كان لإعادة صياغة بريطانيا لادواتها بالاقليم بعد خروجها من الاتحاد الاوروبي ثم قدوم دونالد ترامب للبيت الابيض ضرورة قصوى، خاصة بعد ما أصاب تلك الادوات من خيبة وفشل بعد ثورة 30 يونيو بمصر، وكما كانت بداية رسم مشروع الشرق الاوسط الجديد أو الكبير بمبادرة لحلف الناتو فى اسطنبول عام 2004 كذلك يتم تجديد الأمر مرة أخرى بعد زيارة رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي لتركيا يوم 28 يناير الماضي بعد زيارتها للولايات المتحدة، فلابديل عن بريطانيا التى خرجت من الاتحاد الاوروبي كدولة كي تعود للعالم كامبراطورية فى الارتكاز على رجل اوروبا المريض الطامح للدخول للاتحاد الاوروبي فى قيادة العالم السني، وبالتزامن كانت رؤية ترامب تتلاقي ايضا مع اردوغان تجاه الملف السوري، خاصة فى تنفيذ فكرة مشروع المناطق الامنة، مع تخوف أردوغان من أن تكون تلك المناطق بداية نشأة الدولة الكردية، وأعتقد بعد تحمس أردوغان مؤخرا للمشروع يبدو أن مايك بومبيو مدير المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) استطاع أن يزيل مخاوف اردوغان تماما.
ولكن يبقى الفرق بين بريطانيا وامريكا هو أن بريطانيا تقود نفسها، وتحركاتها الاخيرة نابعة من عقلية دولة تعيد ترتيب اوراقها فى كل من الشرق الاوسط وافريقيا والقوقاز والبلقان وآسيا، أما من يتمعن جيدا فى تصريحات وتحركات ترامب الخارجية التى اختصرت على دق الإسافين بين موسكو وبكين، او بين طهران وموسكو، او السعي إلى خلق محور يضم كلا من اسرائيل ومصر والسعودية ضد ايران، سيتضح أن من يدير واشنطن قد لا يكون جالسا فى البيت الابيض و لا البنتاجون (وزارة الدفاع الأمريكية) بل ربما يكون فى تل أبيب، ومن هنا تأتى أهمية جولة اردوغان الخليجية الحالية التى بدأت بالبحرين ثم تستكمل بالرياض وتنتهي بالدوحة، وسيكون اساس محور التعاون فيها وتوقيع الاتفاقيات مرتبط بالمجال الامنى والعسكري، وسينصب الحديث السياسي حول الملف السوري، خاصة بعد أن عزم اردوغان ان يوجه رسائل نارية فيما يخص الملف السوري قبل بدء جولته الخليجية بساعات قليلة عبر مؤتمر صحفي باسطنبول، والذى جاء فيه تأكيد اردوغان على ضرورة اقامة مناطق امنة تتراوح مساحتها من 4000كم الى 5000كم، ثم التعامل مع ما يسمى “بالجيش السوري الحر” على انه هو الجيش الوطني النظامي بسوريا، ثم اعلانه مجددا بأن الدور سيأتى على الرقة ومنبج بعد تحرير الباب، وهو التصريح الذى أدلى به مرات وتراجع فيه بعد كل مرة، ولكن يبدو بعد الجولة الخليجية القادمة والاستدارة التركية الواضحة نحو لندن وواشنطن، بأن ذلك التصريح سيكون له فى تلك المرة مذاقا آخر، خاصة وان الطابع الامنى والعسكري سيكون حاضرا بقوة بعد ان التقى ما يقرب من 200 مسؤول من كل من السعودية وتركيا بالاونة الاخيرة للتطلع نحو المشاريع الامنية والعسكرية، ولا ننسى ما قامت به بريطانيا مؤخرا من تغيير جلد الجيش التركي المعتمد بالاساس على المقاتلة الامريكية اف16 بعد ان وقعت بريطانيا مع تركيا اتفاقية تحديث الاسطول الجوى التركي وتزويد تركيا بمقاتلات بريطانية، كذلك طبيعة وشكل التعاون العسكري البريطاني مع الخليج بعد تدشين قاعدة عسكرية لها بالمنامة.
وتبقى هنا العين تنتظر بكل شغف ردود الفعل فى موسكو بعد التحول الاردوغاني المفاجئى لدى البعض، وهو من أثبت أنه شخص سرعته فى المراوغة والمناورة تفوق سرعة الضوء، ولكن الاهم كم سيكون عمر وزمن تلك المناورات والمراوغات، والى أي مدى ستنجح، وكم من الوقت ستستمر؟ وهل حقا موسكو صامتة إلى الآن، أم أن قصف المقاتلات الروسية لبعض عناصر الجيش التركي بمدينة الباب بعد أن كان يفترض أنها تقوم بتغطيتهم جاء كقرصة أذن وليس بالخطأ، وهى الحادثة التى جائت بالتزامن مع تواجد مدير المخابرات الأمريكية مايك بومبيو بتركيا فى أول زيارة خارجية له، وقبل ان يتوجه بومبيو للرياض ويمنح ميدالية “جورج تينت” التى تقدم لاصحاب العمل الاستخباراتى المميز بمجال مكافة الارهاب لولي العهد السعودي ووزير الداخلية محمد بن نايف، بعد أن صرحت موسكو بأنها تتعاون مع تركيا فى الملف السوري على أساس عدم وجود مقترح المناطق الامنة.
حقيقة الامر هي أن التحولات و خريطة التحالفات بالشرق الاوسط بالفترة الاخيرة ترسم وتنهار وتعود مجددا، ثم تتفكك مرة أخرى وبسرعة شديدة، حتى باتت كل القطع تتحرك على رقعة الشطرنج بلا استثناء، ولكن فى ظل سرعة التحرك من يقف الان فى مرمى النيران ومن يقف على أرض صلبة هذا هو الاهم، وهذا ما ستكشفه لنا الايام القادمة.
فادى عيد
الباحث و المحلل السياسى بشؤون الشرق الاوسط