تقرير: محمد عبيد الله
أنقرة (الزمان التركية) – تستمر التداعيات المختلفة لمحاولة الانقلاب التي شهدتها تركيا في 15 يوليو/ تموز 2016، والتي أسفرت عن مقتل حوالي 250 شخصا، وسجن عشرات الآلاف من المواطنين المدنيين، وفصل آخرين من العمل في المؤسسات الحكومية.
رغم مرور أكثر من نصف عام على محاولة الانقلاب، إلا أن الرئيس رجب طيب أردوغان، لم يقدم تصريحا مقنعا للرأي العام التركي والعالمي حول ملابستها، ومن هو قائد المجلس العسكري ومن هم أعضاؤه. مع ذلك فإن الحرب الإعلامية التي بدأت تشتد حدتها في الشهر الأخير بين إعلام دوغو برينتشاك، زعيم حزب الوطن اليساري المتطرف، والذي يعتبر “المتحدث الرسمي” باسم الدولة العميقة الموصوفة في تركيا بتنظيم “أرجنكون”، الذي يرى نفسه مؤسس الجمهورية التركية الحديثة وحاميها، والإعلام الموالي لأردوغان، تكشف يوما بعد يومٍ الغطاء عن أسرار جديدة حول محاولة الانقلاب، تدل على أن الطرفين، أي مجموعتي أردوغان وأرجنكون، تعاونتا فيما بينهما في حبك انقلاب مصمم على الفشل، وإلقاء الجريمة على حركة الخدمة؛ عدوهما المشترك، لكي تحصلا على الذريعة المطلوبة لإطلاق تصفية شاملة ضد كوادر تزعمان أنها تابعة للحركة.
أسباب عودة الصراع بين أردوغان وأرجنكون
ولما تأكد الطرفان من أنهما تمكنا من القضاء على عدوهما المشترك، استلا سيوفهما هذه المرة من أجل إنهاء “حسابات داخلية” كانت مؤجلة، حيث إن تحالفهما لم يكن يعتمد على قواسم أو مبادئ أيديولوجية مشتركة، وإنما كان قائما على مصالح آنية شتى، وانحلت تلقائيا العقد التي كانت تربطهما بعدما تحققت مصالحهما.
مجموعة أرجنكون ترى أردوغان “مسؤولا سياسيا” عن قضية أرجنكون التي انطلقت في 2007 وحصدت رؤوس نحو 400 قائد عسكري في الجيش، بما فيهم رئيس الأركان العامة آنذاك إيلكار باشبوغ، لأن أردوغان أعلن في شتى المناسبات أنه “المدعي العام المسؤول عن تحقيقات أرجنكون”. وغني عن البيان أن العقلية العسكرية ليست على هذه الدرجة من السذاجة بحيث تنخدع وتقتنع بمقولة أردوغان الشهيرة “حركة الخدمة خدعتنا في قضية أرجنكون”. يعلم أردوغان جيدا نية مجموعة أرجنكون واستعدادها بل تحركها لتوجيه سهامه نحوه مجددا، ويريد أن يتخذ تدابير توفر له “درعا واقيا” يحميه ضدها. بمعنى أن بين الطرفين تهديدات ومخاوف متبادلة، وتسعيان لاستخدام أوراقهما التي تحوزانها على أحسن صورة لكشف عوراتهما وسوآتهما أو سترها. وهذه الظاهرة تؤدي إلى ظهور الخفايا والأسرار التي تحوم حول الانقلاب المحبوك.
مجموعة أرجنكون تضغط على الزر
أخذت مجموعة أرجنكون تكشف رويدا رويدا عن بعض الجوانب المظلمة لمحاولة الانقلاب، من شأنها أن توقع مجموعة أردوغان في مواقف محرجة قبيل الاستفتاء الشعبي على تعديلات النظام الرئاسي، خاصة بعد أن أجلت المحكمة العليا، بأمر أردوغان بطبيعة الحال، حكمها النهائي حول قضية أرجنكون الخاصة بالضباط والجنرالات المتهمين بالانقلاب ضد حكومات أردوغان السابقة. ومع أن أردوغان أجرى تعديلات قانونية أفرجت بموجبها المحكمة عن هؤلاء الضباط والجنرالات، في إطار تحالف عقده الطرفان بعد بدء تحقيقات الفساد والرشوة في 2013، مقابل عمل كل منهما على ستر جرائمهما، عبر اختلاق عدو وهمي سمياه “الكيان الموازي”، واتهماه بنصب مؤامرة ضد العسكر من خلال قضية أرجنكون، ومؤامرة أخرى ضد حكومة أردوغان عن طريق قضية الفساد، إلا أن أردوغان يمسك بيده القرار المذكور كالسيف المسلط عليهم ليضغط عليهم ويدفع عن نفسه شرهم.
