بقلم: عبد الحميد رشيد
غني عن البيان أنّ رئاسة الشؤون الدينية في تركيا اليوم أصبحت مسيّسة أكثر من أي وقت مضى، وباتت تستمع لتعليمات السلطات السياسية أكثر من استجابتها لنصوص الوحي من الكتاب والسنة، لدرجة أنها شمّرت عن ساعديها لتكون مطبلةً متطوعة ضد كل إنسانٍ أو فكرٍ صنّفته السلطة “عدوًا” ثم شنت عليه الهجوم، بل إنها تولت مهمة الاغتيال المعنوي لشخصيات المؤمنين باسم الدين تنفيذًا للأوامر والتعليمات السياسية الصريحة. ولا شكّ أن حملة الدعاية السوداء والحرب العلنية التي تقودها ضد حركة الخدمة، والتي لا نجد لها سببًا مبررًا، تشكّل أحدث وأوضح مثال على هذا.
وذلك على الرغم من أن رئاسة الشؤون الدينية كانت تشارك حتى الوقت القريب، على مستوى رؤساءها ومؤسساتها الأخرى، في كل برنامج نظمّته الخدمة، وتعرب بصوتٍ عالٍ عن ثناءها وتقديرها لفعالياتها، بل بادرت في كثير من الأحيان إلى تبنّي هذه النشاطات الطيبة وتنظيم نشاطات مماثلة لها اقتداءً بها، بحيث غدت إحدى الأطراف المتسابقة في الخيرات، الموقف الذي يستحقّ الإشادة به.
إذن فما هو السبب الذي دفع رئاسة الشؤون الدينية إلى تغيير موقفها المعروف من حركة الخدمة في الآونة الأخيرة، مع أننا نعلم أنها كانت تلتزم حتى فترة قريبة البقاءَ ضمن “المجال الديني” وتتجنّب الخوض في “المجالات السياسية”؛ كما لم تحدث أي مشكلة بينها وبين الخدمة حتى في الأوقات التي حدثت عديدٌ من المشاكل بينها وبين المدارس والجماعات الإسلامية الأخرى، كما أشار إلى ذلك الأستاذُ طيار آلطي كولاتش الذي سبق أن ترأس الشؤون الدينية. وبما أن الخدمة لا تزال في موقفها السابق وعلى خطها المستقيم، بشهادة الفعاليات التي نظمتها قديماً، وتنظمها حاليًا، على مرأى ومسمع من الجميع، فيجوز بل يجب علينا أن نتساءل عن الأسباب التي جعلت رئاسة الشؤون الدينية تقوم بهذا التغيّر الجذري والتبدل الكلّي الحادث في موقفها من هذه الحركة؟
وكما هو حال كثير من الناس، أثار هذا الوضع فضولي، فتتبّعت خطوات الشخصيات التي تشغل في الوقت الراهن مناصب عليا في مؤسسة الشؤون الدينية وتتمتع بصلاحيات وامتيازات كبرى فيها، ثم رأيت ضرورة إعادة النظر في “ماضي” هذا الفريق الذين حوّلوا تلك المؤسسة إلى “مقرّ” خاصّ لهم.
أتتساءلون ماذا كشفتُ؟
فمع أن فريق الإدارة العليا في مؤسسة الشؤون الدينية لا يستنكفون عن سوْق الافتراءات الصارخة ويزعمون أن المنتسبين إلى حركة الخدمة يمارسون “التقية”، و”يبررون لأنفسهم كل الوسائل من أجل الوصول إلى غاياتهم”، إلا أنني كشفت حين أزحت القناع عن “ماضيهم” أن هذه الأساليب المذكورة ليست غريبة عليهم ولا بعيدة عنهم، حيث تبين لي أنهم حصدوا المناصب التي يشغلونها الآن باستخدام الطرق ذاتها التي يذمونها وباحترفية ومهارة أعلى، وانتقلوا من تلونات إلى أخرى منذ البداية في سبيل بلوغ المواقع التي خططوا الوصول إليها.
كيف ذلك؟
لقد تقاطع طريق كلٍّ من محمد جورماز؛ رئيس الشؤون الدينية الحالي، ومحمد أمين أوزفشار؛ أحد نوابه، بنيامين أرول؛ عضو هيئة الشؤون الدينية العليا، في كلية الشريعة (إلهيات) بجامعة أنقرة، وتجمهروا جميعاً حول محمد سعيد خطيب أوغلو، حيث يعتبره كل منهم “أستاذاً” له. وبعد انتهاء الدراسة في الكلية صار كلهم مساعدين لخطيب أوغلو، ومن ثم حصلوا على الماجستير والدكتوراه على يديه. وتوجهوا بعد ذلك إلى مصر، كما أن ثلاثتهم راحوا إلى بريطانيا وأقاموا هناك في التواريخ ذاتها تقريباً.
