برلين: محمد عبيد الله
أنقرة (الزمان التركية) – تحولت الحملات الأمنية التي تستمر منذ أربع سنوات ضد حركة الخدمة دون انقطاع إلى اعتقالات جماعية تطال عشرات الآلاف من الأبرياء، في ظل حالة الطوارئ التي أعلنت في تركيا عقب مسرحية الانقلاب الفاشل، والتي لا أحد يعلم متى ستنتهي.
فقد أسفرت حملة أمنية أجريت مؤخرًا عن اعتقال 5 آلاف شخص في يوم واحد فقط، في واقعة لم يسبق لها مثيل في تاريخ تركيا، فيما بلغ إجمالي عدد المعتقلين نحو 150 ألف شخص، والمحبوسين نحو 50 ألفا ما بين رجل وامرأة وشاب وشيخ وطفل.
اعتقالات جماعية دون وقوع أي نوع من المقاومة
لم تشهد تلك الحملات الأمنية أي نوع من المقاومة حتى اللحظة ضد رجال الشرطة الذين ارتكبوا انتهاكات فظيعة لا توصف خلال هذه الحملات؛ فقد اعتقل في ساعات الصباح آلاف من المدرسين والقضاة ومدعي العموم والمهندسين ورجال الأعمال ورجال الشرطة والنساء والطلاب، لكن لم يُقدِم أي منهم على أي مقاومة أو تصرف يتضمن العنف أو يخالف القانون.
وعلى الرغم من أن الحكومة التركية تصف حركة الخدمة بـ”التنظيم الإرهابي”، لكن عدم وقوع أي اعتراض، أو رد فعل يشوبه قدر من المقاومة، في 150 ألف واقعة اعتقال لم يتوافق مع مصطلح “التنظيم الإرهابي”، مما جعل الحكومة تعجز عن إقناع العالم بهذا الوصف.
مقاومة مسرحية بعد الانقلاب المسرحي!
الصورة السلمية “الحقيقية” لحركة الخدمة رغم كل شيء تقض مضجع الرئيس رجب طيب أردوغان، وتحبط كل مزاعمه وأطروحاته قبل عرضها في سوق الأفكار، ما يدفعه إلى التفكير في مؤمرات أخرى يعتقد أنها كفيلة بإزالة هذه الصورة عن الحركة. وفي هذه النقطة بادر أردوغان إلى الاستعانة بـ”محمد آغار”، مدير الأمن العام السابق ووزير الداخلية في تسعينات القرن المنصرم، والذي تلطخ اسمه باغتيالات مشبوهة، والذي زرع طاقمه مجددًا في كل النقاط الحساسة داخل أجهزة الأمن في ظل حالة الطوارئ، وذلك من خلال ذراعه اليمنى سليمان سويلو، وزير الداخلية الحالي.
“طاقم أغار” عُرف بقتل الأكراد والاشتراكيين في التسعينات عقب إدراج أسمائهم ضمن القوائم السوداء، حيث كانوا يضعون في منازلهم أسلحة الكلاشينكوف التي صادروها أصلاً من تنظيم العمال الكردستاني الإرهابي، ومن ثم يداهمون تلك المنازل ويقتلون الأشخاص الموضوعة أسماؤهم في قوائم الاغتيالات بحجة مقاومتهم للقوات الأمنية. تركيا اليوم جديدة في الصورة وقديمة في الروح؛ فالدولة القديمة المحترفة في الحرب النفسية انبعثت مجددًا في “جسد إسلامجي”، وبدأت البلاد تشهد المشاهد التي سبق أن رأيناها في التسعينات من اعتقالات جماعية، واختطاف أشخاص، واقتياد أفراد إلى الغابات واستجوابهم بطريقة غير قانونية، وإلقائهم من شرفات المنازل أثناء الحملات الأمنية، ثم الزعم بأنه حادثة انتحار، فضلاً عن التعذيب الممنهج في السجون الذي دخل الملفات الدولية.
اغتيالات بحجة العثور على الأسلحة
تشير مصادر مطلعة إلى إعداد أردوغان لحملات دموية مفتعلة من هذا القبيل، قبل زيارته إلى أمريكا إن استطاع وسمحت الظروف، أو بعدها إن فشل، وذلك من أجل إطلاق حملة أخرى لتصوير حركة الخدمة “تنظيمًا إرهابيًّا” في الشارع الدولي، بعد أن باءت حملاته السابقة بالفشل. وشهدنا ذلك في ترحيل كل من السعودية وماليزيا مواطنين أتراكًا مرتبطين مع حركة الخدمة إلى تركيا مؤخرًا بشكل مخالف للقوانين، بعد إلصاق تهمة “الانتماء إلى تنظيم داعش” بهم.