وفي هذا السياق، فجر برينتشاك، ممثل أرجنكون، منتصف الشهر الماضي قنبلة من العيار الثقيل، معترفا بصورة علنية أن انقلاب 15 يوليو/ تموز الماضي كان انقلابا مفبركا ومخططا له مسبقا، ما جعل الأنظار تتوجه إلى أردوغان مباشرة. إذ أعلن برينتشاك قائلا “إن نائبي السيد أتيلا أوغور توجه إلى مقر صحيفة “يني شفق” (الموالية لأردوغان) عند الساعة 15:00 قبل وقوع الانقلاب بيوم واحد. وقال للقائمين عليها ’ستشهد البلاد خلال الأيام المقبلة انقلابا‘، مطالبا إياهم بإبلاغ الحكومة”، مع العلم بأن أتيلا أوغور سبق أن أعلن أنه أوصل خبر الانقلاب إلى هذه الصحيفة “قبل أسبوعين من وقوعه” وليس قبل يومين.
صحيفة يني شفق تعترف بمؤامرة الانقلاب
وتأكدت هذه المعلومة عندما اعترف حسين ليك أوغلو في مقاله المنشور يوم الاثنين الماضي (27 شباط) بأن بعض الشخصيات المعروفة بانتمائها لتنظيم أرجنكون أجروا اتصالات هاتفية به في 14 يوليو/ تموز، قبل الانقلاب بيوم، طلبوا منه كتابة خبر عن وجود تحركات مريبة في الجيش حتى يخرج المواطنون إلى الشوارع للمقاومة. وأكد ليك أوغلو أن المتصل به قال له: “مرحبا سيد حسين، إنهم سيقومون بمحاولة انقلاب. لقد أصبح الوقت متأخرا لم يعد بالإمكان القيام بأي شيء لمنعه. يجب نشر خبر لتوعية المواطنين. الشعب فقط من بيده إيقاف هؤلاء الخونة”.
ومن اللافت أن اعتراف صحيفة يني شفق جاء بعد الخبر الذي نشرته صحيفة حريت في 25 من شهر شباط المنصرم والذي ادعى وجود “قلق في رئاسة الأركان”، ما فسره البعض تحذيرا لأردوغان، وهو الأمر الذي دفع كلا من رئيس الوزراء بن علي يلدرم والرئيس أردوغان إلى عقد لقاء مفاجئ مع رئيس الأركان خلوصي أكار، لتؤكد الأطراف على وجود تنسيق بينها وتنفي وجود خلافات في الآراء. لكن نشر هذا الخبر كان كافيا لتقضي المحكمة اليوم الأربعاء (1 مارس) باقتياد رئيس مجموعة شركات دوغان التي تضم صحيفة حريت أيضا آيدين دوغان عنوة إلى الجلسة القادمة للقضية التي يحاكم فيها مع 47 شخصا آخرين بتهمة تهريب الوقود السائل بشكل تنظيمي.
لقاء سري بين رئيسي الأركان والمخابرات قبيل الانقلاب
لكن الحرب الإعلامية بين مجموعتي أرجنكون وأردوغان لم تهدأ، بل كسبت أبعادا أخرى مع الادعاءات التي ساقتها الكاتبة الصحفية ميسر يلديز في مقالها على موقع “أودا تي في” (Odatv) الإخباري اليساري الذي يعد من أهم الوسائل الإعلامية التايعة لأرجنكون حول “لقاء سري” جمع بين رئيس جهاز المخابرات هاكان فيدان ورئيس أركان الجيش خلوصي أكار دام ست ساعات قبل يوم واحد من اندلاع أحداث الانقلاب. وبقاء هذا اللقاء سرا حتى اللحظة، إضافة إلى 6 ساعات ما بين زيارة فيدان المعروفة لمقر رئاسة أركان الجيش وبين اندلاع أحداث الانقلاب الفاشل، يثير الشبهات التي تحوم حول “اليد الحقيقية” التي تقف وراء هذه المحاولة الغادرة التي حولت تركيا إلى جحيم أو سجن مفتوح بسبب اعتقالات عشوائية موسعة بتهمة المشاركة فيها.
وفي الوقت الذي ركز الرأي العام على هذا اللقاء السري، خرج أرجون ديلر، رئيس تحرير صحيفة “تقويم” (Takvim) المقربة لأردوغان علينا مدعيا أن برلمانيا عن حزب العدالة والتنمية الحاكم، يعمل لحساب المخابرات المركزية الأمريكية، بين المخططين للمحاولة الانقلابية، مؤكدا أنه ليس من “منظمة غولن”، واعدا بالكشف عن التفاصيل في الأيام القادمة، وذلك في مقال نشر في 28 شباط 2017 وحمل عنوان “الصندوق الأسود للانقلاب”.
وفي غضون ذلك، كانت تستمر محاكمة الجنود المتهمين بمحاولة اغتيال أردوغان في الفندق الذي كان يقيم فيه ليلة الانقلاب. بعد أن اعترف الجنود بأنهم ينتمون إلى التيار الكمالي القومي العلماني لا إلى حركة الخدمة، كما يزعم أردوغان، وأنهم تعرضوا للخداع والخيانة حيث أمرهم قادتهم بالانتظار 4 ساعات قبل إقلاع طائرتهم نحو فندق أردوغان لكي يعطوا الفرصة له حتى يتمكن من الوصول إلى إسطنبول كالأبطال، طالب النقيب في القوات الخاصة إسماعيل يكيت في الجلسة التي عقدت أمس (28 شباط) بالكشف عن أسماء القادة الذين أمروهم بالتوجه إلى فندق أردوغان رغم أنهم كانوا يعلمون وصوله إلى إسطنبول، ثم طرح السؤال الذي يشكل جوابه المفتاح الذي سيحل لغز الانقلاب الفاشل وهو: لماذا بقى حرس أردوغان في الفندق رغم مغادرته هو إلى إسطنبول؟!
