بقلم د. عبدالمجيد بوشبكة
الرباط (الزمان التركية) في ظل ذكرى مولدك أيها الحبيب المصطفى، صلى الله عليك وسلم، تتزاحم الأفكار، كيف نحيي ذكراك وقد بات مصابنا جللا. !كيف نذكرك، يا حبيبنا وأنت من عدّدت و شدّدت الوصايا لنا في كل مجال. ! كيف نحيي ذكراك وقد تفنن وتزاحم الناس على التعريف بسيرتك العطرة عبر الزمن. ! فمن أقدم المكتوب في سيرتك العطرة كان في حياتك عليك الصلاة والسلام ولعل قصيد زهير بن أبي سلمى ت26هـ في مدحك يا رسول الله، طارت شهرتها في الآفاق ومطلعها :
(بانَتْ سُعادُ فَقَلبي اليومَ مَتْبولُ :: مُتَيَّمٌ إثْرَها لم يُفْدَ مَكْبولُ)
ومن أشهر القصائد كذلك في مدحك عليك الصلاة والسلام قصيدة البردة للشيخ البوصيري ت696هـ والتي أغرم بها عامة المسلمين وخاصتهم إلى اليوم ومطلعها:
(أمنْ تذكر جيرانٍ بذى ســــلمٍ :: مزجْتَ دمعا جَرَى من مقلةٍ بـــدمِ
أَمْ هبَّتِ الريحُ مِنْ تلقاءِ كاظمـــةٍ :: وأَومض البرق في الظَّلْماءِ من إِضـمِ)
إلا أن جل من كتبوا في سيرتك المحمدية اعتمدوا على فرسانها الأوائل من صغار الصحابة وكبار التابعين أمثال عروة بن الزبير ت94هـ، و أبان بن عثمان بن عفان ت101هـ، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري ت124هـ، و عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ت135هـ، ثم سيرة محمد بن إسحاق ت151هـ التي تعد مصدر جل ما بين أيدينا اليوم. كسيرة ابن هشام وابن كثير والقاضي عياض والسهيلي وغيرهم رحمة الله عليهم أجمعين.
كيف نحيي ذكراك بعدما توالت التآليف وكثرت، وأبدع العلماء في سبر أغوار سيرتك العطرة وكشف أسرارها. ! وتنافس الناس في ذلك شرحا وتنقيحا وتلخيصا، وجريا على سنن الله العليم في العلوم والفهوم، وبعد مرحلة الجمع والتدوين والنظم والتغني بسيرتك الطيبة، جاءت مرحلة الفقه.
فكيف نتعظ بما كان من اهتمام بفقه سيرتك المصطفوية، وقد تزايد بازدياد حاجة الناس إلى النهل من ينابيع الوحي ومشكاة نبوتك الكريمة. ومن أجود من سبقوا إلى هذه الساحة الإمام ابن قيم الجوزية ت751هـ في كتابه العمدة “زاد المعاد في هدي خير العباد” وقد كشف فيه عن غرر فقهية وفهم بليغ، أوضح عددا هائلا من كوامن الفقه في ثنايا سيرتك المحمدية. و منهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب ت1791م، حيث قام بتلخيص كل من سيرة ابن هشام وكذا زاد المعاد. ثم توالت المؤلفات في فقه سيرتك الأحمدية إلى العصر الحديث بشكل غير مسبوق.