ويفيد شهود عيان أن مدنيين مجهولين بدؤوا يتجولون بالسيارات حول منازل أفراد حركة الخدمة الذين لم يتم اعتقالهم إلى الآن ويستكشفون محيط منازلهم. وكتب خلال الأسبوع الماضي أكثر من حساب شهير على موقع تويتر أن مؤامرة دامية تُحاك ضد حركة الخدمة، منها الحساب الشهير باسم “odak noktası”، إذ زعم أن الأجهزة الأمنية ستشن حملة أمنية على منازل لسكان مقربين من الحركة، زرعت فيها المخابرات عناصرها من قبلُ، وخبّأت فيها أسلحة مختلفة الأنواع استخدمتها عناصر حزب العمال الكردستاني الإرهابي، لتقاوم هذه العناصر التابعة للمخابرات القوات الأمنية أثناء عملية المداهمة، حتى تتشكلَ الذريعة المطلوبة لإطلاق النيران عليهم وقتلهم، وإلقاء القبض على بعضهم وفي حوزتهم أسلحة وذخائر. وادعى الحساب أن تلك الأسلحة ستكون الأسلحة التي استخدمها العمال الكردستاني أو عناصر تنظيم داعش في سوريا حتى يمكنَ إقناع العالم بوجود علاقة بين الخدمة والتنظيمات الإرهابية، وأنه تم حتى إبلاغ القنوات الموالية للحكومة بالمؤامرة الدامية الجديدة لتكون مستعدة لنشر أحداث هذه المقاومة المسرحية أثناء الاقتحام الأمني، وذلك رغم أن قوات الأمن لم تعثر حتى اللحظة على “سكين” في العمليات المنفذة ضد الخدمة، ناهيك عن السلاح والقنبلة، بل كل أبناء الحركة من نساء ورجال وأطفال سلموا أنفسهم للسلطات الأمنية طواعية دون أي نوع من مقاومة.
أموال طائلة لإقناع العالم بإرهابية حركة الخدمة
أجل يستعد أردوغان في “الداخل” لمثل هذه المؤامرة الدموية من جانب، ومن جانب آخر، يستأجر شركات “العلاقات العامة” في “الخارج” لتقوم بعملية بي آر (PR) من أجل توجيه الرأي العام لصالحه والأطروحات التي يدافع عنها، وفي مقدمتها إرهابية حركة الخدمة. وفي هذا الإطار، تعاقدت السفارة التركية في واشنطن مع شركة “Burson-Marsteller” التابعة لوكالة “WPP” أكبر وكالات الدعاية والإعلان حول العالم مقابل نحو 1.1 مليون دولار أمريكي، لتدير حملة دعائية قبيل زيارة أردوغان لواشنطن المقررة خلال الأسبوع القادم.
شارة البدء انطلقت من السعودية وماليزيا
رحّلت الحكومة السعودية الأسبوع الماضي 16 مواطنًا تركيًّا مع أفراد عوائلهم إلى تركيا، وذلك بالتهمة التقليدية “الانتماء إلى حركة الخدمة” دون توجيه اتهامات محددة، ومن دون أية محاكمات وإجراءات قانونية، وذلك بعد أن اعتقلتهم في أعقاب عمليةٍ أجريت في 15 من مارس/آذار المنصرم ضد عناصر تابعة لتنظيم داعش، أسفرت عن إلقاء القبض على عدد كبير من المتهمين، بالإضافة إلى المواطنين الأتراك الذين دسّتهم المخابرات التركية ضمن قوائم الداعشيين وسلّمتهم لنظيرتها السعودية.
جاء بعد ذلك مبادرة ماليزيا إلى ترحيل ثلاثة مواطنين أتراك من السلك التعليمي إلى تركيا بالتهمة ذاتها أي “الانتماء لداعش”! – كيف جمعت مخابرات تركيا والسعودية وماليزيا بين داعش والتعليم لا أعلم! -.