ولعلكم تتساءلون ما الغرابة في ذلك؟
قبل كل شيء، يتوجب على مؤسسة الشؤون الدينية أن تبدي الحساسية ذاتها التي تبديها تجاه حركة الخدمة بشأن الأفكار البديعة المنحرفة (!) التي يتبنها أستاذهم خطيب أوغلو، حيث إن الأخير لديه أفكار سقيمة مغلوطة جداً حول قضايا “الحديث القدسي” و”الوحي غير المتلوّ” و”معلومات النبي عليه الصلاة والسلام ما عدا الوحي”، و”مدى إمكانية تطبيق آيات الأحكام في عصرنا الراهن” و”دور الصحابة في نقل الدين إلينا”، إلى جانب قضايا مماثلة كثيرة. كما أن خطيب أوغلو يعتبر كلاً من فضل الرحمن الباكستاني ومحمد عابد الجابري المغربي المعروف بأنهما ممثلا الأفكار المخالفة المتطرفة، وعلى رأسها تاريخانية نصوص القرآن الكريم، من الشخصيات البارزة التي سار على نهجها.
ومن الممكن أن تنظروا إلى هذا الاختلاف على أنه مسألة خاصة بين خطيب أوغلو وربّه سبحانه وتعالى، لكن إذا ما ألقينا نظرة ثاقبة في الموضوع فسنرى أن هذا الاختلاف لم يبق مقتصراً على مستوى الأفراد، بل تحول إلى مشروع ممنهج بعد مدة قصيرة تمخض عنه في السنوات المقبلة ما سمي بـ“مدرسة أنقرة” المبتدَعة. ذلك لأن الأستاذ خطيب أوغلو طالب من مساعديه الثلاثة المذكورين بدراسة ثلاثة مواضيع في إطار رسالة الدكتوراه لكل منهم، باتت هذه المواضيع لبنات أساسية لحمل أفكاره المعارضة للتراث الإسلامي إلى الحياة، وإنقاذِها من أن تكون أفكاراً معزولة هامشية، بل مهدت الأرضية لنقل هذه الأفكار بلغة أقوى إلى الآخرين. فمحمد جورماز بدأ يعد رسالة الدكتوراه تحت عنوان “إشكالية الأصول في فهم السنة والحديث” جعل به علم “أصول الفقه” التقليدي المتوارث من لدن عصر السعادة إلى يومنا هذا مفتوحاً للنقاش والشكوك، وقدمه باعتباره تراكماتٍ معرفيةً لم تعد تجدي نفعًا في عصرنا الحاضر. بينما محمد أمين أوزفشار، بوصفه أحد عناصر المشروع ذاته، قام بتطوير منهج جديد يمكِّنهم من فهم الأحاديث وفق أهواءهم، بحيث جعلوا أنفسهم المحور الأساسي في تفسيرها، من خلال رسالة الدكتوراه التي حملت عنوانا “أحاديث الأحكام وأسس تقييمها”. أما مهمة بنيامين أروغان فكانت تختلف قليلاً من مهمة زميلهما، إذ أكمل الماجستير برسالة تحت مسمى “قضية وضع السنة أحكامًا مستقلة عن القرآن الكريم”، ثم شرع بعده الدكتوراه بعنوان “فهم الصحابة للسنة”، حيث استهدف فيه الصحابة الكرام الذين شاهدوا نزول الوحي وتربوا على يدي الرسول عليه الصلاة والسلام وحاول فيه أن يقدّمهم وكأنهم أناس عاديون مثل الناس الآخرين على نحوٍ يخالف منهج التراث الإسلامي. وللأسف الشديد، فإن سبب العداوة للصحابة الكرام المنتشرة في كليات الشريعة في تركيا يعود إلى حد كبير إلى رسالة أرول المذكورة والنشاطات التي قام بها من أجل إثبات أطروحته.
وليس هذا فحسب، بل هناك أكثر من ذلك!
