نوح فسيفس- باحث في العلاقات الدولية وقضايا الشرق الأوسط
أثار قرار حكومة هولندا الأخير بمنع هبوط طائرة وزير الخارجية التركي مولود جاويش مولود أوغلو، موجة من الصخب في الأوساط السياسية والشعبية في تركيا، فقد بادر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى استنكار هذا السلوك من قبل الجانب الهولندي، متهماً إياه بالخروج عن العرف الدبلوماسي والديمقراطية، بل إن أردوغان وصف حكومة هولندا بالنازية المقيتة، التي عفا عليها الزمن، وهدّد بردة فعل من الوزن الثقيل تجاه العلاقات بين البلدين، مصرحاً بعدم السماح للدبلوماسيين الهولنديين بدخول الأراضي التركية، على نحو يشير إلى تدحرج الأوضاع الدبلوماسية إلى نسق غير سار في المنظور القريب.
إن الحقيقة الثابتة إزاء موقف من هذا النوع، هي أن اختراق العلاقات السياسية بين تركيا والعالم الخارجي على هذا النحو يمثل نقطة تحول خطيرة في النسق الدولي، إذا ما أخذنا في الحسبان تفاعلات الأزمة الإقليمية التي تعيشها تركيا في الوقت الراهن في مجالها الحيوي في سياق الصراع في سوريا ومضاعفات الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في العراق، وفي الجهة الأخرى ما تسعى له حكومة أردوغان من تحديثٍ للبنية الدستورية في البلاد. لقد استحقت الديمقراطية التركية حفاوات من كل أنحاء العالم، ولم يكن المشهد العام لهذا البلد المسلم يشي بأن ثمة احتقاناً اقترب من ساعة الصفر لانفجاره، وحتى في اللحظة التي أعلنت فيها الحكومة نيتها تصويت الشعب على مواد دستورية جديدة تنقل البلاد من نظام الحكم البرلماني إلى نظام الحكم الرئاسي، الذي يعطي أردوغان صلاحيات تقترب من أنظمة الحكم الشمولية من خلال أدوات الديمقراطية التي يمكن استخدامها لإنتاج الاستبداد. فما هو الأساس المنطقي لاندلاع مأزق دبلوماسي في هذا التوقيت بين تركيا وأوروبا؟، وما هي المحصلة المنطقية التي ستتمخض عنها مواجهة من هذا النوع؟
لا يمكننا تحليل نمطية هذه الأزمة الدبلوماسية التي تواجهها تركيا مع الدول الغربية بمعزل عن توصيف مكانة تركيا في التوازنات الإقليمية وقوة حضورها في ملفات مهمة في الشرق الأوسط ووضعية تركيا في مركز الجغرافيا الأوروبية والآسيوية في المستقبل.
لقد كانت أنقرة تسعى جاهدة لأداء دورها المنوط بها ضمن منظومة حلف شمال الأطلسي، وقدمت كل ما بوسعها لكي تتحول إلى دولة في الاتحاد الأوروبي، حيث كان من متطلبات ذلك فك ارتباطاتها العضوية الإقليمية وتوثيق تعاونها بإسرائيل إلى المستوى الإستراتيجي، ولكن ذلك لم يكن كافياً بالنسبة للغرب لقبول فكرة تركيا بالانصهار ضمن أوروبا. إن هذا النهج الأوروبي قد رفع من مستوى الارتباك الإستراتيجي لدى الأتراك على صعيد السياسة الخارجية والعلاقات الدبلوماسية تجاه الدول الغربية، مما دفعهم إلى اللجوء إلى دبلوماسية الإكراه أحياناً لجهة تمرير سياساتهم الأمنية القومية، كما هو الحال في موقف تركيا العسكري إزاء الحرب في سوريا، بالتزامن مع الدور الطموح الذي تولته أنقرة في مسار السياسات الإقليمية لإثبات حضورها في اللعبة السياسية، وقد تشعّبت في مصالحها حتى تصادمت مع مصالح وسياسات قوى أخرى تسعى لذات الهدف.
