حين قال:” إن الحرية خاطر عزيز في النفوس البشرية، فبها نماء القوى الإنسانية، من تفكير وقول وعمل، و بها تنطلق المواهب العقلية متسابقة في ميادين الابتكار والتدقيق. فلا يحق أن تسام بقيد إلا قيدا يدفع به عن صاحبها ضر ثابت أو يجلب به نفع” ثم يضيف الأستاذ الريسوني: وإذا ثبت واتضح أن خاصية البيان والتعبير، هي صفة فطرية خلقية في الإنسان، فمعناه أنها تفوق درجة (الحقوق المكتسبة)، وترتقي إلى درجة (الحقوق الطبيعية) أو لنقل أنها ليست فقط حقا من حقوق الإنسان، بل هي صفة من صفات الإنسان”.
أتعجب لمن يملك الجرأة والاعتراض على حرية الرأي والتعبير بعد هذه الحقائق الذهبية. بل وإن تعجب، فعجبا للذين ينتقدون الأستاذ فتح الله كولن وهو يمارس حقا شرعيا وإنسانيا وفطريا، عوض توجيه اللوم إلى من منع هذا الحق و كسر كل القيود ولم يترك مجالا ولا معارضا ولا صاحب رأي إلا ونكل به تنكيلا.
وإن تعجب، فعجبا للذين يلومون الأستاذ كولن، على أرائه السياسية الراقية وهم أبعد ما يكون عن الفهم الدقيق لمعنى السياسة الشرعية عند كبار العلماء. إنها الكلمة، إنها الشهادة، إنها الأمانة. أمانة خاصة العلماء الذين يقدمون مصلحة الأمة على مصالحهم الشخصية وزعامة الأمة على زعامتهم، وسلطان الأمة على سلطانهم. إنهم الذين فهموا نصوص الشريعة ولم يقفوا عند رسومها. وهذا ما قرر الأستاذ الريسوني بقوله: “لكن في القرآن والسنة، لا نكاد نرى إلا حرية مطلقة للقول والتعبير..وأما النبي الكريم فقد سمح لكل من شاء أن يقول ما شاء “. (يتبع)