كيف نحيي ذكراك! إذا كانت واسطة عقد هذا الفقه هو تحديد مقاصده العامة التي ارتضاها صاحب الشريعة السمحة ومثلتها سيرتك الواضحة الفيحاء صلى الله عليك وسلم، في أبهى صورها، فكنت النموذج الأسمى للبشرية جمعاء. ومن أجلّ هذه المقاصد العمل على تحقيق هداية الناس كل الناس، من خلال تقديم سيرتك الكريمة، بواسطة فقه جديد حسن يناسب الزمان والمكان والإنسان. فقد رأينا كيف تفتقت عبقرية ابن القيم رحمه الله على قضايا فقهية كان الناس في أمس الحاجة إليها في زمنه، حتى أصبح مرجعا في ذلك. ورأينا كيف أن محمد بن عبد الوهاب ثابر في البحث عن قضايا العقيدة وأسرارها ليرد غلواء الوثنية العربية التي طلت بقرنها على الجزيرة العربية في وقته، ورأينا كيف نجح في إقناع ولاة الأمر حينها، بالرجوع إلى النموذج النبوي للوقوف في وجه كل التحديات التي واجهتهم. وبعد سنوات قرأنا كم كان هم الشيخ محمد الغزالي المصري في توسيع وتعميق رؤية أبناء الصحوة الإسلامية، وجرأته في ولوج كل المجالات و القضايا، فتحمل كل المضايقات والانتقادات رحمه الله، من أجل تبليغ هذا الدين عن طريق ما فهمه من نموذجك النبوي الطاهر. وعايشنا الشيخ سعيد رمضان البوطي رحمه الله، كيف خاض جهادا كبيرا، من أجل إرجاع الروح إلى تدين المسلمين الذي أماتته قسوة القلوب وجفاؤها، وتركيزه في تقديم سيرتك الكريمة على منهج دعوي وروحي بليغ، عله يروي قساوة القلوب و ظمأها، حتى استشهد رحمه الله، وهو على هذا الدرب ثابت.
نعم هي نجوم كبيرة عبر التاريخ، سعت للقيام بواجبها وتبرئة ذمتها في إضاءة مجالات الدعوة و التبليغ من خلال تشبثها بنموذجك المحمدي الكريم.
واليوم كيف نحيي ذكراك في ظل تزاحم المشاريع وتضارب الرؤى واصطفاف الناس، وقد انقشع نجم جديد وعلى درب سابقيه، تجشم كل الصعاب ليقدم سيرتك العطرة وذكراك الطيبة، تقديما جديدا، واعتبارها حلا نموذجيا لكل التحديات المعاصرة التي أرهقت الأمة والناس أجمعين. !حلا مثاليا لإنقاذ البشرية من وطأة الظلم وجحيم القهر الذي تئن تحته. ودائما عبر تقديم سيرك الكريمة، صلى الله عليك وسلم تسليما، كمنقذ للبشرية، وكإكسير للمشاكل المستعصية على الحل، وللأمراض غير القابلة للشفاء.
اليوم نحيي ذكراك ونحن نشهد لك يا رسول الله، ولله تعالى، أن بين ظهرانينا أستاذاً مربياً وقدوة هائماً في حبك، و خادماً من أخلص رجالك فينا، إنه محمد فتح الله كولن.نحيي ذكراك يا رسول الله، وفينا رجل نشهد لك أنه وعبر كتابه (“النور الخالد” محمد مفخرة البشرية) قد حفظ العهد وصان الود وأخلص الأمانة في وصاياك العظيمة لنا.
اليوم نحيي ذكراك يا رسول الله عليك أزكى الصلاة والسلام، و الأستاذ فتح الله كولن، يُطل علينا من شُرفة عالية، وهو يتوسل إلى الناس جميعا: هلموا إلى فخر البشرية. فنشهدك يا حبيبنا يا رسول الله، أن محمد فتح الله كولن لم يأل جهدا في تبليغ وفقه سيرتك الفيحاء فقها يروم منهج سابقيه من فطاحل العلماء، وفق تحديات الزمان والمكان والإنسان. فقها جمع فيه بين روعة الأسلوب وعمق الفكرة وشمول العبرة وحلاوة الجملة ودقة الكلمة. و نشهدك صلى الله عليك، أنه قدم لنا سيرتك المنيرة على طبق من ذهب، و جيش لهذا العمل من علوم الدين ومقاصده بقدر ما استدعى له من علوم الدنيا ونُظُمها. و قد أسعفه في ذلك أصالة تكوينه وحداثة فكره ودقة منهجه. وأُشهدك يا رسول الله، أنني مهما تكلفتُ في التعريف بجهده الرائع، في هذا الكتاب و غيره من جهوده الزاخرة، فلن أستطيع تبليغ حقيقة الشهادة فيه، إذ جمع ما تفرق لدى غيره من عيون فقه سيرتك الفيحاء.