ومع أن هذا الفريق كانوا يجتمعون فيما بينهم حول دار نشر سموها “دار مدرسة أنقرة للنشر”، إلا أنهم وسعوا هذا النطاق وراحوا يشكّلون تيارًا أو تكوّنًا جديدًا من أجل إظهار وإبراز وجهة نظرهم المختلفة هذه. وانطلاقًا من ذلك، أسسوا دار نشر تحت اسم “كتابيات” لطباعة مؤلفاتهم بالدرجة الأولى، ومن ثم طباعة كتب لمؤلفين آخرين يخدمون الهدف نفسه والخطّ عينه من جانب، ومن جانب آخر، أصدروا مجلة باسم “إسلاميات” لكي يمنحوا أفكارهم حيوية دورية منتظمة. وبعبارات إلهامي جولار، فإن “كتابيات” و”إسلاميات” عبارة عن تحالف التوجه الإسلامي الحداثي المتعاطف مع فضل الرحمن، أو قل التوجه التاريخاني، مع التوجه التقليدي الذي يتكون معظمهم ممن يشتغلون بالحديث وعلومه، ويجمع بينهما القاسم المشترك المتمثل في النظرة النقدية للتراث التقليدي. وبعبارة جولار أيضاً، فإن خطيب أوغلو يعتبر بطبيعة الحال رئيس التحرير الفخري لهذه الدار.
وكانت دار كتابيات للنشر ومجلة إسلاميات تعتبر مدرسة خاصة لكثير من الناس الذين يحملون الأفكار نفسها أو أفكاراً مشابهة، من أمثال مصطفى أوزتورك ومحمد باتشاجي وعمر أوزسوي وإلهامي جولار وغيرهم. وتبع هذه المجلة والدار عديدٌ من الندوات والمؤتمرات. وهم بهذه الطريقة حاولوا فتح قنوات ومجالات لترويج أفكارهم فيها من جهة، ووجهوا سهام النقد إلى الأساتذة الذين يُبدون مواقف تقليدية من جهة ثانية، ومضوا يزعزعون أفكار الطلبة الجدد الدارسين في كليات الشريعة من جهة ثالثة.
ولأن حركة الخدمة كانت على دراية بهذا الانحراف الفكري، شرعت في تلك الأيام في تنظيم رحلات من ولاية إلى أخرى، وجمعت طلبتها الجامعيين الدارسين في كليات الشريعة على وجه الخصوص في الندوات والمؤتمرات والاجتماعات في مسعى منها للحيلولة دون انتشار هذه السلبيات. كما طبعت الخدمة في تلك الفترة عديداً من الكتب، وفي مقدمتها “انحرافات فكرية” و”أحداثة أم انحراف؟” للغرض نفسه.
ولقد استمرت نشاطات كل من جورماز وأوزفشار وأرول في دار كتابيات للنشر ومجلة إسلاميات بشكل متزايد حتى تسلّمِ مناصبهم في مؤسسة الشؤون الدينية. ورغم انتقال جورماز إلى كوادر رئاسة الشؤون الدينية إلا أنه ظلّ يشغل منصب رئيس تحرير المجلة لسنة مقبلة أيضًا. وتسلّم هذا المنصب منه أوزفشار بعد انتقال جورماز إلى مؤسسة الشؤون الدينية.
وكان عام 2003 بالنسبة لجورماز فاتحة فترة جديدة؛ إذ كان يتعين عليه أن يضع مسافة بينه وبين تلك الأفكار المنحرفة؛ لكي تترسّخ قدماه في مؤسسة تقليدية مثل مؤسسة الشؤون الدينية التي تتواصل بصورة مستمرة مع عامة الناس. ومنذ ذلك التاريخ أخذ جورماز يغيّر في الظاهر أفكاره المذكورة إلى جانب مظهره الخارجي بحيث غدا رجلًا جادًا ووقورًا من ناحية مظهره وأضحى ممثلاً للفكرة السنية المتمسكة بنصوص الكتاب والسنة بالنواجذ. فضلًا عن ذلك فإن طريق الرئاسة كان منوطاً بموافقة الإرادة السياسية ولم يكن من الممكن أن تحصل أفكارُه القديمة على الموافقة من السلطة الحاكمة. وبعبارة أكثر صراحة فإن جورماز لاحظ جيدًا الطريقَ المؤدي إلى رئاسة الشؤون الدينية بكل جوانبه وهبّ ينشئ الأرصفة لتقوده في نهاية المطاف إلى منشوده.
مع ذلك فإن جورماز لم يبتعد عن مجلة إسلاميات ولم تنقطع علاقاته مع دار كتابيات للنشر. فهو في الحقيقة لم يتراجع عن أفكاره ومواقفه السابقة ولم تقطع أواصره مع زملاءه القدماء حتى رأيناه فيما بعد قد ضمّ كلًا من زميليه أوزفشار (2007) وأرول (2008) إلى كوادر حساسة في المؤسسة.