إن أحد أهم الحقائق الثابتة في اللحظة الراهنة، هي أن تركيا لا تزال تمتلك فرصة وافية لكي تكون إحدى القوى الرئيسية المؤثرة في إدارة الأمن وإحداث الاستقرار في الشرق الأوسط، وفي الوقت الذي تبدت فيه الرغبة التركية بالقيام بدور مهم في خضم الصراع السوري، كان الخطر الداهم يبدد آمال الأتراك إزاء سقوط نظام بشار الأسد، أو انتصار المعارضة، وبخاصة في ضوء دخول التنظيمات اللادولتية في إطار الحسابات الإستراتيجية للمعادلة الإقليمية، والتي نقلت المعركة من الاستنزاف إلى تهديد الجغرافيا السياسية (الجيوبوليتيك)، وهذا ما قاد الأتراك إلى تغيير نهجهم لصالح تخفيف التأثيرات السلبية التي يمكن أن تلحق بتركيا بسبب تحركاتها في خارج حدودها. ومن الصعب عدم الاستنتاج بأن مساعي أنقرة بهذا الشأن قد أخفقت على نحو ملحوظ، بل وربما أوقعتها على الأقل في حساسيات موقفية مع بعض القوى الإقليمية والدولية، وقد بات التساؤل السائد الذي يواجه أصحاب القرار، هل ستبقى تركيا تشبه “القطة التي تسير وحدها”،ولكي لا يبدو الأمر مبالغة في التقليل من إرادة أنقرة، فإن المعطيات الواقعية تبرهن على وجود حركة اصطفاف دولي حاسم يحول دون تحقيق أي تغيير حقيقي في مجريات الحرب السورية، بحيث تستطيع تركيا استغلاله في صالحها اقليمياً، ولذا تجد أطراف دولية ضرورة ملحةفي حصر تركيا في الزاوية واغراقها في تعرجات سياسية تقودها إلى الدخول في مواجهات دبلوماسية حادة تقوض قدرة حكومة أردوغان في التحرك على أكثر من جبهة.
وفقاً لوجهة نظر القادة السياسيين في أوروبا؛ فإن حزب العدالة والتنمية يسعى إلى الوصول بتركيا إلى نظام الحكم المطلق، بحيث لا يمكن معه احترام الديمقراطية النسبية، في حين يواصل أردوغان نهجه صوب تحقيق القدر الأكبر من النفوذ الإستراتيجي، من خلال الاحتضان الجماهيري، وقد رأينا كيف استطاع أردوغان تحريك ورقة الحشد الجماهيري إبّان الحركة الانقلابية الفاشلة في يوليو/ تموز 2016،ففي أوروبا من يتهم أردوغان بتدبير هذا الانقلاب للتخلص من معارضيه في مؤسسات الإعلام والتعليم والجيش والأمن والقضاء، وهذا هو سبب كافٍ ليدعو إلى التشاؤم، لأنه يكشف النقاب عن الخطوط الحمراء في العلاقات الملتهبة بين تركيا والغرب، ليزيد من فرص أوروبا في تهميش مطالب تركيا بالانضمام إلى الأسرة الأوروبية، وقد جاء تحريك ألمانيا والنمسا وهولندا ملف تضييق الخناق على حكومة أردوغان للوصول إلى الجالية التركية في أوروبا بشأن تعديلات الدستور، كعنصر إضافي يصعب من موقف أنقرة في التحرك نحو أوروبا، وعندما ننظر إلى المسألة في سياق اعتلاء اليمين المتطرف للسلطة في عدد من الدول الأوروبية، فإننا نستطيع الوصول إلى قراءة مستقيمة لنمط هذه التموجات في العلاقة تجاه حكومة أردوغان الموسومة بالأيديولوجية.
ثمة عامل آخر لا يقل أهمية، هو اللعب على ورقة الاستقطاب الداخلي في البيئة السياسية التركية، بحيث تتاح الفرصة لاستدراج العلاقات الثنائية الحساسة إلى الدوائر المفخخة، للاستفادة منها كعامل ضغط للتأثير على عملية التصويت للتعديلات الدستورية، لكن الرواية المقابلة ذلك، تفيد بأن حكومة أردوغان تجيد صناعة الأزمة لجهة الاستفادة منها في تعظيم مكاسبها على الصعيد الشعبي في الداخل والخارج، لا سيما في سياق استثمار هذه الأزمة في حشد التأييد لصالح التعديلات الدستورية، وهو ما تعترف به شخصيات مهمة في حزب العدالة والتنمية والحكومة التركية.
لدى تركيا هدف استراتيجي تتطلع إليه حكومة العدالة والتنمية، والمتمثل في عام 2023، إن وجود تركيا كلاعب أساسي في النظام الدولي، وبين الاقتصادات العشرة العالمية، في ظل حكومة الرجل الواحد، إذا أُقرت التعديلات الدستورية من قبل الشعب التركي، سوف يشكل تحدياً كبيراً لأوروبا عموماً، لا سيما إذا حاولت تركيا استغلال حالة الضعف الإستراتيجي الذي أرخى بظلاله مؤخراً على المنظومة الأوروبية، بعد خروج بريطانيا وانكفاء الدور الفاعل للولايات المتحدة الأمريكية في تفاعلات القارة الأوروبية. من أجل ذلك، إن المحصلة المنطقية لهذا الموقف، أن تستمر أوروبا في تأزيم النسق السياسي مع تركيا، بما يضع حكومة أنقرة أمام منعطف حاسم دائم، على الأقل، حتى تنتهي الحكومة من إجراء التصويت على النظام الرئاسي، ثم سيكون للنتيجة ما بعدها من مفاعيل على مستوى الوضع الداخلي والخارجي، عندها فقط سوف يبني كل طرف على الشيء بمقتضاه.