الحقيقة هي أن الاعترافات التي أوردها الكاتب الصحفي راسم أوزان كوتاهيالي في مقاله (27 شباط) بجريدة “الصباح” (Sabah) المقربة من أردوغان كفيلة بإزاحة الستار عن الصورة الكاملة للانقلاب إذ قال “مع أن منظمة فتح الله كولن الإرهابية هي من تقف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة، – على حد زعمه – إلا أنها لم تكن وحيدة، بل إنها كانت خيانة جماعية شارك فيها كل الانقلابيين القدماء في المؤسسة العسكرية أيضا”، معترفا بأن تقديم الخدمة مسؤولة عما حدث ليلة الانقلاب الفاشل كان من أجل إطلاق عملية اختراق أذهان لإعادة تشكيل إدراك الرأي العام: “لكن الحكومة نفذت سياسة مقصودة، وهي واعية بالحقيقة، تمثلت في التركيز على منظمة كولن على وجه الخصوص، والتستر على المجموعات الكمالية الأخرى المشاركة في ارتكاب هذه الخيانة الوطنية، وذلك من أجل تأمين اللحمة الوطنية. وشجعت الشخصيات العلمانية الكمالية اليسارية القومية المتطرفة، جنرالات (أرجنكون) القدماء، على الظهور على الشاشات التلفزيونية للحديث عن محاولة الانقلاب و”منظمة كولن”، وفتحت الأبواب على مصراعيها لكل المجموعات والفئات المعارضة لحركة الخدمة، لأن المسألة لم تكن مسألة حكومة بل مسألة دولة”، على حد تعبيره.
وأخيرا .. نطرح على المعنيين عديدا من التساؤلات التي تقفز حتما إلى الأذهان بعد ظهور معلومات صادمة واعترافات رهيبة تكشف خلفيات ما عاشه الشعب التركي في تلك الليلة المشؤومة لعلهم يجيبون عليها (!):
- لماذا انتظر دوغو برنتشاك 7 أشهر حتى يفصح عما في جعبته حول الانقلاب؟
- لماذا أخفت صحيفة يني شفق علمها بوقوع الانقلاب قبل يومٍ من حدوثه لمدة 7 أشهر؟
- لماذا لم تكشف صحيفة يني شفق الانقلاب عقب علمها به مباشرة، أي في الساعة 15:00 التي جرت فيها المكالمة الهاتفية المذكورة؟
- وما هو نوع التهديد الذي يوجهه برينتشاك إلى أردوغان؟
- لماذا يخبر برينتشاك الصحيفة بالانقلاب بدلا من رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء أو رئيس الأركان أو جهاز الاستخبارات؟
- وما سبب إخفاء الصحيفة مثل هذه المعلومات الحساسة من رئيس الجمهورية أو المسؤولين الآخرين؟
- وإذا تلقى تحذيرات من برينتشاك أو الصحيفة، فلماذا لم يتخذ أردوغان التدابير الأمنية اللازمة في مواجهة الانقلاب قبل حدوثه؟
- وألا يتحمل من تقاعسوا، عمدا أو سهوا، في اتخاذ التدابير قبل 24 ساعة على الأقل من الانقلاب مسؤولية دماء مئات الشهداء الذين سقطوا في الأحداث؟
- وهل جناح “أوراسيا” أو “أفرو-أوراسيا” في الجيش هو من أخرج الدبابات إلى الشوارع في ساعة مبكرة لكي يضع الشعب في مواجهتها؟
- وعلى الرغم من العلم المسبق بالانقلاب .. كيف نجح الانقلابيون في احتجاز رئيس هيئة الأركان وخلوصي أكار كيف توجه بعض القيادات لحضور إحدى حفلات العرس؟
- ولماذا تتجنب النيابة العامة استدعاء برينتشاك ونائبه أتيلا أوغور ومسؤولي صحيفة “يني شفق” للاستماع لأقوالهم حول هذه التصريحات؟
- لماذا اتهم أردوغان حركة الخدمة بالوقوف وراء الانقلاب رغم علمه أن ذلك لا يعكس الحقيقة؟
- هل مجموعة أرجنكون تملك أوراقا مختلفة تضغط بها على أردوغان وتملي عليه تنفيذ مشروع “القضاء على حركة الخدمة”، كما أعلن برينتشاك مئات المرات؟
- هل ستتحول تركيا إلى ساحة صراع بين مجموعتي أردوغان وأرجنكون في الأيام القادمة ومن سينجح في هذا الصراع المتفاقم يوما بيوم؟