وما مضى وقت حتى انضمّ محمد باتشاجي من الفريق نفسه إلى صفوف الشؤون الدينية، حيث عين أولًا كمستشار للخدمات الدينية والاجتماعية ضمن السفارة التركية بواشنطن (2008) ثم تسلم عام 2011 منصب رئاسة الشؤون الخارجية لرئاسة الشؤون الدينية. وجدير بالذكر أيضًا أن مصطفى أوزتورك من الفريق ذاته عين عضوًا في هيئة الشؤون الدينية العليا.
ومن الغرابة بمكان أن هذا الفريق الذي يزعمون اليوم أن حركة الخدمة تمارس “التقية” ولها “أهداف سرية”، أخذوا يضعون مسافة بينهم وبين مؤلفاتهم القديمة بعد ذلك اليوم بحيث أغلقوا بهدوء كلًا من مجلة إسلاميات ودار كتابيات للنشر في 2007، ذلك لأن الظروف كانت تتطلب منهم أن يسيروا نحو أهدافهم بخطوات كبيرة.
أتتساءلون لماذا؟
ولكي تفهموا ما أقصده يجب عليكم أن تطلعوا على تصوراتهم وأفكارهم “اللامعة” التي نشروها عبر دار كتابيات ومجلة إسلاميات، وسنحاول ذكر بعض منها قدر المستطاع في السطور القادمة.
إن محمدًا جورماز الذي حرص منذ البداية أن يبقى قريباً من كل المدارس الفكرية، استمر في تطوير علاقاته الحميمة يوماً بيوم مع مجموعة “أولكوجو” (تيار القومية التركية) دون أن يهمل ترصين موقعه لدى “ملّي جوروش” (الفكرة الوطنية التي وضعها الزعيم السياسي الإسلامي نجم الدين أربكان). بل إنه بلغ شأواً بعيداً في هذا الصدد وتمكّن من الانضمام إلى صفوف “جماعة النور” أيضًا، وعقد علاقات متطورة معهم لدرجة أن المنتسبين إليها الذين أقام معهم مدة معينة اعتبروه واحدًا من طلاب “رسائل النور”. ورغم وصوله إلى منصب رئاسة الشؤون الدينية، إلا أن موقف جورماز هذا الذي يغمز للجميع لم يتغير أبدًا حتى السنوات الأخيرة. بل إنه أرسل بنفسه الموسوعة باسم “الإسلام في ضوء الأحاديث” إلى الأستاذ فتح الله غولن في 20.04.2012 وكتب على الصفحة الأولى من الكتاب بخطّ يده الملاحظات التالية: “أتشرف بتقديمي إلى حضراتكم المؤلف المسمى “الإسلام في ضوء الأحاديث – تفسير الأحاديث بالأحاديث” الذي جمع مواضيعه وبوّبها وصنّفها هذا الطالب الفقير لأهل الحديث مع ثلة من العلماء الشباب من خلال الاقتباس من مشكاة الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام، وذلك بهدف اطلاعكم على مضمونه وعرضه على نقدكم باعتباركم شخصية قد بذلت جهودًا جبارة من أجل تنشئة أجيال الإسلام، بما فيهم شخصي العاجز. وبهذه المناسبة أسال الله تعالى لكم عمرًا مديدًا تتنعم فيه بصحة وعافية وأقدم لفضيلتكم أسمى معاني الحب والتقدير”. أضف أنه قد شارك في جميع النشاطات التي نظمتها الخدمة، في مقدمتها مؤتمرات “السراج النبوي ينير درب البشرية الحائرة”، وقام بزيارة مؤسساتها المختلفة، وألقى خطابات حماسية تحتضن جميع من لعبوا دورًا في هذه الخدمات الجليلة، وفي طليعتهم الأستاذ فتح الله غولن.
لكن الحقيقة الجليّة هي أن التيار الصاعد في تركيا كان يتمحور حول حزب العدالة والتنمية الحاكم حالياً، لذلك لاحظنا أن جورماز تخلى في السنوات الأخيرة عن موقفه الذي كان يتماشى مع جميع المدارس الفكرية، وأخذ يقطع وشائجه مع جميع الشرائح التي ظلّ يظهر لها وجهه البشوش حتى اليوم، وذلك بعد أن وقع تحت وطئة لغة السياسة العنيفة. وقد أدرك جورماز أن الطريق الوحيد إلى أخذ مكانته المحورية لدى السلطة السياسية هو أن يستهدف الأطراف التي أعلنتها السطة أعداء. ولما بات توجيه الضربات لحركة الخدمة سلعة رائجة لدى السلطة السياسية، فبدلاً من أن يتخذ جورماز موقفًا معتدلًا انطلاقًا من منظور القرآن الكريم والسنة النبوية، هبّ ليكون “عصا” السياسة، كما وجّه المؤسسة التي يمثلها للعب الدور ذاته وقام بأمور شوّهت صورة مؤسسة الشؤون الدينية أيما تشويه.