اليوم نحيي ذكراك الطيبة يا رسول الله، وهذا الرجل فينا يصرخ في صمت وهو يردد: (هل استطعنا أن نفهم الرسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ سلطان القلوب المتربع على عرش الأفئدة حق الفهم، وندركه حق الإدراك؟ ولكن ما بالي أشير إليكم، أو أعنيكم؟ ما بالي أنا؟ هل استطعت أن أشرح جوانب عظمته كما يجب، وأكشف معالم شخصيته كما ينبغي؟ أنا الذي أضع جبهتي للصلاة منذ الخامسة من عمري، وأنا الذي أدّعي أنني وضعت الطوق حول عنقي لكي أكون “قطميرا”([1]) لـه. هل استطعت أن أشعركم بما يجيش في صدري من عظمة النبي الله صلى الله عليه وسلم، كما يليق بجوانب هذه العظمة؟ )
اليوم نحيي ذكراك يا رسول الله، و مئات الأساتذة وآلاف الطلبة وملايين الناس يشهدون أن محمد فتح الله كولن، لا تغيب ذكراك عنه. وهاهو ما زال هائما في حبكم مرددا تعلقه بجنابكم الكريم وهو يقول:( وكما قلت لإخواني مراراً إنني عندما أذهب إلى المدينة المنورة أجد رائحته العطرة محيطة بي إلى درجة تشعرني وكأنني سأقابله بعد خطوة واحدة، وكأن صوته الشجي الذي يحيي القلوب يقول لي: “أهلاً وسهلاً.. ومرحباً.”).
نعم نحن نحيي ذكراك يا رسول الله، و نشهد أن هذا الرجل طلق الدنيا وزينتها، و شهواتها و مناصبها و أموالها و نسائها و أبنائها، فلم يأخذ منها شيئا، ولم يزاحم أهلها في شيء، بل هام على وجهه في كل البقاع سائرا على منهجك القويم، داعيا إلى سراجك المنير، لعله يحظى بشفاعتك، ويفوز بالقرب من حضرتك. فلا ترده خائبا يا رسول الله عليك أزكى صلوات الله وسلامه.
اليوم نحيي ذكراك يا رسول الله، ونحن نشهد أن هذا الرجل يجاهد جهاد الفرسان، ويعبد عبادة الرهبان، ويصبر صبر الأولياء، ولا نزكي على الله أحدا. ونشهد أنه قد روى بدموعه قلوبا قاسية و لم بها شتاة أجيالا تائهة، وهو دائما هائم على وجهه يردد:(إنني أسائل نفسي و أسائل جميع الذين يتصدون للتبليغ والدعوة: هل استطعنا أن نشرح لإنسان هذا القرن حبه.. حب سيد السادات حبّاً تجيش به القلوب؟ هل استطعنا أن نبهر القلوب والأرواح بهذه العظمة، عظمته الله صلى الله عليه وسلم ؟) نعم نشهد أنك نجحت في ربطنا بمنهجه، وتعريفنا بحقيقة حبه، وتذيقنا من معين ورده، فجزاك الله عنا و عن المسلمين كل خير.
نحيي ذكراك يا حبيب الله، ونحن نشهد أن هذا الأستاذ كولن قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وقد لاقى في سبيل ذلك من بني قومه ظلما عظيما، واتهاما خطيرا، وهضما لحقوقه كبيرا، وطعنا في كرامته مُزلزلا، وسلبا لحريته ظالما، و نكرانا لجميله غير مسبوق. فاللهم رب المستضعفين في كل مكان وحين، إنّ محمد فتح الله كولن عبدُك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيته بيدك، ماض فيه حكمك، عدل فيه قضاؤك، نسألك بكلّ اسم هو لك سمّيت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبيه، ونور صدره، وجلاء حزنه، وذهاب همه. ونسألك اللهم، أن تكون له وليا ونصرا ومعينا وظهيرا، إنك ولي ذلك والقادر عليه، تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إلاه غيرك، سبحانك سبحانك. أمين.