بقلم: محمود عبد الرازق جمعة
عزيزي أردوغان…
تحية طيبة، وبعد…
أعلم أنك تُجِيد بعض اللغة العربية، لهذا فسوف أحدّثك بها، وعنها.
في الحروف العربية، وغير العربية، حروف مجهورة وحروف مهموسة. المجهورة هي تلك التي تتحرّك معها الحبال الصوتية، فتشعر عند نطقها أن في الحلق أزيزًا، والمهموسة هي التي لا تتحرّك معها الحبال الصوتية فتشعر بالحلق هادئًا ساكنًا.
انطق مثلًا كلمة “حق”، ستجد معها أن الحلق هادئ، والحبال الصوتية ساكنة تمامًا، لأن حرفَي الحاء والقاف من الحروف المهموسة. وانطق كلمة “باطل”، ستجد معها الأزيز يملأ حلقك ويضايق بلعومك، لأن الباء والألف واللام من الحروف المجهورة… وهذا -ربما- من عبقرية اللغة العربية، لأن الباطل دائمًا يحتاج إلى الجهر والصوت العالي والتشويش كل ما هو دونه، أما الحق فلا يحتاج إلى ذلك، فهو مكتفٍ بكونه حقًّا عن أن يسعى لتأكيد ذلك…
بمناسبة التأكيد، لعلّك تذكر أن مما نؤكّده دائمًا أمرين: أمرًا نشكّ فيه، وأمرًا نَكذِب فيه، فحين يقول لك شخص ما: “أنا متأكد من كذا”، فهذا يعني أنه ليس لديه دليل على هذا الـ”كذا”، وحين يقول لك: “كذا كذا كذا كذا كذا” فهو يكرر الـ”كذا” حتى يجعلك تؤمن به، وهو نفسه لا يؤمن به، ولكنه يسعى لأن يجعلك تؤمن به حتى يستقوي منك بهذا الإيمان، كمن يكذب الكذبة، ومن كثرة ترديده لها يصدّقها.
لكل هذا نجد أن أصحاب الباطل دومًا صوتهم عالٍ، دومًا يحاولون التغطية على صوت الحق برفع صوتهم على أصحاب الحق، تجدهم دومًا يخطبون الخطب الرنانة، يملؤونها بالضجيج والفوضى والتهديدات والشعارات… فهم يعلمون أن الصوت العالي يجذب الرؤوس الفارغة، ويزعج الرؤوس المفكّرة.
لهذا، لكي تضمن أن يكون صوتك مرتفعًا، فقد بدأت بإغلاق كل وسيلة لنقل صوت الحق، أغلقت القنوات الإعلامية الخاصة بالخدمة، أغلقت الصحف المعارضة، كل مجال يمكن فيه أن يظهر صوت يعارضك أغلقته، وكل صاحب قلم يكتب ضدّك اعتقلتَه، حوّلت تركيا الجميلة إلى سجن كبير ترمي فيه كل من يعارضك، فقط حتى لا يظهر إلا صوتك، صوت الباطل.
دليلٌ آخَر على هذا هو مؤيّدوك، فهم في كل مكان ينتهجون نهجك: يصرخون بأعلى أصواتهم، ويكادون يُهلِكون حناجرهم حتى لا يظهر إلا صوتهم، الذي هو صوتك، وحتى لا ينتبه أحد لوجود صوت آخَر منخفض هو صوت الحق والعقل والمنطق، يخافون إن سمعه أحد أن يقتنع به، بل ويخافون إن سمعوه هم أن يقتنعوا به فيكونون مضطرّين إلى أن يعارضوك بدلًا عن انقيادهم وراءك، يخافون أن يتحمّلوا مسؤولية التفكُّر والتدبُّر، فلا شيء أسهل على الإنسان من الانقياد وراء من يتحمّل المسؤولية كلها، أما أن يكون هو مسؤولًا فهذا في غاية الصعوبة.
ولماذا نتعب أنفسنا بالمقارنة بين كلمات وحروف، وبين مؤيّديك ومعارضيك، وبين إعلامك وإعلام المعارضة؟ لماذا لا نقارن بين خطابك وخطاب الأستاذ كولن؟
حين نسمعك في خطبك نلاحظ أنك:
1- ترفع صوتك بقدر ما تستطيع.
2- تستعمل شعارات رنَّانةً.
3- تهدِّد وتتوعَّد.
4- تخبط بكفَّيك على المنصَّة.
5- تؤدِّي بيديك ووجهك أداءً مسرحيًّا رائعًا.
وحين نسمع الأستاذ كولن نلاحظ أنه:
1- هادئ الصوت.
2- يستعمل المنطق والعقل للإقناع.
3- يملأ كلامه بألفاظ المودّة والمحبة.
4- قليل الحركة ولا يكاد يستعمل لغة الجسد.
5- هادئ الوجه مطمئنّ.
أرأيت يا عزيزي أردوغان؟ هذا الفرق يكاد يكون الفرق بين لفظَي “الباطل” و”الحق”، الأول بكل ما فيه من جهر وضجيج، والثاني بكل ما فيه من همس وهدوء.
إن الباطل يحاصرك يا عزيزي، ويملأ عليك نفسَك ولُبَّك، ويملأ على أتباعك حياتهم ويقينهم. لكنني أذكّرك ونفسي بأن كل نَفَس يخرج من صدر الإنسان، لا بد له من نهاية. كل زفير بعده شهيق، وكل شهيق بعده زفير… وسيأتي وقت ينتهي فيه زفيرُك فتُضطَرّ إلى الصمت، وعندها سيظهر صوت الحق، ويكون عاليًا بمنطقه، وعندها ستعمل عقول تَعطَّلَت كثيرًا بسبب ضجيجك… وتدور الدائرة.
عندها سنقول: “حصحص الحق، يا صاحب القسمة الضِّيزَى”.
بالمناسبة، جميع حروف “حصحص الحق” هي حروف مهموسة، وجميع حروف “ضيزى” (أي جائرة) مجهورة.