والآن لنطرح عليكم هذا السؤال: من هو اللائق بقميص “التقية” الذي يحاول جورماز أن يفصله على حركة الخدمة؟
حسناً، فما هو نمط الفكر الذي يتبناه الفريق المشرف على إدارة مؤسسة الشؤون الدينية؟ وما هي أفكارهم القديمة وما هو موقفهم الحالي؟
لنلخص الموضوع كما يلي:
قبل كل شيئ، هذا الفريق لم يأتِ من فراغ ولم يتكون عشوائيًا، بل هو نتاج حركة جذورها في الأعماق. يبدو أن عجينة هذه الفكرة قد تخمّرت في مجلة البحوث الإسلامية التي رأت النور في ثمانينات القرن الماضي. ومنذ اليوم الأول من صدورها تقع هذه المجلة تحت سيطرة محمد سعيد خطيب أوغلو الذي يتخذه هذا الفريق أستاذًا لأنفسهم. وهو يعتبر من أبرز أساتذة أول كلية شريعة فتحت في تركيا، وكان في الوقت ذاته قريباً لأركان الدولة، وفي مقدمتهم جلال بايار الذي سبق أن شغل منصب رئاسة الجمهورية. وقد تشكّلت اللبنات الأساسية لما يسمى بـ”مدرسة أنقرة” في هذا الإطار في أعقاب فترةٍ استغرقت عشر سنوات. ومحمد جورماز الذي يقول “إني قرّرت أن أكون مساعدًا لخطيب أوغلو وأنا في المرحلة الثانية من الدراسة الجامعية” أدلى بتصريحات لصحيفة “حريت” تحدث فيها عن ذكرياته في تلك الأيام كما يلي: “لقد كنا مجموعة من الأصدقاء وأنشأنا حلقات درس ومجالس علم نتدارس فيما بيننا. ومن هؤلاء الأصدقاء أ.د. محمد أمين أوزفشار الذي أصبح نائب رئيس الشؤون الدينية في الفترة الجديدة. وكنا ذهبنا معًا إلى القاهرة وبريطانيا أيضًا. والصديق الآخر هو بنيامين أرول الذي أضحى اليوم عضو هيئة الشؤون الدينة العليا. كنّا نحضر معًا المحاضرات التي كان يلقيها أ. د. محمد سعيد خطيب أوغلو على طلبة المرحلة الأخيرة في الجامعة”.
ربما تتساءلون ما الغرابة في هذا الأمر؟
أولًا أن خطيب أوغلو أستاذ هذا الفريق يتبنى أفكارًا بديعة ألمعية جدًا (!) من المفترض أن تثير الحساسيات الراهنة (!) لمؤسسة الشؤون الدينية التي فازت بـ”مناقصة إعلان حركة الخدمة من الفرق الضالة”. فعلى سبيل المثال، لا يقبل خطيب أوغلو “الحديث القدسي” الذي يحتل مكانة مهمة في مصطلحات الحديث، ويزعم أن كل “الأحاديث التي يبتدئ فيها الرسول عليه الصلاة والسلام بأن الله تعالى قال…” يجب أن يفهم على أن معناها “يبدو لي أنه من المناسب أن يقول الله في هذا الموضوع ما أذكره”، ويدعي أن هذا النوع من الأحاديث ليست إلا رأي الرسول حول لموضوع المعني يبديه باسم الله تعالى باعتباره أفضلَ من يعرفه.
إن خطيب أوغلو كما يرفض الحديث القدسي، مثلما هو مفهوم من نصه، يزعم أيضًا بعدم وجود الوحي غير المتلوّ، ويدعي أنه عليه الصلاة والسلام استقى معلوماته ما عدا الوحي المنزل من الثقافة السائدة في تلك الفترة. وبحسب رأيه، لا يمكن القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كل ما فعله بأمرٍ ووحيٍ من الله تعالى.