غير أن المثير في الحادثتين هو أن هؤلاء الأتراك اعتقلوا في البداية بتهمة “الانتماء إلى تنظيم داعش”، لكن لما فشلت السعودية والماليزية في تقديم أدلة مقنعة على ارتباطهم مع داعش، اضطروا إلى القول “إنهم منتمون إلى منظمة فتح الله غولن التي تعتبرها الحكومة التركية إرهابية”. بمعنى أنها ألقت القبض عليهم بتهمة الانتماء لداعش، ثم تحولت هذه التهمة بين ليلة وضحاها إلى “الانتماء إلى منظمة فتح الله غولن…!”، بحسب تعبير الحكومة التركية.
وهذا يدل إما على أن كلاً من السلطات السعودية والماليزية وقعت – دون علمٍ منها – في الفخ الذي نصبه لها الرئيس أردوغان عبر إدراج أسماء هؤلاء الأتراك ضمن قوائم تنظيم داعش، ومطالبتها بترحيلهم إلى تركيا، بعد عجزه عن إعادتهم بتهمة “الانتماء لمنظمة فتح الله غولن…”، ومن ثم توصلت السلطات السعودية والماليزية إلى حقيقة الأمر، لكنها لم تستطع التراجع عن هذه الخطوة بعد أن تعقدت الأمور لهذه الدرجة؛ أو أن السلطات السعودية والماليزية، أو مجموعة صغيرة متنفذة في هذين البلدين، اتفقت مع أردوغان منذ البداية في إطار مصالح مشتركة، وكانت تعلم أنهم منتمون إلى حركة الخدمة وليس لهم أي صلة بتنظيم داعش، لكنها قالت لوسائل الإعلام إن التهمة الموجهة إليهم هي الانتماء لداعش في بداية العملية، خشية ردود الفعل المحلية والدولية المحتملة، لكن عندما هدأت ردود الفعل وسقط الموضوع من الأجندة، رحلتهم إلى تركيا بتهمة الانتماء إلى منظمة تعتبرها تركيا إرهابية. وهذا جلي في عبارة قائد الشرطة الماليزية خالد أبو بكر “التحقيقات أظهرت تورطهم في نشاطات منظمة فتح الله غولن… وهم مطلوبون من الجانب التركي”.
اختطاف مجمومة من متطوعي حركة الخدمة
وهنا لا بد أن نعيد لأذهانكم اختطاف مجموعة “مجهولة” سبعةً من متطوعي حركة الخدمة، وانقطاع الأخبار عنهم منذ أكثر من شهر. وليس من المستبعد أن تبادر القوات الأمنية إلى قتل أحدٍ من هؤلاء مع أحد عناصر تنظيم داعش أو العمال الكردستاني في المنزل نفسه، مع وضع أسلحة بجانبهم استخدمت في عمليات مشبوهة، للتمكّن من وصف هذه الحركة بالإرهابية. ومن الممكن أن يقتلوا أحد المعلمين التابعين للخدمة جنبًا إلى جنبٍ مع أحد الإرهابيين لكي يتم الربط في أذهان الشارع المحلي والدولي بين الخدمة والإرهابيين.
وكشفت مصادر مطلعة أن أجهزة اللاسلكي الخاصة بالشرطة رصدت مكالمات للقادة الأمنيين يصدرون أوامر لفريق القوات الخاصة بالاستعداد لعملية قادمة، مع التنبيه إلى خطر حدوث مقاومة مسلّحة من الجانب المستهدف. وبعد ذلك شرعت وسائل إعلام موالية للسلطة في نشر أخبار مزورة في هذا الصدد لتوجيه الرأي العام وكأنها تلقت أوامر من جهات معينة.
حظ نجاح المؤامرة الجديدة
وفي ظل الفشل الذريع الذي مني به أردوغان على الساحتين المحلية والدولية في جهوده الرامية إلى تقديم حركة الخدمة مسؤولة عن عملية اغتيال السفير الروسي لدى أنقرة، فإنه يمكن القول: مهما بذل أردوغان من جهود جبارة وأموال هائلة لتغيير “الصورة السلمية” التي نسجها أبناء حركة الخدمة خيطًا خيطًا على مدار خمسين عامًا في الداخل والخارج، إلى “الصورة الإرهابية” التي يريدها لهم أردوغان، فإنها محكوم عليها بأن تبوء بالفشل! ولن يجني من وراء مثل هذه المؤامرة إلا إضافة جريمة جديدة إلى جرائمه التي لا تحصى ولا تعد.