أفكار خطيب أوغلو الألمعية (!) لا تقتصر على ما ذكرنا فقط، حيث يقول إنه كتب إلى رئيس الجمهورية الأسبق سليمان دميرال أنه لا مناص من تعارض آيات الأحكام مع القانون المدني في حال قبول معانيها الحرفية، وأكّد أنه لا يمكن تحقيق المساواة خاصة في مجالات القانون الجنائي والوراثة في حال الاستمرار في الاعتماد على مقولة “لا اجتهاد في مورد النصّ”، وفوق ذلك قال اعتمادًا على ذكرى عاشها مع فضل الرحمن بأنه يجب إعطاء النساء حصة أكثر في هذا القرن. فضلاً عن ذلك فإنه يطلب إهمال الحكم المتعلق بقطع يد السارق في الآية المعنية عند ترجمتها إلى اللغة التركية، مشدّداً على ضرورة إجراء ” إصلاحات” من أجل ممارسة الحقائق الدينية في الواقع المعاش.
وبطبيعة الحال فإن هذا الموضوع لا يبقى عند هذا الحدّ.
فعندما أشرفت البلاد على تسعينات القرن الماضي، أرادت مدرسة أنقرة إعلاء صوتها أكثر، فقامت بترميم الأرضية التي وطئت عليها للمضي قدمًا وبادرت إلى تأسيس دار كتابيات للنشر لتتمكن من طباعة مؤلفاتها، ومجلة إسلاميات للتعبير عن أفكارها بشكل دوري.
وكل من جورماز وأوزفشار وأرول الذين شغلوا مناصب عديدة في دار النشر والمجلة المذكورتين قد تبنّى أفكار أستاذهم خطيب أوغلو منذ أن التقوا به.
وإذا ألقينا نظرة على المؤلفات التي أصدرتها هذه الدار والمقالات التي نشرتها تلك المجلة نكشف أن فضل الرحمن وحسن حنفي ونصر أبو زيد يوجدون ضمن الأسماء التي اعتبرتاها مرجعية أساسية لها.
لكن هناك أمر لافت، وهو أن هؤلاء الثلاثة المذكورة أسماؤهم بصفة خاصة – إن قلنا بمصطلحات كرة القدم – يقودون الكرة حتى أمام المرمى، لكنهم لا يسجّلون الأهداف بأنفسهم، وإنما يمررون الكرة إلى غيرهم ليقوموا بتسديد الكرة إلى الشباك، حيث يحاولون سلوك منهج أكثر اعتدالًا في كتاباتهم الذاتية، أو يتظاهرون هكذا على الأقل بصورة واضحة. لذلك فإن موقفهم هذا يثير شكوكًا – شئنا أم أبينا – في الوقت الذي يفتحون المجال لكل أنواع التحريف والتزييف في المجلة التي يشرفون عليها والتي تضرب التراث العلمي الإسلامي عرض الحائط. فضلًا عن ذلك، فإن المجلة ودار النشر تحوّلتا إلى بؤرتين منذ تأسيسهما تفتحان أبوابهما على مصراعيهما للأسماء التي تستخدم اللغة عينها وتنشر أفكارًا ترفض التراث العلمي الإسلامي تحت ستار “النقد” وكأنها تتكلم باسم المستشرقين.
حسنًا فماذا يقول هؤلاء؟
بحسب رأي هؤلاء، فإن القرآن نص تاريخي، لا يخاطب إلا المجتمع الذي نزل فيه، ويتضمن أحكامًا لا يمكن تطبيقها في الظروف الراهنة. وينظرون إلى الأحكام المتعلقة بالمعاملات خاصة على أنها فقدت قيمتها بحيث لم تعد صالحة للتطبيق. ويزعمون أن الحلّ الإسلامي لا يقتصر على الكتاب والسنة فقط، ويدافعون عن إخضاع كل شيء، بما فيه الأحكام الخاصة، لللتبديل والتغيير.
إنهم يتبنون أفكارًا مغلوطة في القضايا الأساسية، وعلى رأسها تصوراتهم عن الذات الإلهية لربّ العالمين، والرسول عليه الصلاة والسلام، والقرآن الكريم والوحي والملائكة والشفاعة وعصمة الأنبياء وإخبار النبي عن الغيب والصحابة الكرام وغيرها. ومعظمهم لا يؤمنون بالمعنويات والغيبيات، ويتبنون أفكار المستشرقين حتى في القضايا الدينية الجوهرية.
إنهم يتسترون وراء ما يسوقه بعض الصحابة من نقدٍ حول الصحابة الآخرين، بهدف الكشف عن الحقيقة، وينسفون مفهوم “عدل الصحابة” الذي يمثل قاعدة مهمة من حيث عملية “الرواية”. أجل يتسترون وراء نقد عائشة رضي الله عنها لبعض الصحابة ويشنّون الهجوم على الرواة عامة؛ وعلى وجه الخصوص “المكثرين” منهم، ويحاولون خفض مستواهم إلى أناس يلجؤون إلى وضع أحاديث من أجل تقوية آراءهم ومواقفهم.
فهم عازمون على هدم كل ما يمكن أن يقيدهم ويعوقهم من التفسير والتأويل الحرين، فهم يرغبون في بناء وتلميع مناصبهم على أنقاض القيم المتراكمة على مدى 14 قرنًا من الزمن. وهم يعيشون في عالم ضيق ويختزلون كل القيم التي لا يمكن بلوغ أفقها في حدود منظورهم. بل فيهم من يتجاوز حده ليزعم أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو من تقوّل القرآن – حاشا وكلا -.
بحسب رأي بعض منهم، فإن قصص الأنبياء التي ترد في القرآن مزوّرة، وكذلك فإن عملية التجديد التي أحدثها القرآن في المجتمع الذي خاطبه لا تتجاوز نسبتها 20% بحسب زعمهم.
ومعظمهم يرون أن حادثة المعراج عبارة عن خيال، بينما يعتقدون بصحة قصة الغرانيق. ووفق هذه القصة، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام اضطر إلى تقديم تنازلات للمشركين وقام بالثناء على أصنامهم – حاشا وكلا – بل حتى أخذ النبي آيات منسوخة ووضعها في سورة النجم.
وللأسف فإن رئيس الشؤون الدينية محمد جورماز من بين أفراد هذه المجموعة التي لا تستنكف عن وصف منهج أهل السنة بالأرثوذكسية الإسلامية، حيث يقول إن العوائق التي تحول دون الفهم المنهجي للسنة النبوية هي الأحاديث أيضًا، وذلك في مؤلفاته وندواته ومقالاته من قبيل “إشكالية الأصول في فهم السنة والحديث”، و”القضايا الدينية المعاصرة”، و”حول الاقتداء بالرسول ومعنى اتباع السنة”، “إشكالية الدلالة في الأحاديث” وغيرها. وهو يفرق بين الحديث والسنة ثم يغضّ الطرف عن الحديث ويطويه في خضمّ كلام حشو وجدل كثير ويعتبر كل الأحاديث موضوعة باستثناء ما جاء في الأخلاق والعبادات. ويزعم جورماز أن السنة لم تصل إلينا، والاتباع الحرفي للسنة خطأ، كما يتهم الصحابة بوضع أحاديث.
إن الذي قدّم محمد جورماز الذي يقف حاليًا موقف الصقور إزاء حركة الخدمة لكوادر رئاسة الشؤون الدينية هو أ.د. محمد آيدين الذي يعد من الفريق ذاته. وتعود المعية بينما إلى ماضٍ طويل ويلتقي كلاهما على الخط الفكري ذاته في إطار منهج فضل الرحمن خاصة. وانتقال جورماز إلى صفوف الشؤون الدينية يتحقق عندما كان آيدين وزرًا مسؤولًا عن رئاسة الشؤون الدينية. ويقول جورماز عندما يتحدث عن ذكرياته مع آيدين “إن الأستاذ (أي محمد آيدين) جمعَنَا في تلك الليلة في مجمع سكني للشرطة وقال: يا أبنائي، قوموا بإعداد تقرير حول كيف يجب أن تكون مؤسسة الشؤون الدينية في القرن الواحد والعشرين. فنحن بدورنا أعملنا الفكر حول هذا الموضوع على مدار أسبوعين كاملين وقمنا بإعداد التقرير. ثم تبين أني كنت بين الأربعة الذين اختارهم الأستاذ آيدين ليقترحهم على رئيس الجمهورية آنذاك أحمد سيزار من أجل منصب رئاسة الشؤون الدينية”.
بعد انتقاله إلى مؤسسة الشؤون الدينية سعى جورماز إلى إخفاء إفكاره وإجراءاته التي رأى أنها لا تتوافق ورؤية هذه المؤسسة، بل حتى شرع في محوها تماماً، بحيث ينزعج جدًا ممن يذكرون له بتلك الأفكار والأنشطة القديمة، ويتخذ موقفًا صارمًا من الذين يعيدون تلك الأيام إلى أذهان الرأي العام. فعلى سبيل المثال، فتحت رائاسة الشؤون الدينة تحقيقًا إداريًا مع كل من حسن أوزير وجونيش أوزتورك من الأساتذة المخضرمين في المؤسسة ذاتها، وذلك لمجرد أنهما انتقدا أفكار جورماز، فصدر قرار بتنزيل رتبتهما ونقل حسن أوزير من المركز الذي كان يدرّس فيه المرشحين ليكونوا مفتين ووعاظًا إلى سجن مدينة أدانا بوصفه واعظًا، وجونيش أوزتورك إلى سجن مدينة سينوب باعتباره واعظًا أيضًا. (شباط لعام 2016). أما المواضيع التي انتقداها فكانت أفكار جورماز التي ترد في مقالاته ومؤلفاته حول مشكلة الأحاديث الخاصة بالنساء، وأن المرأة يمكنها الصلاة وهي حائض، وأن المرأة المسلمة يمكنها الزواج من رجل غير مسلم، وأن الحجاب يجب النظر إليه على أنه أمر يتعلق بالآدب والأخلاق أكثر من كونه أمرًا قرآنيًا، وأن الأحاديث غير ملزمة ولا تفيد قيمة حتى ولو كانت قطعية الثبوت والنسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم تحصل على موافقة من المجتمع، وأن ما يسمى الوحي غير المتلو ليس وحيًا وإنما هو كلام صادر من محمد البشر، وأن معظم الآيات التي تساق من أجل إثبات حجية السنة لا تتعلق بالسنة أصلًا، والأحاديث التي تقدم لإثبات حجية السنة موضوعة.
لكن الغريب هو أن الأفكار الألمعية (!) التي كانت ترد في صفحات مجلة إسلاميات حين كان كل من جورماز وأوزفشار وأرول يشغل منصب رئيس التحرير أو كان عضوًا في هيئة النشر وما إلى ذلك لا يمكن الوصول إليها في الوقت الراهن!! إذ لا توجد حاليًا لا في تركيا ولا في أوروبا أي نسخة من مجلة إسلاميات. والأغرب من ذلك هو عدم التمكن من الوصول إلى مقالات هذه المجلة حتى عبر موقع مركز البحوث الإسلامية التابع لرائسة الشؤون الدينية، مع أنه يكاد يتضمن كل المقالات المنشورة في تركيا! والأكثر غرابة من ذلك هو أنه لا توجد حتى نسخ رقمية أو بي دي أف أو فودر لهذه المقالات القديمة. وإذا ما تعمقتم في البحث عبر الشبكة العنكبوتية فستحصلون على رقم هاتف لكن الشخص الذي تتكلمون به عند الاتصال بهذا الرقم يغلق الهاتف على وجهكم لمجرد السؤال عن مجلة إسلاميات وهذه المقالات القديمة. وهناك بريد إلكتروني يمكن التواصل عبره والسؤال عن المجلة، لكن الطرف المقابل يكتفي بإرسال رسالة قصيرة مفادها: “لم يبقَ لي أي ارتباط بالموضوع منذ سبع سنوات، فضلًا عن أن نسخ المجلة تم سحبها من الأسواق”.
لقد طلبت من أحد زملائي الذهاب إلى سوق الكتب القديمة لعلي أجد ضالتي هناك! لكن النتيجة كما تتوقعون هي أنه لم يعثر على شيء، رغم أن السوق يمكن أن تجدوا فيه كل ما تريدونه من كتب قديمة. ولما استفسر زميلي سبب عدم وجود المجلة حصل على الجواب ذاته الذي تلقيته عبر البريد الإلكتروني: “جاء البعض يومًا فجمعوا كل نسخ المجلة الموجودة في السوق وراحوا”
لقد تواصلت مع المؤسسات التي تشتغل في هذا المجال عبر الإنترنت، فكان لديها جميع نسخ المجلات الصادرة طيلة العهد الجمهوري، إلا أنه لم تكن هناك حتى نسخة واحدة من مجلة إسلاميات التي واصلت حياة النشر عشر سنوات.
ولا شك أن انسحاب هؤلاء الناس من حياة النشر، مع أنهم كانوا يصدرون ضجة كبيرة كلما صدرت نسخة جديدة من المجلة ويتباهون بها خاصة في أوساط طلبة كليات الشريعة ويوظفونها في تلميع صورتهم ويثيرون عواصفة مخالفة في جميع أنحاء تركيا، وكذلك سعيهم الحثيث بهذه الحساسية لمحو آثار أفكارهم المغلوطة المنحرفة له تفسير واحد فقط ألا وهو أنهم يخافون اليوم أن ينزاح الستار عن الأفكار التي كانوا يضحون بأنفسهم أمس في سبيل نشرها!
وفي الختام نطرح عليكم السؤال التالي: هل عرفتم من هو الذي يمارس التقية على أعلى مستوى أهو حركة الخدمة أم محمد جورماز؟!
الترجمة: يافوز أجار